دفعت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها العراق إلى انسداد أفق الجيل الشاب، ما رفع من نسب الانتحار وسط صمت السلطات العراقية التي لم تتوان عن فعل ما يلزم للحد من تلك الظاهرة التي شهدت ارتفاعاً كبيراً بعد عام 2003، وقد أعلن "المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان" في العراق، الخميس الماضي، تسجيل البلاد أعلى نسب انتحار في العام الماضي بمعدل حالتي انتحار يومياً، محدداً ثلاثة أسباب وراء تفشي هذه الظاهرة.
ونقل المكتب الإعلامي للمركز في بيان عن نائب رئيس المركز المحامي حازم الرديني قوله، إن "العراق سجل خلال العام الماضي 772 حالة بمعدل حالتي انتحار يومياً"، مؤكداً "تسجيل 700 محاولة خلال هذا العام لغاية الآن، في حين شهد عام 2020 تسجيل 663 حالة، وفي 2019 سجلت 605 حالات، و530 حالة عام 2018، وفي 2017 سجلت 462 وفي 2016 393 حالة".
وبحسب الرديني، فإن "تزايد هذه الظاهرة يعود إلى تفشي المخدرات والعنف الأسري والبطالة"، مشيراً إلى أن "70 في المئة من الحالات هم دون سن الـ30 وأغلبهم ليس لديهم أي تحصيل دراسي".
وطالب الرديني "الحكومة بمعالجة الأسباب التي أدت إلى تفشي هذه الظاهرة الدخيلة على مجتمعنا من خلال القضاء على المخدرات ومعالجة البطالة والإسراع بتشريع قانون العنف الأسري".
معالجة حقيقية
لكن الباحث العراقي، صالح لفتة، أكد أنه "حتى لا نغالط أنفسنا، فإن عدد حالات الانتحار في العراق تحتاج معالجة حقيقية ومراجعة الأسباب والعوامل الرئيسة، التي تدفع بالإنسان للانتحار، وتزايدها خصوصاً لدى فئة الشباب، ومنها الأوضاع الاقتصادية واليأس من تحسن الأحوال المعيشية والبطالة وقلة فرص العمل، كل هذه الأسباب يمكن معالجتها ما ينعكس إيجاباً على أحوال الناس، ويزيد حبهم للحياة من خلال خلق مبرر يدفعهم للتمسك بالحياة أكثر، وأخرى مرضية يمكن السيطرة عليها بإنشاء مراكز إعادة التأهيل للمرضى النفسيين، الذين لديهم نزعة انتحارية أو قاموا بمحاولة انتحار فاشلة سابقاً".
ويرى لفتة أن القيود الاجتماعية وما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي لهما تأثير في زيادة حالات الانتحار في كل العالم وليس فقط في العراق.
وأضاف "ليست كل الإحصاءات صحيحة ولا يمكن الثقة بمعظمها ولا درجة دقتها، وعلى أي أساس استندت وكيف تمت مقارنتها مع دول العالم المختلفة، التي لا تعطي إحصاءات دقيقة، لكن كل روح تزهق هي خسارة كبيرة، فحتى لو كانت الإحصاءات مبالغ فيها، يجب أن تكون بمثابة تنبيه لأجهزة الحكومة للوقوف على أسبابها".
الوضع الاقتصادي
وللظاهرة دوافع اقتصادية بحسب أستاذ الاقتصاد الدولي، نوار السعدي، الذي أعلن أن أسباب الانتحار عديدة منها اقتصادية متمثلة بالبطالة، وكذلك التعنيف والتفكك الأسري والمخدرات، فضلاً عن الابتزاز الإلكتروني لا سيما لدى الفتيات، وهذه الحالات تدرس من قبل المتخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت إلى أن الكل يعلم أن البطالة والفقر عاملان رئيسان للانتحار، إذ يعاني نحو 30 في المئة من السكان من البطالة، فيما تخطت نسبة الفقر حاجز 31.7 في المئة، بحسب إحصاءات وزارة التخطيط العراقية، والدليل على ذلك هو أن حالات الانتحار تزداد في المحافظات الجنوبية في العراق، فهي الأكثر تضرراً.
وتابع، "صحيح أن هناك دوراً مهماً أيضاً للجانب العشائري والطابع الاجتماعي، لكن الإحصاءات الرسمية لوزارة التخطيط تقول إن محافظات وسط العراق وجنوبه تعاني من معدلات فقر كبيرة، حيث يعيش نصف السكان تقريباً تحت خط الفقر".
بلد نفطي غني!
فالبطالة تعد مشكلة اقتصادية واجتماعية ونفسية وسياسية وأمنية، ولها آثار على الصحة النفسية والجسدية، إذ إن نسبة كبيرة من العاطلين من العمل يفتقدون لتقدير الذات، ويشعرون بالفشل وإنهم أقل من غيرهم. ووجد أن نسبة منهم يسيطر عليهم الملل، وأن يقظتهم العقلية والجسمية منخفضة، وهذه الأسباب كلها تؤدي إلى لجوء الشباب إلى الانتحار.
أما عن الحلول الممكنة بحسب أستاذ الاقتصاد الدولي، فإن معالجة مشكلة البطالة ليست بالأمر المستحيل في بلد نفطي غني بالموارد والإمكانات الاقتصادية مثل العراق، لكن شرط توفر الإرادة الوطنية والتخطيط الصحيح، وقد تدفع الضغوط الأخيرة الحكومة الجديدة إلى التفتيش عن حلول مبتكرة لمعالجة مشكلة البطالة بأبعادها المختلفة، ومن تلك الحلول فتح مكاتب العمل في كل المحافظات بهدف تسجيل إحصاءات دقيقة، حتى يكون لدى الحكومة تصور دقيق عن هؤلاء العاطلين من العمل لمعرفة أي قطاع عمل يجب فتحه، وإعادة النظر في النظام التعليمي بالعراق، ومتطلبات سوق العمل، والحد من تدفق المنتوجات المستوردة التي أدت إلى إقفال كثير من المصانع الوطنية، وأيضاً ضرورة تركيز الحكومات على مشاريع البنى التحتية لدورها في تعجيل البناء والإعمار، وضبط التدفق الكبير من العمالة الأجنبية من خلال التشريعات القانونية والضوابط الإدارية، ومعالجة قانون الضمان الاجتماعي، والحماية الاجتماعية والرعاية الصحية، وتفعيل برامج التدريب والتأهيل للعاطلين من العمل، وتوفير قروض لتأسيس المشاريع المتوسطة والصغيرة، أو منح العاطلين من العمل قروضاً عبر تفعيل مبادرة البنك المركزي لإقراض الشباب.