زوج إلهام يصفعها على وجهها أحياناً حين يحتد النقاش بينهما، وزوج منى يذيقها علقة ساخنة حين تمطره بالأسئلة والاتهامات والطلبات عقب عودته من العمل آخر الليل منهكاً، وزوج أميرة فقد عمله بسبب ظروف كورونا ومن وقتها وهو يضربها كلما أظلمت الدنيا في وجهه، أما زوج نرمين، فليس سعيداً في حياته الأسرية والعاطفية ولا يجد مفراً من ضرب نرمين كلما سألته عن سبب تكدره وعبوسه، وأبو أحمد عامل محارة يعمل لما يزيد على 14 ساعة يومياً، يمر على المقهى قبل عودته ليرفه عن نفسه قليلاً فحجران "شيشة" وبعض مما يجود به الأصدقاء من مواد تضبط الكيف، ثم يعود إلى البيت ولا يدري بنفسه إلا وهو يمطر أم أحمد بسيل من السباب وما تيسر من لكمات لأنها تصر على إفساد مزاجه بشكواها المستمرة، أما أبو البراء، فلا يجد مفراً من تهذيب أم البراء وتقويمها بين الحين والآخر بمسواكه حتى تظل الأمور في البيت منضبطة.
المشهد الدموي
ألقت أجهزة الأمن في الإسماعيلية قبل أيام قليلة القبض على زوج مها الذي ضربها ضرباً مبرحاً في يوم الزفاف، ويومها قامت الدنيا في مصر والمنطقة العربية ولم تقعد بعدما سجلت كاميرا هاتف محمول المشهد الدموي واعتقد بعض من الملايين الرابضة أمام شاشات منصات التواصل الاجتماعي أن الزفاف سيلغى وأن الزيجة ستجهض وأن العروس ستنجو بنفسها من هذه البداية الدموية، لكن خاب التوقع حين عاودت "عروس الإسماعيلية" مها محمد (25 سنة) الظهور على الـ"سوشيال ميديا"، لكن هذه المرة في أحضان العريس الذي برر ما فعله بأن "هذا العادي عندنا، ما حدث (تعديه بالضرب على عروسه في الشارع لدى خروجها بفستان الزفاف من الكوافير) ليس جديداً عندنا. العادي أني أضرب بنت عمي أو زوجتي. وحتى لو ليست زوجتي، هي بنت عم ومن حقي أضربها عادي".
ولأنه "عادي" تمت الزيجة التي انتهت بها الحال إلى ضرب مبرح ونزيف وحبس أسابيع وتهديد بتشويه وجه بماء النار وقتل الأقارب، إضافة إلى مساومة على إبرام الطلاق في مقابل سداد 50 ألف جنيه (نحو 2540 دولاراً أميركياً) كلفة حفل الزفاف والتنازل عن كل ممتلكات العروس بما في ذلك ملابسها.
العروس المضروبة
العروس المضروبة والعريس الضارب والعائلتان اللتان تعاملتا مع الضرب باعتباره إما "لحظة غضب" أو "وسواس شيطان" أو أمراً عادياً يقوم به الذكر تجاه إناث الأسرة ربما يمثلون نموذجاً مبالغاً فيه من حيث قبول العنف الممارس من الزوج على الزوجة.
لكن المبالغة لا تعني أنهم استثناء فالقاعدة المتنازع عليها في المجتمع المصري حالياً تدور في معظمها حول حجم الضرب وأداته وأسبابه ومبرره وشرعيته الدينية وإن كان من الأصل سبباً يستدعي طلب الانفصال والطلاق أم أنه "عادي"؟!
محامية مشهورة معروفة بجرأتها ودفاعها عن المرأة صدمت كثيرين قبل أيام بقولها إنها تصر على الحديث المطول مع أي موكلة تأتيها طلباً لرفع قضية طلاق أو خلع على زوجها لأنه ضربها أو شتمها، وتؤكد أن معظم طالبات الطلاق عقب تعرضهن للضرب يهدأن بعد مرور بعض الوقت، وتعود الزوجة ومعها الزوج الذي أطلب منه أن يراعيها وتشير إلى أن كل الأزواج بينهم لحظات حلوة وغيرها مرة لافتة إلى أنها "ليست خرابة بيوت"، لا سيما أن عدداً من الزوجات لا مأوى لهن أو مصدر دخل بعد الطلاق.
ثالوث الطلاق والزواج والضرب
الطلاق والزواج والضرب أو العنف ثالوث مجتمعي يأبى أن يزول. ضاربون ومضروبات وملايين المحيطين تتضارب أقوالهم مع أفعالهم ومعتقداتهم مع اختياراتهم وتتنافر هوامشهم بين مقبول ومرفوض.
رفض ضرب الزوجة أو ممارسة أشكال العنف المختلفة ضدها عبارة ترددها الغالبية بمفردات مختلفة، لكن وقت التطبيق تتسع هوامش التسامح مع التعدي وقبول الإهانة والقسوة تحت تسميات مختلفة أبرزها "ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب".
