من الفلاسفة والكتاب نفر قليل يختبر بنفسه، وباللحم الحي كما يقال، الأفكار والتصورات والوقائع الجديدة التي يسطرها في كتاباته ودروسه، حتى الموت بمفاعيلها. ولعل ميشال فوكو (1926-1984)، واحد من الفلاسفة الغربيين الذين أدخلوا مفاهيم ومصطلحات إلى علم النفس والاجتماع والتاريخ، باتت مفاتيح لازمة للمعرفة في العالم المعاصر، بالقرن الحادي والعشرين.
ولمناسبة صدور الترجمة العربية لكتاب الفيلسوف ميشال فوكو بعنوان "المجتمع العقابي، دروس ألقيت في الكوليج دو فرانس"، عن دار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2022)، وترجمة الأكاديمي نصير مروة، يتعين على القارئ أن يعاود التذكير بأهم الأفكار والخلاصات التي انتهى إليها الفيلسوف لدى تفحصه المدونات القانونية والطبية والحكومية العائدة إلى القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. ولعل هذا الأمر هو مفتتح الإنجازات والكشوفات، إذ قلما نظر العلماء، قبله، والعامة كذلك، إلى سجلات المؤسسات فيه نظرة تفحص وتأمل وتعمق، بغية الإحاطة بماض قريب أو بعيد، والاعتبار من نواقصه ومآسيه، والتمهيد لفهم واقعه وزمنه المعاصر.
قضايا العصر
ولكن هل كان يؤمل من ميشال فوكو، المنتمي إلى جماعة اليسار الملتزم في فرنسا في حينه، والأكاديمي المنخرط في قضايا عصره، إلى جانب جان بول سارتر وجيل دلوز وجاك لاكان وجان جينيه المسرحي والأديب، أن يكون إلى جانب السلطة، وقد شارك بقوة في فعاليات الانتفاضة الطلابية بباريس لعام 1968؟ بيد أنه اختار السبيل الأنجع في فضح طبقة المستغلين، محتكري السلطة والثروة، بالكشف عن بنى تفكيرهم، وتفكيك الروابط العتيقة التي كانت لا تزال قائمة بين ممثلي القوى ذات المصالح في الدولة والمجتمع، عبر ظواهرهما الأكثر بروزاً، سواء في التعاطي أو في المعالجة والسيطرة والقمع، عنيت بها: الجنون، والجنس، والعقاب والسجون، وغيرها.
المهم في هذا الكتاب، وفي دروسه الثلاثة عشر التي ألقاها تباعاً الفيلسوف ميشال فوكو، على مدى السنتين (1972-1973) في الكوليج دو فرانس، أن عالم الاجتماع والنفس راح يكشف في كل منها عن مفارقة أو ظاهرة ما كانت لتبرز بهذا الجلاء لغيره، ليس بفضل علومه ومعارفه الكثيرة التي حصلها منذ فتوته فحسب، بل أيضاً بفضل نفاذ بصيرته، وإعمال شكه في صور الواقع التي كانت تحملها السجلات المكتوبة التي باتت المصدر الأساس لقراءاته النفاذة، لا كتب التاريخ التقليدية والمبسطة. ولعل أهم دافع من كل هذه هو التزامه الشخصي الدفاع عن المهمشين والمعدمين والعمال المجردين من أدنى حقوقهم، والمصابين بأمراض نفسية تتراوح حدة، وقد نالوا بها عقوبات مريرة، والمولودين بميول جنسية غير تقليدية (المثليين) شأن الفيلسوف، والذين ذهبت بهم ميولهم أقصى مبلغ، إلى الموت بمرض السيدا.
في الدرس الأول الذي ألقي في 3 يناير (كانون الثاني) عام 1973، يبدأ الفيلسوف بعرض فرضية مفادها أنه في القرنين التاسع عشر والعشرين كان رائجاً تصنيف للمجتمعات إلى فئتين: "أولى تحرق الموتى وتحيلهم رماداً، وثانية تواريهم الثرى". (ص:29). ومن ثم مضى، في ما أبرزه من وقائع مستمدة من درس الوثائق التاريخية والاقتصادية للقرنين الماضيين، دحضاً للمقولة السابقة، فيستخرج منها أربعة تكتيكات في تعامل المجتمعات، في حينه، مع كل من المجانين والمدانين بأعمال جرمية والمشردين الذين باتوا بلا مأوى. أول التكتيكات الإقصاء، وهو تكتيك عقابي يفضي إلى طرد المعني أو حظر وجوده في أماكن الجماعة السوية -بحسبهم- والتكتيك الثاني هو فرض تعويض مادي في حال خرقه القاعدة المعمول بها في المكان، والثالث هو وسم الشخص بغية تمييزه عن سائر الناس، إما بقطع يده (حال السرقة) وإما بإحداث ندبة في جسمه، وإلحاق تدنيس رمزي باسمه في ما يشبه الأثر الذي لا يمحى، أما التكتيك الرابع فهو الحبس (السجن) الذي يخبرنا فوكو بأنه لم يكن خياراً ولا إجراء معمولاً به في الغرب إلا منذ أواخر القرن الثامن عشر، وقد يترافق مع هذا الإجراء مصادرة أموال السجين المنقولة وغير المنقولة.
