يثير كتاب "عيون في السماء"، الذي صدر قبل نحو أسبوعين، جدلاً واسعاً في الولايات المتحدة هذه الأيام، ويستحوذ على اهتمام العديد من مراكز البحث والتفكير في واشنطن، التي عقدت ندوات عديدة لمناقشة فحوى الكتاب، والتدقيق في صيحة التحذير التي أطلقها من خطورة التجسس بشكل متواصل على المدنيين، والتعاطي مع مطالب مؤلف الكتاب وَضعَ قواعد تُنظم عمل أحدث نظم المراقبة والتجسس التي ابتكرتها العسكرية الأميركية قبل سنوات، لكنها أصبحت تُستخدم حاليا، حسبما يقول المؤلف، من قِبَل أجهزة أمنية فوق المدن الأميركية لمراقبة المواطنين بشكل سري عبر طائرات مُسيّرة "درون" يمكنها رصد وتصوير وتسجيل آلاف الأهداف المتحركة على امتداد عشرات الكيلومترات المربعة بدقة شديدة في وقت متزامن.
الكتاب الذي ألفه "آرثر هولاند ميشيل"، مؤسس ومدير مركز دراسات الطائرات المُسَيرة في "براد كوليج" بنيويورك، حمل اسم "عيون في السماء، الصعود السري لنظام (غورغن ستَيّر) وكيف سيراقبنا جميعا"، يتناول فيه تاريخ ومستقبل المراقبة والتجسس الجوي، منذ أن بدأ في الحرب العالمية الأولى وكيف تطوّر إلى أن شهد طفرات مذهلة في العصر الحالي، كما يتوقع المؤلف الانعكاسات الخطيرة التي يحملها التطور التكنولوجي مستقبلا في هذا المجال، بخاصة مع تزايد احتمالات قوية بأن تكون قرارات الفعل خلال السنوات المقبلة بيد حواسيب ضخمة وأجهزة كمبيوتر مبرمجة بشكل تلقائي على تحليل نتائج صور الرصد والمراقبة وفهمها، وتوقُع الأحداث قبل وقوعها واتّخاذ القرارات المناسبة بشأنها، ذلك أنه ليس بمقدور البشر مراقبة وتتبّع مئات أو آلاف الأهداف في وقت متزامن والتعامل مع ملفات وبيانات سابقة لكل منها، ومن ثم يعجز العقل البشري عن اتخاذ القرار في الوقت المناسب.
"العدو"... كتاب مفتوح
يبدأ المؤلف في كتابه المكون من 336 صفحة، شرح الأهمية التي أولتها الدول والجيوش للمراقبة من أعلى منذ الوهلة الأولى والتي بدأت بعد اختراع الطيران بسنوات قليلة مطلع القرن العشرين، وكيف أصبحت لكل قوة عسكرية "عيون في السماء" تجعل العدو أشبه بكتاب مفتوح، حيث تتمكن عمليات الاستطلاع من معرفة نقاط قوة وضعف الخصم في ميدان المعركة، وأين تختبئ قواته، بل وتتوقع خطوات العدو المقبلة، لدرجة أن أحد المراسلين الحربيين وصف المعلومات التي تنقلها الكاميرا المعلقة على طائرة الاستطلاع عام 1917 بأنها أكثر فتكاً مما لو تم تحميل وزن الكاميرا بالمتفجرات، في إشارة إلى أن قوة المراقبة الجوية أصبحت تُحدد المنتصر والمهزوم على أرض المعركة.
ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف الصناعات العسكرية حول العالم عن السعي لإنتاج كاميرات تلتقط صورا أكثر دقة، بجودة أفضل، وباتّساع أكبر، لكن التطور الذي شهدته هذه الكاميرات ظل محدودا قياسا بالتطور الثوري الذي شهدته مع بدايات القرن الحادي والعشرين.
