في كتابه الصادر حديثاً باللغة الفرنسية تحت عنوان "فرنسا ومسلموها" الذي يقع في 635 صفحة من القطع المتوسط، يستعرض المؤرخ الفرنسي- الجزائري صادق سلام تاريخ وجود المسلمين في فرنسا.
الكاتب توقف عند المفاصل الأساسية لهذه العلاقة، ملقياً الضوء على ما تخللها من محطات مضيئة وانفتاح على الآخر، وكذلك العوائق والصعوبات، واعتبر أن انتقال العلاقات الرسمية بين الدول إلى علاقات مباشرة بين مسلمين قدموا بشكل فردي أو جماعي مستقل عن أي تدخل حكومي حصل عبر تطبيق المعاهدة التي وقعها فرانسوا الأول وسليمان الحكيم في 1553.
الاتفاق سمح للبحرية المقبلة من الجزائر بالرسو في مرفأ تولون، حيث أمضى آلاف مدة عام لصد تحالف الملوك المسيحيين الذين تحالفوا تحت قيادة شارلكان ضد فرنسا.
ظاهرة ليست مستجدة
الكاتب قال إن "وجود المسلمين في فرنسا ظاهرة ليست مستجدة، كما أن فترة استيعابهم ودخولهم النسيج الاجتماعي أو الانصهار بالمجتمع مسألة وقت، والدليل على ذلك اختفاء كل أثر للموريسكيين الذين انصهروا كلياً وبات من الصعب تقفي آثارهم وتتطلب ذلك مرور 300 عام".
وأشار إلى أن بداية الاستقرار للمسلمين في فرنسا بدأت بقدوم الموريسكيين الذين اختاروا البقاء في إسبانيا بعد سقوط غرناطة عام 1492، حيث بقي قسم من المسلمين بعد حصولهم على وعود من ملوك إسبانيا بعدم التعرض لهم ولديانتهم.
لكنهم وجدوا أنفسهم في ما بعد مرغمين على الخيار بين العماد واعتناق المسيحية أو ركوب السفن، وغالباً ما كان يتم إغراقهم في أعالي البحار وهم في طريقهم إلى المغرب أو تركيا.
ولتجنب هذا المصير اختاروا العبور إلى الجنوب الفرنسي والانطلاق من موانئ فرنسا في أغد لمتابعة رحلتهم، لكن جزءاً منهم التمس إلى الملك هنري الرابع البقاء في الربوع الفرنسية، فسمح لبعضهم بالبقاء.
وأضاف الكاتب أن هؤلاء كانوا من الميسورين والحرفيين الذين أدخلوا صناعة حرير دود القز وفن الخزفيات، كما كانت بينهم نخبة من المثقفين.
المحطة الثانية
المحطة الثانية التي تناولها الكتاب، تتمثل في حملة نابليون على مصر وما تخللها من تلاقح وبداية المغامرات الكولونيالية وعودة فرق المملوك مع نابليون واستعرض المؤلف الفترة ما بين 1830 حتى 1947 التي بدأت بقدوم الفرق الأجنبية بالجيوش الفرنسية متمثلة في المملوك الذين جلبهم بونابرت أثناء حملته على مصر واستقروا في مرسيليا وسكنوا حياً يعرف بـ"حارة المصريين".
وكان أول من كتب عنهم مؤرخ نيوزيلندي يدعى يان كولر Ian Coller، وكان ذلك صدفة عندما وجد لوحة لدى رسام على ضفاف السين، حيث يفترش هؤلاء الرصيف لرسم السياح، والرسام لم يزر الجنوب الفرنسي كما لم يغادر باريس قط، رسم مصرياً بالزي التقليدي المصري، ولدى بحثه عرف بوجود المصريين المماليك، ووثق هذا الوجود في كتابه "فرنسا عربية، بداية التنوع في فرنسا 1789-1831".
ولفت صادق سلام إلى أنه في المقابل لا يوجد أي أثر للموريسكيين الذين انصهروا كلياً بالمجتمع الفرنسي، لكن السجلات التجارية أشارت إلى أنهم كانوا من الميسورين يدفعون بالذهب.
التحمس للإسلام
أشار المؤرخ إلى أن العلاقات مع الإسلام هيأت لها مشاريع الاستعمار الأولى، كما سمحت حملة بونابرت على مصر للجنرال جاك عبدالله منو الذي شارك في الحملة عام 1789 وعين قائداً بعد وفاة الجنرال جان بابتيست كليبر، باعتناق الإسلام.
