لا يزال المغرب يشهد ظاهرة غياب النواب عن الحضور جلسات البرلمان على رغم مطالبة رئيس مجلس النواب ومجلس المستشارين في أكثر من مرة بحضور البرلمانيين في مختلف الجلسات، وعلى رغم العقوبات التي ينص عليها النظام الداخلي لمجلس النواب تحديداً، إذ سجلت غيابات متكررة ولافتة في صفوف النواب عن جلسات الأسئلة الشفوية المخصصة لمراقبة أداء الحكومة، مما دفع إلى تجدد المطالب بمحاسبة النواب المتغيبين، بسبب التداعيات السلبية لتلك الظاهرة على المشهد السياسي والبرلماني.
قوانين داخلية
ودعا مكتب مجلس النواب، أخيراً، البرلمانيين إلى الحرص على حضور جميع الجلسات في خضم تفاقم ظاهرة الغياب، امتثالاً لما تنص عليه المادة 146 من النظام الداخلي لمجلس النواب.
وتفيد المادة المذكورة أنه يجب على النائبات والنواب حضور جميع الجلسات العامة، وعلى من أراد الاعتذار أن يوجه رسالة إلى رئيس الجلسة مع بيان العذر قبل انعقاد الجلسة، ولا يعتبر أي عذر مقبولاً إلا في حالات منصوص عليها، وتنشر لائحة الحاضرين والتغيبات في النشرة الداخلية للمجلس وموقعه الإلكتروني.
وتورد المادة 147 من ذات النظام الداخلي لمجلس النواب "إذا ثبت تغيب عضو عن جلسة عامة من دون عذر مقبول يوجه الرئيس تنبيهاً كتابياً إليه، وإذا ثبت تغيبه مرة ثانية من دون عذر عن جلسة عامة في الدورة نفسها يوجه إليه الرئيس تنبيهاً كتابياً ثانياً ويأمر بتلاوة اسمه في الجلسة العامة التالية، وفي حالة ثبوت غيابه من دون عذر للمرة الثالثة أو أكثر يقتطع من التعويضات الشهرية الممنوحة له مبلغ مالي بحسب عدد الأيام التي وقع خلالها التغيب من دون عذر مقبول".
وظهر الغياب جلياً في جلسة سابقة للتصويت على مشروع قانون المالية لعام 2023، إذ بلغت نسبة الغياب 67 في المئة، عندما حضر لأهم جلسة في البرلمان تتعلق بالموازنة المالية، 129 برلمانياً فقط، 102 من أحزاب الغالبية و27 من أحزاب المعارضة، من ضمن العدد الإجمالي 395 نائباً.
غيابات في جلسات مهمة
وسجل السموني أستاذ القانون الدستوري خالد الشرقاوي ارتفاع حجم غيابات النواب البرلمانيين عن الجلسات التشريعية والرقابية، فضلاً عن اجتماعات اللجان البرلمانية الدائمة، فمثلاً خلال جلسة يوم الإثنين الماضي تم تسجيل أكثر من 250 حالة غياب من أصل 395 نائباً الممثلين لمجموع نواب الأمة، علماً أن الجلسة كانت مخصصة للمصادقة على مشاريع قوانين مهمة تخص حقوق وحريات المواطنين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولاحظ السموني أن مجلس النواب سبق أن شهد في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2022، غياب أكثرية النواب عن جلسة التصويت على مشروع قانون مهم، وهو القانون الخاص بميثاق الاستثمار، إذ تم التصويت عليه بـ159 صوتاً فقط من أصل 395 برلمانياً.
وأبدى أسفه على وجود حضور مكثف لأعضاء البرلمان خلال جلسة افتتاح السنة التشريعية فقط، قبل أن يتوارى كثير منهم عن الأنظار طيلة الدورات، بل وحتى أثناء مناقشة مشاريع قوانين المالية التي تعد من أهم المشاريع التي تهم ميزانية الدولة، سواء النفقات العمومية أو الإيرادات، إذ يحضرها عدد محدود لا يتجاوز نصف عدد الأعضاء في حالات كثيرة، الشيء الذي يعطي انطباعاً سيئاً لدى الرأي العام وينفر المواطنين من الأحزاب السياسية.
التشهير بأسماء المتغيبين
وشدد السموني على أن "أعضاء البرلمان مطالبون بالتقيد بمقتضى الدستور والنظام الداخلي، كما يجب على مكتب مجلس النواب أو مجلس المستشارين تطبيق مقتضيات النظام الداخلي الخاص بجزاءات غيابات البرلمانيين عن الجلسات العامة، والتي تنص على تلاوة أسماء النواب المتغيبين قبل المرور لجزاءات الاقتطاع من التعويضات المخولة لهم عن مهامهم الانتدابية".