فحتى حرب أفغانستان والعراق، كانت معظم الصور التي يحصل عليها البنتاغون ووكالات الاستخبارات الأميركية، مجرد صور ثابتة، بل إن الطيارين في أحدث الطائرات تقدما كانوا يتعرفون إلى أهدافهم من خلال صور مطبوعة "أبيض وأسود" التقطتها الأقمار الصناعية أو طائرات التجسس والاستطلاع، وعلى سبيل المثال، تمكن الطيارون في حرب الخليج عام 1991 من إصابة 75% من الأهداف، وهو ما وصفه قائد عسكري بأنه مستوى لم يتحقق في تاريخ الحروب الجوية من قبل.
تطوير الطائرات المسيّرة
ولكن مع بدايات القرن الحادي والعشرين، لم يعد عدو الولايات المتحدة دولة بعينها، وإنما مجموعات متفرقة من المقاتلين غير النظاميين، تتحرك بشكل دائم وغير متوقع من مكان إلى مكان، بل ومن دولة لأخرى، ولهذا طالب وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، في أبريل (نيسان) 2001 قيادات البنتاغون بتطوير تكنولوجيا المراقبة والتجسس، بحيث تنقل الصور بشكل فوري، الأمر الذي أدى إلى الدفع باتّجاه تسريع برنامج تطوير الطائرات المسيّرة غير المأهولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقتها، لم تكن هناك سوى طائرة واحدة من نوع "بريداتور"، التي كانت قد استُخدمت على نطاق محدود ضد القوات الصربية في يوغوسلافيا السابقة نهاية التسعينيات، لكنها كانت طائرة تجريبية تطير بسرعة 70 ميلا في الساعة ويسهُل إسقاطها، لذا تم تسريع برنامج تطويرها حتى أصبحت قادرة على حمل صواريخ وتنفيذ عمليات تستهدف أشخاصا، ومع ذلك ظلّت هناك مشكلة تواجه الولايات المتحدة تتمثل في أن تقريب صورة الكاميرا باتجاه هدف محدد، يجعل تصوير ورصد ما يُجاور الهدف مستحيلا، وهو أمر ضروري خلال مطاردة عناصر تتحرك على الأرض، فضلا عن أن أجهزة الاستشعار والكاميرات المُركبة على الطائرة لم تكن تتيح سوى رؤية مساحات ضيقة ومحدودة.
ولهذا بدأت القوات الجوية الأميركية عام 2009 تطوير نظام مراقبة جوية وتجسس واسع التغطية يمكن حمله على طائرة "إم كيو 9"، وهي أول طائرة صائدة للأهداف، طويلة المدى، حيث كانت تحمل ما يصل إلى 2 طن من الأسلحة وتحلق بها 14 ساعة متصلة.
أسطورة "غورغن ستَيّر"
بعد ذلك سعى المخططون إلى تطوير أكثر شمولا بحيث تُغطي كاميرات المراقبة مساحات واسعة من ميادين القتال أو مدنا بأكملها، وهكذا تم تصنيع نظام "غورغن ستَيّر" وتسليحه بكاميرات بصرية إليكترونية للعمليات النهارية، وبكاميرات أخرى تعمل بالأشعة تحت الحمراء للعمليات الليلية، الأمر الذي سمح في البداية بتعقب حركة العدو على امتداد مساحة 4 كيلومترات، كما سمح بتسجيل صور الفيديو وتخزينها لمدة 30 يوما، ما أعطى قدرة أكبر على تحليل الصور، وأسهم بقوة في تحقيق نجاحات مذهلة خلال استهداف عناصر وقيادات حركة "طالبان" في أفغانستان.
