حتى اليوم، على رغم كل البحوث والاستقصاءات التي أجراها مؤرخو حياة الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه (1844 – 1900)، متعمقين في مجمل كتاباته، باحثين عن أثر للأسباب التي يمكن أن تكون في خلفية ما لا يقل عن قطيعتين في حياته، لم يتوصل أي منهم إلى يقين يتعلق بتلك الأسباب، لكن كثراً منهم وضعوا فرضيات عديدة، لعل من أبرزها ما يمكن اختصاره بتلك العبارة الخالدة "فتش عن المرأة". ومن أهم تلك الفرضيات ما يتناول في الأقل علاقة نيتشه بامرأتين من ثلاث لعبن دوراً كبيراً في حياته. فإلى جانب أخته إليزابيث -التي احتضنته كأم رؤوم على رغم أنها تصغره بعامين، والتي كان دورها أساسياً بعد رحيله خصوصاً، وليس فقط في نشرها كتابات كثيرة له كان قد مات من دون أن ينشرها، بل كذلك وبخاصة في تلك "الوصمة" التي جعلت النازيين يتبنونه كواحد من مؤسسي نزعتهم، وهو الذي كان براء من ذلك، إذ زورت إليزابيث كتابات له وزيفت آراءه السياسية وتصرفت على هواها حيث كانت وزوجها نازيين حقيقيين- إلى جانب تلك الأخت التي تعاملت معه ومع كتاباته كملكية خاصة لها، كان ثمة في حياة صاحب "أبعد من الخير والشر" امرأتان أخريان يمكننا أن نفترض مع كثر من المؤرخين أنهما كانتا حبيبتيه الوحيدتين اللتين عرفتهما حياته، مع أن أياً منهما لم تتجاوب مع غرامه. فكان أن تسبب عدم التجاوب هذا في نظر بعض المؤرخين في قطيعتين أساسيتين عرفتهما حياته: قطيعته الأبرز مع الموسيقي ريتشارد فاغنر، وقطيعته الأكثر غموضاً والأقل أهمية مع الفيلسوف بول ري.
هل أحب كوزيما حقاً؟
والحقيقة أن تينك القطيعتين لن تكونا فكريتين كما كان نيتشه نفسه يوحي، ولا سيما بالنسبة إلى فاغنر الذي بعد أن كان يبجله ويتبنى موسيقاه تماماً، إذا به يخاصمه بل يكتب مئات الصفحات في ذم إبداعاته، ومن ذلك بصورة خاصة كتابه "حالة فاغنر"، الذي عمل فيه على الإيحاء بأن خلافه مع الموسيقي الأوبرالي الشهير خلاف فني وفكري يتسم براديكالية ترتبط بالفروق بين نظرة كل منهما إلى "الإلهين" الإغريقيين ديونيسيوس وأبولون. غير أن ثمة ما يشبه الإجماع في صفوف دارسي حياة نيتشه وكتاباته، على أنه في خلفية القطيعة مع فاغنر، تلك المرأة الرائعة كوزيما فاغنر زوجة الموسيقي وابنة سلفه المبدع الكبير فرانز ليست، والتي إذ كانت متزوجة من قائد الأوركسترا هانز فون بيلو تركته إذ أغرمت بفاغنر. والآن إذ تعرف عليها نيتشه في عام 1869 أغرم بها بدوره فيما كانت الصحف منشغلة بالحديث عن تركها فون بيلو وارتباطها بفاغنر. فهل دخل نيتشه على خط ذلك الغرام من خلال علاقته التي كانت في ذلك الحين حميمية مع فاغنر، على رغم معرفته اليقينية بأن كوزيما ستتزوج صاحب "تانهاوزر" و"أساطين الغناء" عما قريب؟ لا شيء مؤكداً في هذا السياق، ولكن من المؤكد أن نيتشه كان في ذلك الحين متطرفاً في كل شؤونه ومنها شؤون القلب. وفي الوقت نفسه كان يبحث لدى المرأة عن تلك القوية الذكية التي يمكنها أن تتحمل نزواته، فإن لم تكن حبيبته فلتكن صديقة مقربة. وبشكل عام تبدت له كوزيما تلك الصديقة المقربة، ولا سيما أن علاقته بفاغنر كانت متقطعة، إذ إنهما لا يلتقيان إلا حين يكونان، بالصدفة، في مدينة واحدة، أما علاقة نيتشه بكوزيما فكانت متواصلة وعن طريق الرسائل المتبادلة، لكنها كانت رسائل تنم عن تجانس فكري بينهما ولا تحمل أي تعبير عن عاطفة ما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعود من سنوات الصداقة
