عاودت آثار رفع الدعم عن الدواء والحليب بالظهور في لبنان دفعة واحدة، لتضع صحة المواطن العادي على المحك، فخلال الأسبوع الماضي، بدأ الحديث عن توقف عمليات تسليم الدواء، وإمكانية انقطاعه خلال أيام قليلة.
ويكمن لب المشكلة في التفاوت الكبير في سعر صرف الدولار في السوق الحرة من جهة، ومن جهة أخرى ندرة المبالغ التي يؤمنها مصرف لبنان لدعم ما تبقى من الأدوية وحليب الرضع، حيث تحظى فئات محدودة بالدعم مثل مرضى السرطان.
وجاء تدخل وزارة الصحة لفرض مؤشر أسبوعي للأسعار كحل موقت لتلبية مطلب الصيادلة، لتقليل خسارتهم من ارتفاع سعر صرف الدولار.
في المقابل، تزداد شكوى المواطن اللبناني من الارتفاع المستمر والمفاجئ لبعض الأدوية الأساسية، مما يدفعهم إلى الامتناع عن شراء الأدوية، وأحياناً تقنين استخدامها وتقليل الجرعة اليومية بخطوة فردية على خلاف الوصفة الطبية.
"عفواً" الدواء مقطوع
في المرحلة السابقة لرفع الدعم راجت مقولة أنه "على غرار باقي السلع، عند رفع الدعم عن السلع الأساسية، سيتمكن اللبناني من العثور عليها بكميات كافية في السوق والمتاجر"، لكن الأمر لم يتحقق في موضوع الدواء وحليب الأطفال.
كما راج التداول بالدواء الموازي، البديل أو المصنع محلياً، فيما ظهرت سوق موازية من خلال استيراد الأدوية بالشنطة، حيث بدأ المواطن بمطالبة أقاربه المغتربين بإرسال بعض الأدوية المقطوعة، أو شرائها من خلال بعض الجهات الموجودة في بعض الدول المجاورة على غرار سوريا وتركيا على أن تؤمن خدمة التوصيل إلى لبنان.
ودفعت الحاجة الملحة إلى الدواء باللبناني إلى التغاضي عن بعض شروط الأمان والسلامة، فالمهم هو الحصول على جرعة الدواء للأمراض المستعصية والمزمنة.
تروي السيدة نهاد أنها "تحتاج إلى دواء مزمن طلبت من أحد أقاربها تأمين عدة علب من تركيا، كما أنها تتواصل مع آخرين في أستراليا من أجل تأمين جرعة احتياطية"، موضحة "كنت أحصل على دواء آخر للضغط من خلال بعض المراكز الاجتماعية، لكن مع ارتفاع الأسعار توقفت المستوصفات عن تأمينه".
الصيدليات ليست في أفضل حال
وخلال جولة على بعض الصيدليات في أماكن مختلفة، أجمع الصيادلة على أن "سوق الدواء في أسوأ حالاتها"، ويأتي التشخيص على لسان أحدهم "لقد تضاعف ثمن الدواء المصنوع محلياً ثلاثة أضعاف، لكن يبقى أرخص من الدواء الأصلي، وهو بديل موقت آمن للماركات العالمية"، "أما الحليب فهو الأسوأ على الإطلاق، ولن يتم تسليم الصيدليات علباً إضافية إلا في فترة ما بعد عطلة رأس السنة الميلادية".
يقر الصيادلة بمعاناة يتشاطرونها مع المرضى بسبب اختلاف سعر صرف الدولار، وهو أمر يتسبب في الخسارة لهم، كلما ارتفع مقابل المؤشر المفروض الالتزام به رسمياً.
يقول الصيدلي هاني "يتآكل الستوك، المخزون في المستودع لدينا على سعر 41 ألف ليرة، فيما الدولار الحر 45 ألفاً، فبعض الأدوية بعناها على سعر 350 ألف ليرة خلال الأسبوع الماضي، وعندما جاء مندوب الشركة أبلغنا بأن رأسمال القطعة هو 400 ألف ليرة لبنانية، بالتالي فإننا نضطر إلى دفع مبالغ إضافية من جيبنا للحصول على دواء جديد"، مضيفاً "بتنا في كل يوم نعيش حالة من الجدل مع الزبون بسبب عدم استقرار الأسعار".
معاناة حليب الأطفال
تتسع رقعة المعاناة في ميدان حليب الرضع، وتشكو إحدى الأمهات أن وليدها الحديث يحتاج إلى علبة حليب كل ثلاثة أيام، لأن جسمه لم يتقبل الرضاعة الطبيعية، وهي تحتاج في الحد الأدنى إلى علبتين أسبوعياً، وعندما توجهت إلى الصيدليات لطلب العلبة رقم 1 المدعومة بسعر 155 ألف ليرة لبنانية، كان الجواب أنها مقطوعة، وتوجد غير مدعومة بـ385 ألف ليرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا تتوقف معاناة الأهل عند الحليب، إذ تشكو أم أخرى أن كلفة "رشح الطفل" باتت تكلف بالملايين، فعلبة المضاد الحيوي المتوفر في الصيدليات بـ300 ألف ليرة، والدواء الخافض للحرارة بـ110 آلاف ليرة.
