"لمسة الشر" هو واحد من آخر الأفلام التي صورها أورسون ويلز في أميركا قبل أن يبارحها نهائياً ليعيش ويعمل في أوروبا. وهو حقق هذا الفيلم في عام 1958 راغباً منه في الأساس أن يكون "أفضل فيلم نوار في تاريخ السينما الأميركية". وكما جرت العادة دائماً لن ينظر لا النقاد ولا أهل الاستوديوهات ولا حتى الجمهور الأميركي إلى "لمسة الشر" على أنه هكذا بالفعل. وذلك على رغم أنه كان من قلة من أفلام أميركية من إخراج أورسون ويلز لم يسفر عن كارثة مالية، فهو أدخل ضعفي ما أنفق عليه على أية حال، لكن الترياق أتى كالعادة من أوروبا التي أقبل جمهور نخبتها العريضة على مشاهدة الفيلم، وتدافع نقادها لامتداحه ليصبح الفيلم في نهاية الأمر تراثاً سينمائياً كبيراً إلى درجة أن تم في عام 1993 اختياره للحفظ في السجل الوطني للفيلم بالولايات المتحدة من قبل مكتبة الكونغرس باعتباره "مهماً ثقافياً أو تاريخياً أو جمالياً".
المفتش كوينلان
لكن أورسون ويلز لم يكتف بإخراج الفيلم بل مثل فيه كذلك دور المفتش كوينلان الذي لا ينسى. كما أنه سيكون من يعيد كتابة السيناريو بشكل اقتباس حر عن رواية "شارة الشر" للكاتب وايت ماسترسون (1956). وقد ضم فريق الممثلين إلى جانب ويلز كلاً من تشارلتون هيستون وجانيت لي وأكيم تاميروف إضافة إلى مارلين ديتريش التي رغم نجوميتها الكبرى في ذلك الحين رضيت أن تلعب دوراً ثانوياً في بعض المشاهد لتكون إلى جانب زوجها ويلز. غير أن الأمور لم تكن لا قبل التصوير ولا خلاله ولا حتى بعده على السهولة التي قد توحي بها السطور السابقة أو يوحي به النجاح المعنوي الكبير الذي حققه الفيلم حين عرض في عام إنجازه ضمن العروض السينمائية لمعرض بروكسل العالمي الذي جرى خلاله يومها ذلك الاستفتاء العالمي الضخم حول أعظم الأفلام في تاريخ السينما فاحتسب "لمسة الشر" بين الأفلام المئة الأولى. فالحقيقة دائماً هي أن هوليوود الاستوديوهات في مكان وأهل السينما الحقيقيين في مكان آخر، قد يكون نقيضاً تاماً له.
حماسة نجم
ومهما يكن فحتى قبل دخول أورسون ويلز المعروف عادة بمشاكسته على تقليديي هوليوود، على خط الفيلم، كان هذا يحبل بالمشاكل والصراعات التي رافقته منذ اشترت شركة "يونيفرسال" حقوق رواية "ماسترسون" للاقتباس السينمائي. والحقيقة أن ويلز كان قد غاب عن الساحة الهوليوودية حين اقترح عليه المنتج المنفذ للمشروع ألبرت زوغسميث أن يلعب دوراً في مشروع لتحقيق الفيلم الذي عهد منذ البداية ببطولته إلى شارلتون هستون الذي كان معروفاً يومها بثقافته وسمعته الطيبة التي جعلته مبجلاً من قبل الجمهور الأميركي العريض. وما إن سمع هستون بأن ويلز سيمثل إلى جانبه في الفيلم حتى راح يصر على المنتجين أن يعهدوا إليه أيضاً بإخراج الفيلم كشرط لظهوره هو فيه. وقبل المنتجون بالشرط وتعاقدوا مع ويلز الذي ما إن قرأ الرواية والسيناريو في فترة قياسية حتى اشترط للقبول أن يعيد كتابة السيناريو وتترك له الحرية المطلقة في صياغة المشروع. وإذ سانده هستون في هذا الشرط رضخ المنتجون مرة أخرى، وبدأ التصوير الفعلي، بل بدأ بشكل مندفع وقوي. فويلز الذي اكتفى بأجره كممثل على كل ما سيقوم به في الفيلم، اجتهد في اليوم الأول للتصوير وصور 11 صفحة من السيناريو بسرعة مدهشة لمجرد أن يطمئن المنتجين ويتمكن بعد ذلك من العمل كما يحلو له.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نتيجة مذهلة... سلبياً
ولسوف يكون مما يحلو له أن يحضر زوجته مارلين ديتريش لتؤدي دوراً من دون حتى أن يخطر المنتجين بذلك! ولكن حين انتهى التصوير وشاهد المنتجون وأهل الاستوديو النتيجة ذهلوا. لم يروا على الشاشة ما من شأنه أن يتشابه مع المشروع الذي كانوا يمولونه ويراهنون عليه لخلق نمط سينمائي جديد. ولكن قبل الاستطراد هنا قد يكون من الضروري الحديث عن الفيلم نفسه. فهو يتناول أحداثاً تجري في نقطة ما عند الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، حيث تنفجر قنبلة موقوتة داخل سيارة، مما يسفر عن مقتل رودي لينكار وصديقته راقصة التعري زيتا. وعلى رغم أن التحري الخاص المكسيكي ميغيل فارغاس يمضي شهر عسل مع زوجته الأميركية سوزي فإنه يهتم اهتماماً خاصاً بالتحقيق وفي الأقل حتى وصول السلطات المحلية إلى مكان الحادثة يتبعها نقيب الشرطة كوينلان ومساعده مينزيس. يشير كوينلان ومينزيس إلى تورط سانشيز، الشاب المكسيكي الذي تزوج سراً من ابنة الضحية، مارسيا، باعتباره المشتبه الرئيس. أثناء الاستجواب في شقة سانشيز، يعثر مينزيس على إصبعي ديناميت في صندوق الأحذية الذي وجده فارغاس فارغاً قبل دقائق فقط. يتهم فارغاس كوينلان بزرع الأدلة، ويبدأ في الشك في أنه ربما كان يفعل ذلك لسنوات للمساعدة في كسب الإدانات. يرفض كوينلان ادعاء فارغاس، قائلاً إنه متحيز فقط لصالح المكسيكيين. وهكذا يتحول الفيلم إلى حكايات نفوذ وصراعات بين الأجهزة والأميركيين والمكسيكيين في جملة من دلالات سياسية.