وتتبع الكاتب المراحل المختلفة لمؤيدي الفلسفة الوضعية التي تبناها عالم الاجتماع أوغوست كونت الذي كان مقرباً من الإسلام، ودعا إلى النظر لهذه الديانة بإيجابية واحتضان المسلمين واستيعابهم في المجتمع الفرنسي، كما واكب تطور هذه النظرة مع الذين حملوا شعلته في ما بعد على غرار كريستيان شيرفيس (1859 -1925).
وتوقف الكتاب عند سيرة عدد من الفرنسيين الذين تولوا الدفاع عن الإسلام باعتباره الأقرب إلى مفهومهم للمجتمع المثالي، يحدوهم بذلك رفضهم للكهنوت، إذ اعتبر أوغوست كونت أن الديانة الإسلامية هي الأقرب إلى الوضعية، "تسخير السياسة لخدمة المجتمع".
ومن أصحاب النظرية الكونتية الوضعية من الجيل الثاني تشير فيلز الذي أسهم بإعادة إحياء هذه المبادئ في وقت كانت قد بدأت بالاندثار، هذا الفيلسوف المتخصص في الفلسفة الوضعية كان عضواً في لجنة معارضة تفكيك الإمبراطورية العثمانية، وكان من بين أعضاء لجنة التحرير في مجلة "الإسلام"، وهو الذي استنتج تغييب الجانب الديني في فكر كونت، بحيث تم التركيز فقط على نظرياته الاجتماعية فقط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وثق تشيرفليز المقاطع التي تتطرق إلى الإسلام في الأعمال النظرية للأب كونت ونشرها في كتاب رحب به لوي ماسينيون، في مجلة "العالم الإسلامي"، وكانت لم تنطلق شهرته بعد، واعتنق الإسلام واختار اسم عبدالحق وانضم إلى منظمة "الإخوة الإسلامية" التي تأسست في باريس عام 1907 والتي سيصبح رئيساً لها في ما بعد.
ومن بين المعاهد التي تم افتتاحها في سياق التيار الكونتي، معهد الدراسات العليا في علم الاجتماع الذي حل محل الكلية الحرة للعلوم الاجتماعية، كما كان تشير فيلز مدافعاً مخلصاً من أجل مشروع المعهد والمسجد في باريس.
وعام 1916، شارك في إعادة إحياء مشروع 1895 مع الأمير خالد وبول بورداري مدير مجلة "السكان الأصليين"، وكان محاضراً حول الإسلام ومحط إعجاب لسعة اطلاعه ولحياده وتوجيهاته من أجل سياسة عادلة تجاه الإسلام.
عام مفصلي
بالنسبة إلى صادق سلام، يشكل عام 1895 عاماً مفصلياً، إذ إنه شهد تخصيص مربع مسلم في مقابر بير لاشيز وتأسيس لجنة إنشاء مسجد باريس، ولفت إلى أن تشير فيلز كان من بين أعضاء لجنة الشرف في المسجد وإلى أن المشروع الأساسي نص على أن يكون المسجد تابعاً للمعهد العالي للدراسات الفرنسية – العربية.
لكن الجنرال ليوتاي، صاحب معركة "ميسلون"، اعتبر أن المعهد قد يفتح أفكار المسلمين وهو الذي عين الجنرال غورو الذي قمع ثورة السوريين عام 1920 في "ميسلون"، ولم يسمح لتشير فيلز بقراءة شعره في احتفال تحديد وجهة القبلة لوضع حجر الأساس لمسجد باريس الكبير عام 1922، وتوفي عام 1925 قبل أن يتسنى له حضور حفل تدشين المسجد.
مشروع المعهد الذي دافع عنه تشيرفليز ومحبو الإسلام، كان يهدف إلى كسر "الممارسات الجزائرية في فرنسا" و"فصل السياسة الإسلامية" عن ممارسات البلدان "الأصلية"، واعتبر سلام أن نتائج الاستغلال الكولونيالي لهذا المشروع لا تزال إلى اليوم وتتجسد بنقص تربوي خطر لمسلمي فرنسا حول ديانتهم.
ويرى الكاتب أن "إعادة نشر كتابات تشير فيلز تجنب نسياناً وضياعاً نهائياً لصفحة مهمة من التاريخ الثقافي الطويل للإسلام في فرنسا، وهي تسهم بردم الهوة الناجمة عن القصور الفكري للمرجعيات الممثلة للإسلام وتقاعس المساجد الكبرى التي باتت عبارة عن صروح مكلفة وهياكل من دون أرواح".