الزبيب صار محل تجاذب وتناقض فوالد إلهام، الزوجة المتلقية صفعات الزوج كلما احتدم النقاش يدخل في مواجهات عنيفة مع زوج ابنته عقب كل صفعة، ويطالبه إما بالتوقف عن ضرب ابنته أو تطليقها، والجمل التي يرددها الأب لا تخرج عن إطار "الضرب مرفوض" "كرامة ابنتي من كرامتي، لو كررت فعلتك الشنعاء سأحرر محضراً ضدك في الشرطة"، لكن الواقع يشير إلى أن والد إلهام كان دائم التعدي على زوجته والدة إلهام ولم يحدث في مرة أن وجه لنفسه الجمل التي يرددها لزوج ابنته المضروبة والمفارقة أنه عجز عن تقبل ما قبله واقترفه من قبل في حق زوجته.
دائرة العنف المغلقة
دائرة العنف الممارس ضد الزوجات في مصر شبه مغلقة وكلما برزت فكرة كسر الدائرة أو لاح في الأفق توجه لإعادة الكيان المنهوب والكرامة المستلبة للزوجات، سارعت أفكار أعتى وتوجهات أقسى لإعادة إغلاق الدائرة والإبقاء على الزوجة المصرية في خانة التأديب "اللطيف" أو "المبرر" أو "الممسك بتلابيب شرع ربنا"، أو هرعت توجهات تستدعي عادات ذكورية أصيلة وتقاليد منغلقة قديمة بحيث ليس فقط ضرب الزوجة "عادي"، بل ضرب الأنثى في الأسرة عادي ومقبول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتحدث الورطة الكبرى حين تختلط الأفكار المستدعية لتفسيرات بعينها في الدين مع توجهات شائعة في العادات والتقاليد ليتم تقديمها باعتبارها "شرع الله" مختلطاً بالثقافة ذات الخصوصية والمستوجبة الاحترام والتبجيل.
فبدءاً بأستاذ الشريعة الإسلامية في جامعة الأزهر مبروك عطية صاحب "ضوابط الضرب الذي يعد المحطة الأخيرة قبل النصح ثم الهجر في المضجع شرط أن يكون الضرب المتدرج من الهجر في المضجع وأخيراً الضرب بمسواك"، مروراً بأستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية في جامعة الأزهر أحمد كريمة حيث ضوابط ضرب الزوجة محكومة بالوخز بقلم رصاص وليس الصفع أو الركل، وانتهاء بشيخ الأزهر الشريف نفسه أحمد الطيب الذي سبق وقال عام 2019 أن "الدواء الأخير الذي وصفه القرآن الكريم لعلاج نشوز الزوجة هو ضرب الزوج لزوجته المشروط بعدم كسر العظام والإيذاء" مقترحاً المسواك أو "فرشاة الأسنان في هذا الزمان" لا يتوقف رجال الدين عن تأكيد مبدأ الضرب المباح لـ"تأديب" الزوج لزوجته.
الضرب والوخز
أصحاب الأصوات المعارضة والمناهضة لفتح باب الضرب ولو بفرشاة أسنان والوخز ولو بقلم رصاص من قبل من يفترض أنهم يمثلون المؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية عادة يقابلون باتهامات مبطنة بالاعتراض على الدين أو مناهضة رجال الدين.
وكان بين الدين من جهة والثقافة والعادات والتقاليد من جهة أخرى خيط فاصل لكنه صار متصلاً، إذ ارتدت العادات التي تجعل من حق الزوج أن "يؤدب" زوجته بالضرب أو الإهانة والتقاليد التي تدور حول فكرة حماية البيت من الخراب عبر إقناع الزوجة دائماً وأبداً بأن زوجها ربما يخطئ بضربها ولكن "الزوجة العاقلة تغفر وتتغاضى" بهبة التدين المتزمت التي طاولت البلاد منذ سبعينيات القرن الماضي، فأضفت على المرأة وقضاياها صبغة دينية جعلت من الضرب الثقافي حقاً شرعياً.
على سبيل المثال لا الحصر ورد في إحدى القضايا المرفوعة في المحاكم المصرية عام 2008 ضد زوج ضرب زوجته بحزام فيه قطعة معدنية ضرباً أفضى إلى الموت ما يلي، "من المقرر أن التأديب حق للزوج ولكن لا يجوز أن يتعدى الإيذاء الخفيف، فإذا تجاوز الزوج هذا الحد، فأحدث أذى بجسم زوجته كان معاقباً عليه قانوناً. وهناك دليل على تجاوز الزوج حق التأديب المخول له شرعاً وقانوناً في جريمة ضرب أفضى إلى الموت".