ويلز يضخم سياسياً
والحقيقة أننا على ضوء هذه الأبعاد التي من الواضح أن كتابة ويلز للسيناريو قد ركزت عليها وضخمتها، وتحديداً على حساب الأحداث الإجرامية نفسها التي كانت الرواية الأصلية أكثر اهتماماً بها، يمكننا أن نفهم السبب الذي استثار حماسة أورسون ويلز للاشتغال على الفيلم، وكذلك السبب الرئيس للغضب الذي استبد بالاستوديو الممول، إذ اكتشف أن أمامه فيلماً من شأنه أن يورطه سياسياً في قضايا تفوق الاهتمامات الهوليوودية بكثير. ومع ذلك فإن استبعاد ويلز من الفيلم لم يؤد إلى إحداث تغييرات كثيرة في هذا البعد الذي بات للفيلم على يديه، كما أنه لم يبدل بالطبع من الأسلوب الذي اتبعه ويلز في تصوير مشاهده الرئيسة في الأقل.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا تبعد عنها كثيراً يمكن القول إنه من الصحيح أن "لمسة الشر" أتى في حد ذاته جديداً لا يشبه أي فيلم نوار سبق لهوليوود أن أنتجته، لكن أصحاب المال رأوا في الوقت نفسه أن كل ما في الفيلم لا يمكنه أن يعد بخلق نمط سينمائي جديد يبرر المال الذي أنفقوه حيث من المعروف عادة أن هوليوود لا تجد بأساً في أن يتصرف مخرج حقيقي كما يحلو له طالما أن ما يحققه سيكون فاتحة لتيار أو نمط سينمائي جديد. لكنهم حين شاهدوا الفيلم كما حققه ويلز فهموا بسرعة أنه فيلم لن يكون له شبيه، بالتالي لن يمكن إعادة إنتاجه مرات ومرات بعد ذلك. وكان الحل كالعادة بسيطاً، فهم صرفوا أورسون ويلز كافين يده عن الفيلم ثم تولوا إعادة التوليف بأنفسهم. ولم يأبهوا طبعاً بصراخ أورسون ويلز حين شاهد النتيجة الجديدة التي أسفر عنها اشتغال الاستوديو على إعادة التوليف قائلاً إنه لم ير ما ينم عن اشتغاله على الفيلم "ليس هذا هو الفيلم الذي حققته!" قال غاضباً. وانسحب.
عبقرية فنان
لكن النقاد والجمهور لم يوافقوه على غضبه، ليس لأنهم وافقوا على التغييرات التي "مسخت" الفيلم ككل، بل لأنهم تعرفوا في كل مشهد طويل وفي كل لقطة من لقطات الفيلم إلى ما سموه "عبقرية أورسون ويلز"، متوقفين بخاصة عند المشهد الافتتاحي الذي يبقى حتى اليوم واحداً من أعظم مشاهد الافتتاح في تاريخ السينما. مشهد صور من دون أن تتوقف الكاميرا ثلاث دقائق بكاملها بدءاً من لقطة مكبرة على يد تضبط متفجرة، قبل أن تعلو الكاميرا لنكتشف أن المتفجرة زرعت في محرك سيارة لكي تنفجر لاحقاً. والرائع أن هذه الـ"لاحقاً" لن تكون إلا في آخر المشهد بعد أن ترافق الكاميرا نفسها بطلي الفيلم جانيت لي وتشارلتون هستون وهما يعبران الحدود بالسيارة، في ظل تشويق أخاذ لم يبالغ النقاد المنصفون حين قالوا إن أورسون ويلز أمسك في هذا المشهد متفرجي "فيلمه" من خناقهم ولن يتركهم ولا ثانية حتى كلمة النهاية. فيكون بهذا قد استبق زميله ألفريد هتشكوك في اللجوء إلى مفهوم "إدارة الجمهور والتحكم به" بدلاً من "إدارة الممثلين". ومهما كان من الأمر هنا لا بد من التذكير مرة أخرى بأن النقد الأوروبي والفرنسي كان هو الذي تنبه إلى هذا البعد في فيلم أنكره مخرجه وترك أميركا من بعده غاضباً نحو أوروبا التي وضعت "لمسة الشر" في مكانته الصحيحة ولا تزال تفعل حتى اليوم.