وفي حين أن "غورغن ستَيّر" في الأسطورة اليونانية هي مخلوقات قادرة على أن تُحوّل الإنسان إلى حَجَر بنظرة واحدة منها، إلا أن نظام المراقبة الجديد لا يفعل ذلك تحديدا، لكنه أصبح، في النسخ المُطورة الأخيرة، قادرا على فعل أشياء كثيرة مذهلة، حيث اتسعت مساحات تغطيته من 4 كيلومترات لتصل إلى 64 كيلو مترا مربعا، كما تضاعفت جودة الصور، وزاد عدد الكاميرات إلى المئات، وتضاعفت جودة صور الفيديو بالأشعة تحت الحمراء مرات عدة، كما تم دمج أجهزة الاستشعار الدقيقة مع معالج كمبيوتر وخطوط بيانات ومعلومات ليصل النظام ككل في النهاية إلى نظام قتالي دقيق جدا يسمح لقيادة العمليات على بعد آلاف الأميال بمتابعة المهام خلال تنفيذها على الهواء مباشرة، بما في ذلك تعقب شخصيات معادية أو السيارات التي تُقِلهُم واستهدافها.
قوة نظام "وامي"
ويقول المؤلف إنه إذا كانت تكنولوجيا المراقبة الجوية عام 1917 أخطر من مادة "تي إن تي" المتفجرة، فإن نظم المراقبة باستخدام الكاميرات الحديثة المطورة تصبح أشبه بقنبلة دمار شامل، ذلك أن نظام المراقبة المعروف باسم "وامي"، وهو اختصار اللغة الإنجليزية من تعبير "التصوير الحركي لمساحات واسعة"، يخلق أشكالاً غير مسبوقة، تتيح مراقبة مدينة بأكملها وتقريب الصور في أي بقعة منها لمتابعة كل حركة، وفي ذات الوقت تصوير ورصد حركات وتصرفات جميع الجيران والسكان، بحيث لا يمكن الفكاك منها، وبالتالي تزداد فرص الإمساك بـ"الأشرار".
وللتدليل على حجم التطور الهائل الذي شهدته هذه التكنولوجيا، ينقل المؤلف عن أحد المديرين التنفيذيين في هذه الصناعة قوله "إن عُشر حجم الكاميرات المستخدمة في نظام (غورغن ستَيّر) يُعد أقوى آلاف المرات من تلك الكاميرات التي تستخدمها طائرات الشرطة وطائرات مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) حاليا".
أيضا تتيح التكنولوجيا الجديدة تصوير 10 ملايين سيارة و100 مليون حدث في وقت متزامن، وبضغطة زرّ واحد يمكن للكمبيوتر أن يحدد المواقع المثيرة للاهتمام على الخريطة لمتابعتها ورصدها.
تجربة "بالتيمور"
وبينما تتزايد الجهود لاستخدام هذه التكنولوجيا من قِبَل أجهزة الشرطة وقوات إنفاذ القانون ومكتب التحقيقات الفيدرالي، أشار المؤلف في كتابه إلى تجربة استخدام هذه التكنولوجيا بشكل سري بالفعل فوق مدينة بالتيمور في ولاية ميريلاند الأميركية على مدى 9 أشهر، حيث تعقب نظام المراقبة 537 هدفا، وتمكّن من تحديد هوية 73 شخصا وسيارة من المشتبه في قيامهم بجرائم في المدينة، بل تمكّن النظام من الكشف عن هوية مرتكب جريمة قتل بعد تحليل الصور والمعلومات، والتي من دونها لظلّ القاتل حراً طليقاً، في حين أن جريمة قتل أخرى لم تتمكن الشرطة من معرفة القاتل، نظرا لعدم تحليق طائرة المراقبة خلال توقيت ارتكاب الجريمة.
كما أظهر برنامج المراقبة فوق بالتيمور أنه شكّل عامل ردع قوي بعد أن تبين للعامة من سكان المدينة أن نظام مراقبة متطور يستطيع أن يكشف تحركات الناس يحلق بانتظام فوق رؤوسهم، حيث تراجع معدل جرائم إطلاق النار من ست حوادث أسبوعيا إلى حادثة واحدة فقط.