الحراك عقد إجتماعي
وفي ختام تحليله الفريد، يستخلص فوكو في شأن حراك الجماعات داخل مجتمع ينظم شؤونه عقد اجتماعي، أنه كناية عن حرب أهلية يكون فيها الكل ضد الكل، السلطة ضد المجتمع، والعكس صحيح، وتكون العقوبة تمثيلها الأفضل.
وفي الدرس الثاني، الملقى في 10 يناير عام 1973، يتوسع فوكو في مفهومه للحرب الأهلية، بناءً على مراجعته الوقائع من عام 1825 إلى عام 1848، أي الحقبة التي رسم فيها "قانون التحقيق الجنائي" في فرنسا، فيتبين له أن الحرب الفعلية كانت "حرب الأغنياء ضد الفقراء، حرب من يملكون ضد من لا يملكون شيئاً، حرب أرباب العمل ضد البروليتاريين". (ص:54). كما اتضح له أن القوانين الاجتماعية صاغها القوم الذين لا تمسهم بشيء، لأنها صيغت لكي تطبق على من لم يصنعوها. وأن الجهاز القضائي تحول إلى جهاز رقابي، وأن السجن هو السبيل إلى تحقق الفعل الرقابي على من خرق القانون، وكان من خارج الفئة صاحبة المصلحة فيه.
إلى أن ينهي الدرس بفكرة مفادها أن ثمة أبعاداً ثلاثة، هي المجد والارتياب والمنافسة، تحرك الأفراد والجماعات، وتكون في أصل الحرب الكونية، حرب الكل ضد الكل. وأن الحرب هذه لا تضع أوزارها إلا بظهور النظام المدني الذي يعيد الاعتبار لصاحب سلطة فرد (سيد)، وأن تحلل سلطته يؤول حكماً إلى الحرب الأهلية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الأحد عشر درساً الباقية، سوف يتناول فوكو عديداً من الظواهر التي استخلصها من الوثائق والسجلات التاريخية (مذكرة حول المتشردين في فرنسا والعائدة إلى عام 1764)، مثل النظر إلى المشردين على أنهم أعداء للمجتمع ومجرمون إلى حد ما ينبغي عزلهم، في مقابل اعتبار العامل دليلاً على سويته. ولما رأت الدولة استفحال ظاهرة المشردين، المنظور إليهم على هذه الصورة، عملت على استعبادهم، ولا سيما الممتنعون عن العمل، وجعلت تسخرهم في عمل المناجم، وفي كل ما تراه مناسباً. وما رواية جيل بلاس لمؤلفها آلان رينيه لوساج، سوى سجل حافل لجماعات المشردين في أوروبا القرن السابع عشر، وللصراعات وعمليات الإجرام التي شهدتها البلاد على أيديهم، وتوالي الحرب والموت والجنوح.
كما يتناول عقوبة الإعدام، وكيف يتحول المجرم إلى عدو اجتماعي، ثم كيف تحولت عقوبة الإعدام في المجتمعات والدول المتقدمة إلى أنظمة سجنية متراوحة الشدة. ومن ثم يتطرق إلى مسألة السجن للإصلاح، ونشوء الشرطة من نازع جماعي إلى ضبط الأفراد والجماعات أخلاقياً واجتماعياً، والشرعية واللاشرعية الفلاحية، وظهور الرأسمالية ونشوء تحديات جديدة، وإخضاع الطبقات العاملة، في القرن التاسع عشر، إلى أنظمة شبه عسكرية وتسخيرها لخدمة أرباب الصناعة بلا أجر، وغيرها من الدروس التي يستسيغ القارئ العادي متابعتها وفهم أفكار المحلل الفيلسوف فوكو، بأقل قدر من الجهد والتأمل، وذلك للتبسيط الشديد الذي أجراه الأخير سواء على منهجه، ومصطلحاته، ولغته الدقيقة والقابضة على الحقائق من دون تزييف أو بلاغة زائدة.
وهنا، يجدر بالقارئ أن ينوه بالترجمة المتقنة والأمينة إلى العربية التي أداها الكاتب نصير مروة، فجعل المرجع متاحاً للباحثين في فكر فوكو الذي اعتبره البعض أوسع الأفكار انتشاراً وتداولاً في العالم، إلى فكرة المجتمع العقابي، من مثل تاريخ الجنون، وحفريات المعرفة، والكلمات والأشياء، وغيرها.