ولفت إلى أنه "إذا كان تطبيق اقتطاعات تعويضات النواب البرلمانيين من قبل مكتب المجلس في حالات سابقة لم يؤت أكله، فإن التشهير بأسماء المتغيبين خلال الجلسة العامة يعد إجراءً مناسباً وفعالاً، مع التذكير المستمر لرؤساء الفرق البرلمانية من أجل حث النواب على الحضور لجلسات مجلس النواب العامة واجتماعات اللجان البرلمانية". وذهب إلى أنه "حتى إن كان هناك توجه إلى تعديل القانون الداخلي للبرلمان، بهدف تجريد النواب الذين يتغيبون لأكثر من سنة عن حضور أعمال المجلس من العضوية البرلمانية، فإن ذلك قد يطرح إشكالات دستورية وقانونية وسياسية".
النظرة الضيقة للوظيفة البرلمانية
من جهته، يرى الأستاذ بجامعة محمد الأول بمدينة وجدة عثمان الزياني أن ظاهرة الغياب أصبحت متجذرة في العمل البرلماني، وتعبر عن ضعف الجانب الأخلاقي والالتزام المبدئي للبرلماني، فضلاً عن سيادة النظرة الضيقة للوظيفة البرلمانية المبنية على الأساس المصلحي".
ويشرح الزياني في تصريحات لـ"اندبندنت عربية" بأن فكرة المنصب البرلماني تتجسد كمعبر أو قناة لقضاء مآرب شخصية، نتيجة تواري المناضل الحزبي خلف "العين الانتخابي" الذي يعوزه الالتزام السياسي والحزبي، وهي ناتجة أيضاً مما هو مرتبط بوظيفة الدور الذي يلعبه البرلمانيون اليوم.
ووفق المحلل ذاته، فإن الحكومة المغربية غالباً ما تملك غالبية متماسكة ومنضبطة، بخاصة في ما يتعلق بالتصويت على القوانين، حيث لم يعد لعقيدة الفصل بين السلطات أكثر من مجرد معنى وظيفي شكلي، مما يتعذر معه على البرلماني حيازة الوسائل الكفيلة بتنفيذ المهام الموكولة إليه دستورياً، وهذا ما يترتب عنه انحسار دوره التشريعي والرقابي، الأمر الذي يدفع عديداً من النواب إلى الغياب.
واسترسل الزياني قائلاً، "يمكن تفسير الغياب أيضاً بعدم اهتمام أعضاء البرلمان بالمناقشات التي يعتبرونها غير مهمة، بحكم أنها ذات طابع تقني معقد ومتخصصة للغاية، كما أن هناك عامل ثقل الأنشطة المختلفة التي يتعين على النواب وأعضاء مجلس المستشارين القيام بها خارج البرلمان، لا سيما الالتزامات المرتبطة بمنطقتهم الانتخابية، بفعل كثرة التنقل بين مختلف القطاعات الوزارية، ومختلف الأنشطة داخل الحزب والجمع بين الانتداب البرلماني وبعض الوظائف الأخرى التي تستهلك من وقته كثيراً وتؤثر في تدبير زمنه البرلماني".
تدبير الزمن التشريعي
وسجل الزياني أن "ظاهرة غياب النواب في البرلمان المغربي ممارسة اعتيادية سلبية ارتقت إلى مستوى العادة بفعل التواتر على ممارستها حتى في ظل وجود روادع قانونية"، مردفاً أن هذا الغياب "نكث لمختلف التعهدات التي تفرضها المهمة الانتدابية، ونقض للمسؤوليات والواجبات والالتزامات التي يستوجبها العمل البرلماني".
وتابع المتحدث أن "ظاهرة الغياب أضحت فعلاً مؤرقاً للعمل البرلماني، حيث تفاقم متاعب المؤسسة البرلمانية بخصوص تأكيد وجودها المادي والوظيفي في سياق الصرح المؤسساتي"، مسجلاً أن "الغياب يعطل بشكل كبير عجلة تدبير الزمن التشريعي بخصوص المناقشة والتصويت على القوانين التي تكتسب أهمية بالغة أو الموسومة بالراهنية".
وخلص الزياني إلى أن غياب البرلمانيين صار بحاجة إلى إرادة سياسية وبرلمانية فعلية لاقتلاع جذوره، وتحريك مسطرة الجزاءات الواردة في النظامين الداخليين لكل من مجلس النواب ومجلس المستشارين بعيداً من ميزان القوى والحسابات السياسية الضيقة والبحث عن إجراءات رادعة أخرى قد تصل إلى حد التجريد من العضوية.