التأديب الشرعي
"التأديب المخول له شرعاً وقانوناً" إذاً كان منصوصاً عليه ومعترفاً به في القانون، وما القانون إلا انعكاس للمجتمع. ووفقاً لمسح الكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع الاجتماعي الذي أجراه صندوق الأمم المتحدة للسكان والمجلس القومي للمرأة والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2015، فإن ما لا يقل عن 708 ملايين امرأة مصرية يعانين من جميع أشكال العنف سنوياً، سواء ارتكب على يد الزوج أو الخطيب أو أفراد ذكور في دائرتها المقربة أو من غرباء في الأماكن العامة، كما أن 36 في المئة من المصريات المتزوجات والمتراوحة أعمارهن بين 15 و49 سنة تعرضن للعنف الجسدي منذ كن في عمر الـ15 سنة و64 في المئة ممن تعرضن للعنف الأسري ذكرن أن الزوج هو من يمارس العنف ضدهن.
"عروس الإسماعيلية" التي تملأ صورها بكدماتها وسحجاتها الأثير بعد ثمانية أشهر من العلقة الساخنة التي تلقتها على يد عريسها يوم الزفاف تدور حولها النقاشات والسجالات واختلفت بين مندد بالزوج المتوحش وشامت بالزوجة التي ارتضت الضرب والمهانة يوم زفافها وطلبت من الجميع عدم التدخل بينها و"حبيبها" ومطالب بعدم التدخل بينهما وخراب البيوت مكروه وأنها ربما أغضبت الزوج مما دفعه إلى ضربها ومتعاطف معها لأنها في النهاية ضحية.
ضحية منظومة اجتماعية
الكاتبة سحر الجعارة تقول إن "’عروس الإسماعيلية‘ ضحية منظومة اجتماعية تحتم على الفتاة أن تثبت عذريتها في ليلة الزفاف حتى لو تعرضت للضرب. المنظومة نفسها تنص على أن ضرب الزوج لزوجته جزء لا يتجزأ من الحياة الزوجية وأنه بعد انتهاء الزوج من ضرب زوجته عليها أن تهرع إلى المطبخ لتطبخ له وتنظف البيت وبعد أن تنتهي تسلم له جسدها حتى لا تلعنها الملائكة. وعلقة وراء علقة، تمضي بها الحياة إلى أن تحضر زفاف ابنتها وتقف شاهد عيان على تلقي الابنة للعلقة الأولى. وعليها أن تقوم بدورها المنوط بها وهو المساهمة في قهر ابنتها كما تعرضت هي للقهر"، وتضيف "ألغام من الفكر الديني الغريب المزيف مع عادات وتقاليد رجعية وسلفية تحكم الأغلال حول أعناق النساء".
أعناق النساء تحمل رؤوساً فيها أدمغة تعقل وتفكر وتدبر بطرق مختلفة بحسب التعليم والأسرة والاختيارات المتاحة والثقافة وغيرها، ففي دراسة نوعية أجرتها أستاذة العلوم السياسية رشا منصور ونشرت في دورية "العنف والجندر" (مارس 2021) عن العنف الممارس على أساس النوع الاجتماعي أشارت إلى دراسات سابقة وجدت أن معظم النساء المصريات المتراوحة أعمارهن بين 18 و64 سنة على قناعة بأن من حق الرجل أن يسيطر على حياة النساء في أسرته وتزيد درجة هذه القناعة كلما تقدمت النساء في العمر، وتشير كذلك إلى أن نحو 25 في المئة من النساء لا يجدن غضاضة في تعرض الزوجة للضرب لو فعلت ما يقتضي ضربها.
فتاوى تواجه ثقافة
دار الإفتاء المصرية في الأعوام القليلة الماضية تصدر فتاوى وتجيب عن أسئلة تردها من مواطنين أو عبر وسائل الإعلام مفادها بأن ضرب الزوجة حرام شرعاً.
وعلى رغم ذلك تظل نسبة كبيرة من الزوجات المصريات في مرمى الضرب، سواء بحجة أن الثقافة تتعامل مع "تأديب" الزوجة بالضرب باعتباره أمراً عادياً، أو استناداً إلى تفسيرات دينية ظلت مهيمنة لعقود ونصوص قانونية تعترف بمبدأ التأديب وتفتح باب الضرب "غير المبرح"، لكن ما هو مبرح لبعضهم يعتبره آخرون غير مبرح وما يستحق التأديب في عرف بعضهم ربما يمر مرور الكرام لدى آخرين. وبعيداً من هذا وذاك يتساءل خبثاء، ماذا عن ضرب المرأة المعيلة التي تنفق على أبنائها وزوجها العاطل من العمل؟ هل يمكن ضربها ومن ثم ربما إصابتها إصابة تمنعها من العمل والإنفاق على الزوج العاطل؟
ويتساءل آخرون عن المرأة الوزيرة أو السفيرة أو رئيسة الجامعة أو عميدة الكلية أو مديرة البنك وموقفهن وموقف أزواجهن من مسألة التأديب والضرب.
شبشب أو حزام أو عصا مقشة أو صفعة أو لكمة أو ما تيسر من أدوات يتصادف وجودها في طريق الزوج الراغب في "تأديب" زوجته لن تفرق كثيراً في موقف المجتمع تجاه الضرب لأسباب تمزج الثقافة بالدين، لكن الفرق يكمن في حجم الإصابة ومقدار الكدمات وموقف الزوجة المستقبلي في ما يتعلق بقبول الضرب والإهانة أو رفضهما.