لكن ردّة الفعل على استخدام تكنولوجيا نظام المراقبة المتطور فوق بالتيمور كانت سلبية للغاية وأدت إلى وقف برنامج المراقبة من قبل سلطات المدينة الغاضبة بسبب انتهاك خصوصية المواطنين.
الخصوصية وتساؤلات المستقبل
ويثير الكاتب تساؤلات حول ما قد يحمله المستقبل القريب، حيث ستكون المدن الكبرى في الولايات المتحدة وغيرها من دول العالم تعيش تحت عيون مراقبة لا يغمض لها جفن، بخاصة وأن معامل البحث والتطوير ووكالات الاستخبارات والشركات الخاصة في أميركا تعمل بشكل متسارع على تطوير أجيال أحدث من تكنولوجيا المراقبة والتجسس صُممت خصيصا لتغطية مساحات أوسع مجالا وأكثر دقة، كما أن النظم الأحدث ستكون أرخص سعرا، وأخفّ وزناً، وأكثر سرعة، وأعلى كفاءة.
والأهم من كل ذلك أن النظم الأحدث التي يُجرى بناؤها الآن ستكون أقوى من النظم الحالية وأكثر ذكاء، حيث ستصبح آلية بالكامل في عملها، بمعنى أنها ستقوم بالمراقبة والتجسس نيابة عن البشر الذين لن يتمكنوا من ملاحقتها، وحينئذ سوف تتوقع الأحداث قبل وقوعها وقد تتدخل لمنعها، فحينما تكون الكاميرات وأجهزة الكمبيوتر مندمجة ومتداخلة ومتفاعلة مع نظم المراقبة والتجسس الأخرى التي تُطبقها الأجهزة الأمنية حاليا على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن المحصلة ستصل إلى آفاق بعيدة لا حدود لها.
ولهذا السبب أطلق مؤلف الكتاب صيحة تحذير، فإذا كان هذا النظام قد استُخدم بكفاءة في مراحله الأولى في أفغانستان والعراق وغيرها لاستهداف إرهابيين ولإنقاذ أرواح أبرياء، فإن توظيف هذه التكنولوجيا التجسسية فوق المدن الأميركية، وهو ما يؤكد المؤلف تفعيله بشكل سري، سيصبح أسوأ كابوس وتهديدا غير مسبوق على حرية وخصوصية الأميركيين، كما لو أن دائرة تلفزيونية مغلقة تحلق فوق رؤوسهم.
آراء متباينة
وعلى الرغم من الاتفاق على المزايا التي يمكن لنظام المراقبة والتجسس أن يقدمها للمجتمع من مكافحة الجريمة وإطفاء الحرائق ومراقبة الكوارث الطبيعية والتخفيف من الأزمات المرورية، إلا أن هناك خطّاً رفيعاً يفصل بين الاستخدامات الإيجابية، وبين المصيدة التي تمثلها عيون المراقبة في السماء، والتي تجعلها غير متوافقة مع مبادئ الحريات المدنية، بخاصة إذا كان مَن يقوم بالمراقبة والرصد هو جهاز كمبيوتر متطور.
وفيما يشير مؤلف الكتاب إلى أن عدداً من المهندسين المبتكرين لنظم المراقبة يشعرون بالندم على إسهامهم في خروج هذه التكنولوجيا إلى الحياة، إلا أن آخرين يعتبرون أن التخلي عن هذه التكنولوجيا الخطيرة يُعد بمثابة انسحاب من المستقبل.
ولهذا فإن المدافعين عن نظم التجسس والمراقبة الذين لا ينكرون مخاطرها الهائلة على حياة البشر، يرون أن هناك ضرورة ملحة للتوافق على وضع قواعد تُنظم عمل هذه التكنولوجيا الخطيرة، بحيث تضمن الحفاظ على الخصوصية والحرية التي نصّت عليها القوانين.