وتقدم إحدى الصيدليات مثالاً حسياً لشرح الصعوبات الراهنة، في حالة الإسهال تبلغ الكلفة المتوسطة للدواء 600 ألف ليرة لبنانية، هي ثمن ثلاثة أدوية ملحة ورائجة الاستعمال، أما في حال وجود حرارة والتهابات هناك حاجة إلى دواء إضافي بـ600 ألف ليرة، إضافة إلى ثمن الحليب، والحفاضات التي تتراوح بين 250 و300 ألف ليرة لبنانية، ناهيك بكشفية الطبيب".
شكوى التهريب
تتكرر صرخة نقابة الصيادلة في لبنان بين الفينة والأخرى. وقال النقيب جو سلوم "لا نعيش أزمة توريد بين الصيدليات والمستوردين، وإنما نحن أمام أزمة دواء بسبب عدم توفر الأموال الكافية لاستيراد الحليب والأدوية المدعومة جزئياً".
وأضاف أن "السوق تأثرت بسبب العلاقة بين الشركات المستوردة في الداخل والشركات المنتجة بالخارج، وتأخير دفع الفواتير بسبب الأموال العالقة".
ونبه سلوم عبر "اندبندنت عربية" إلى أن "لبنان لم يعد أولوية لدى الشركات المنتجة للدواء في الخارج بسبب رفع الدعم"، كما يتطرق إلى أثر ارتفاع سعر صرف الدولار، وتوقف الشركات المستوردة عن التسليم بسبب الوضع المالي.
ويأسف أن "النظام الدوائي والصحي يتهاوى في لبنان بسبب الانهيار الاقتصادي والمالي، من هنا تأتي الدعوة إلى انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة الانتظام في عمل المؤسسات الدستورية لإقرار خطط وسياسة دوائية مستدامة".
رداً على سؤال حول تأثير سياسة الدعم العشوائية في الماضي في سوق الدواء راهناً، يقر سلوم أن "سياسة الدعم كانت كارثية على السوق الدوائية والمواطن في آن، فقد أهدرت ثمانية مليارات دولار على دعم الدواء خلال ثلاث سنوات ماضية، لكن لم يكن في لبنان دواء، ويتم التهريب إلى الخارج".
سوق التهريب
يلحظ سلوم وجود تهريب مضاد حالياً، حيث يأتي الدواء المهرب من الخارج. ويلفت إلى أن قسماً كبيراً منه مزور أو غير مستوفي الشروط الصحية في النقل والاستخدام أو منتهي الصلاحية.
وأوضح "لا يمكن تحميل المرضى المسؤولية، فهم يلجأون إليه بسبب عدم وجود الدواء في الصيدليات والمستشفيات، وظهور السوق الموازية".
ويقر سلوم أن السوق البديلة غير خاضعة للرقابة، "نحن كنقابة علينا واجب تفتيش الصيدليات المرخصة والمستوصفات الشرعية التي يوجد فيها صيادلة مسجلون، لكن لا يمكنني تتبع تجار الشنطة ومواقع الأون لاين التي تنشط فيها تجارة التهريب والتي يتسع نطاقها، لأن سوق الدواء مربحة وتفتح شهية كثيرين للاتجار فيها في كل مكان".
الدعم الجزئي
تحظى بعض الأدوية والحليب بدعم جزئي، وأوضح سلوم أنه يقتصر حالياً على أدوية السرطان والأمراض المستعصية، كاشفاً عن أن الدعم يغطي أقل من نصف الكمية المطلوبة من المرضى للدواء، لأن لبنان يحتاج إلى ما بين 60 و70 مليون دولار شهرياً، فيما التغطية هي 25 مليون دولار أميركي، وينطبق الأمر عينه على حليب الأطفال.
ورداً على اتهام الصيدليات بتخزين الدواء من أجل الاستفادة من هامش الربح بعد رفع الدعم، يجيب سلوم بأنه "في الفترات السابقة حدثت بعض التجاوزات، وكانت لدى المستودعات الكبرى والمهربين، لكنها لم تعد موجودة لأن الدعم تم رفعه، كما أن الدواء لديه تاريخ وتخزينه سيؤدي إلى فساده"، مشيراً إلى أن الخوف حالياً هو عن أثر ارتفاع الدولار على المخزون، وأن الصيادلة يبذلون أقصى جهدهم لتأمينه للمرضى.
المؤشر المتحرك
أخيراً انتقل سوق الدواء في لبنان إلى اعتماد المؤشر المتحرك لتسعير الدواء، ليتناسب مع تغير سعر صرف الدولار، وتؤكد مصادر وزارة الصحة أن المؤشر عمره 30 عاماً، أما المستجد سيكون تعديله أسبوعياً ليتكيف مع سوق الصرف لمنع اضطراب السوق الدوائية.
يرحب النقيب جو سلوم بالقرار، لأنه "سيريح المستورد والمصنع موقتاً، لكنه لن يكون حلاً نهائياً بسبب وجود مشكلة فتح اعتمادات عند انتهاء المخزون، وبعد تسليم ما لديهم سنكون أمام مشكلة مستجدة".
وأضاف "ما يهم نقابة الصيادلة اعتماد أي أسلوب يريح السوق ويؤمن الدواء، لأن مخزون الصيدليات بات محدوداً وأي تأخر في عملية التسليم حتى لو استمر ليومين فقط سيؤثر بصورة كبيرة في توريد الدواء إلى المريض".