محاولات تنظيم إسلام فرنسا
في عام 1877 كان تضاعف عدد المسلمين المثقفين في باريس بشكل لا يستهان به، بعد زيارة مدحت باشا الذي خلعه السلطان عبدالحميد فاستقبله الوضعيون أتباع أوغوست كونت خير استقبال واستقطبوا كثيراً من المثقفين العثمانيين، بعضهم انضم إلى الحركة الوضعية، والأكثر شهرة بينهم هو أحمد رضا، وكان مهندساً زراعياً درس في باريس، وعاد واستقر فيها عام 1889.
ويرى الكاتب أن تكوين المسلمين في فرنسا يجب أن يحظى بالأهمية بدلاً من أن يجد المسلم الفرنسي نفسه في مواجهة وسائل الإعلام وحيداً، ويستعين بذلك ما تحظى به الديانة الكاثوليكية التي تمتلك مجموعة إعلامية ودور نشر والمعهد الكاثوليكي وما إلى ذلك.
في بداية الجمهورية الثالثة، كان عدد المثقفين العرب المسلمين لا يستهان به، خصوصاً عام 1876 مع قدوم أحمد فارس الشدياق ونشر كتابه "ساق على ساق" الذي ترجمه إلى العربية رينيه خوام.
"الأخوة الإسلامية" جمعية تعمل تحت قانون 1901 الذي ينظم الجمعيات وتم إنشاؤها عام 1907، وكان كريستيان بونفيس صاحب فكرة إنشاء معهد إسلامي وناضل من أجل المساجد طوال 30 عاماً، ونذكر هنا تأسيس أبو النظارة وهو يهودي مصري، صحيفة ساخرة على غرار "لوكانار أنشيني" تدعى "الساق على الساق"، وكذلك أحمد فارس الشدياق الذي أسس "العروة الوثقى" وتولى رينيه خوام ترجمة المخطوطات التي تحتفظ بها المكتبة الوطنية.
كما أسس كمال بن خوجة "المجلة المسلمة" ودعا إلى إقامة البراهين لنفي التعصب الديني في الإسلام والاكتراث لحقوق النساء "الحركة النسوية"، وشكل القرن الـ19 عصر النهضة منبراً للإسلام في باريس.
وأشار سلام إلى أن المرحلة ما بين 1905 – 1947 شهدت محاولات تنظيم الإسلام في فرنسا، لكن ما حصل هو إفشال عمل لجنة إدارة الحبوس، أو الأوقاف، واستيراد الممارسات المحلية في البلدان الأصلية والمنافسة ما بين الجزائر والمغرب، وتطرق إلى الأموال التي جمعت باسم جمعية أوقاف "الحرمين الشريفين".
كما تناول الكاتب محاولات بيار جوكس تنظيم عملية جمع التبرعات بشكل شفاف، تبعتها محاولة جان بيار شوفنمان للمساعدة في تنظيم شؤون الديانة الإسلامية في فرنسا، ثم محاولة نيكولا ساركوزي، لكنها باءت جميعها بالفشل، إضافة إلى محاولتي محمد أركون وجاك بيرك.
الاعتراف بالإسلام
وقال الكاتب إن باريس تريد الاعتراف بالإسلام في العاصمة ولا تتردد في الإشارة إلى لياقة المروجين لمشروع المعهد والمسجد عام 1920، لكن كثرة السياسيين وعلماء الاجتماع حول الهجرة والمناضلين العلمانيين في مجلس المعهد تهدد بتحويل الدراسات حول المسلمين التي كشفت عن نقص هائل كما بين ذلك جاك دوجاريك، وهو مؤسس "مجلة الإسلام" في 1895.
وأضاف أن هذا يدل على سيئات تسييس الدراسات الإسلامية التي ما برحت تؤجل إلى آجال غير مسماة لضرورة تحديث وتطوير الدراسات الدينية، وأكد أن الدولة الفرنسية شجعت خلال العقدين الماضيين على ظهور عدد من الديانات الإسلامية الرسمية، لكنها عكست عدم قدرتها على التشاور في ما بيها.
وتساءل "هل تقوم الدولة باستخدام سياسة تدخلية للحفاظ على تضامن شكلي وتوافق ظاهري في قلب جسم منقسم للحفاظ فقط على الإدارة الدبلوماسية التي بحثت عنها قبل ربع قرن؟ وفي هذه الحال يكون من المبكر الحديث عن إسلام فرنسا المتجسد في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية".
ويلخص الكاتب فكرته بأن وجود الإسلام في فرنسا قديم والمجتمع قادر على استيعابه، وما حصل مع الموريسكيين قبل ثلاثة قرون خير دليل على ذلك.
ويرى أن فشل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية وعدم إنشاء المعهد الإسلامي لتكوين أئمة فرنسيين قادرين على مخاطبة الزيتونة والأزهر كانا أساس المشكلة.