كان نيتشه يحدثها عن أفكاره ومشاريعه الكتابية، وكانت هي تناقشه فيها وتسدي إليه النصح، وغالباً ما تشير إلى أن فاغنر كان مطلعاً على الرسائل، ويشاركها النصائح التي تبديها تجاه الفيلسوف الشاب، ولا سيما حين يشكو إليها من كآبته الدائمة ووحدته، فتجيبه بأنها تداولت مع زوجها طويلاً "وننصحك نحن الاثنان بأن تخرج من وحدتك وسوداويتك". والحقيقة أن فاغنر لم يغب أبداً عن تلك الرسائل بحسب ما تخبر كوزيما صديق الرسائل هذا. أما هو فكان يحدث له ألا يذكر الموسيقي الكبير إلا في عدد قليل من الرسائل وبصورة عابرة. أما كوزيما فحاضرة دائماً، يبعث إليها نصوصاً لم ينشرها بعد، ويخبرها عن كتب يريد إنجازها، بل ويطلب ذات مرة إذناً في أن يهدي إليها في المقدمة كتاباً يخبرها أنه بصدد إنجازه حول "الفلسفة في زمن الإغريق"، وهو كتاب أنجزه لاحقاً، ولن ينشر إلا بعد رحيله. مهما يكن فإن مراسلات نيتشه هذه مع كوزيما توقفت، من ناحيتها أول الأمر منذ حلت القطيعة بين الفيلسوف وزوجها الموسيقي، وكان هذا الموقف يعني أموراً كثيرة بالطبع، بل إن كوزيما لم تجبه حتى عن رسالة العزاء التي بادر إلى إرسالها حين توفي ريتشارد فاغنر. ولا شك أن هذا الصمت بدا محيراً لنيتشه، لكنه كان مفهوماً بالطبع.
نحو علاقة فكرية مثلثة
أما المرأة الثانية التي عبرت حياة صاحب "المعرفة الجزلة" فكانت لو سالومي، التي ستحمل لاحقاً اسم لو أندرياس، والتي حتى وإن كانت ثمة دلائل كثيرة تشير إلى حال حب من نوع خاص جذبته إليها، فإنه كان حباً غريباً من نوعه. ففي ذلك الحين كانت سالومي التي سيحسب بين عشاقها الفيلسوف بول راي، الذي كان أقرب أصدقاء نيتشه وتلميذاً مخلصاً له في بداياته، ثم الشاعر راينر ماريا ريلكه، وصولاً إلى سيغموند فرويد، الذي عاملها بكل احترام غير معلن تجاهها حباً ربما يكون هو ما أوصله إلى تفضيلها عن أي من تلميذاته، وبوأها مكانة رفيعة في هرمية جمعية التحليل النفسي، إلى درجة شغلت معها مقاعد مميزة في كل الصور الملتقطة خلال المؤتمرات. أما بالنسبة إلى نيتشه الذي كان مبكراً في التعرف إليها قبل أولئك جميعاً في وقت كان الفيلسوف بول ري قد تعرف إليها أيضاً ووقع في غرامها، لكنها رفضت أية علاقة خاصة به، مصرة على أن ما بينهما ليس أكثر من صداقة. والغريب في الأمر أن نيتشه توسط بين بول وري محاولاً إقناع الفتاة بنوايا ري الطيبة ولكن من دون جدوى، فهي أصرت على استمرار الصداقة لا أكثر. أما نيتشه فسيوقف وساطته لكنه سيخبر ري لاحقاً بأنه في الحقيقة شعر بانجذاب قوي ناحية تلك "الشخصية الذكية والجذابة". وهنا تمالك ري نفسه وعرض على نيتشه أن يتوسط بينهما مقابل ما كان هذا قد فعله تجاهه، لكن لو رفضت الارتباط بنيتشه تماماً كما كانت قد فعلت تجاه ري، فإن أفضل ما يمكن أن يقوم بين الثلاثة إنما هو صداقة فكرية ثلاثية الأطراف. رفض نيتشه هذا النوع من العلاقة مع لو وانسحب تماماً، وليس فقط من صداقته مع لو، بل كذلك من صداقته مع بول ري، مما فرط عقد الثلاثي من دون أن يعرف أحد الأسباب الحقيقية التي دفعت نيتشه إلى المبادرة في الابتعاد.
من أسباب تعاسته
صحيح أنه ليس من المنطقي القول هنا إن تينك العلاقتين الفاشلتين لعبتا أو لعبت واحدة منهما أي دور فاعل في ما أصاب الفيلسوف من إحباط وأدى به إلى الجنون خلال السنوات الأخيرة من حياته، وكذلك سيكون من الصعب القول إن سلوك أخته المسيء إليه وإلى فكره، لعب مثل ذلك الدور. فالحقيقة أن إليزابيث كانت تحنو على أخيها وتراعيه بديلة عن حياة عائلية بأسرها، وهي التي كانت تسر وتشعر بالزهو والانتصار في كل مرة يخبرها فيها عن خيباته "العاطفية". وكانت ترى الخير كل الخير في تركه لذلك الصنف من النساء اللاتي من شأن العلاقة معهن أن تدمر حياته، لكنها كانت تهتم بأن ينتمي إلى أفكارها المتطرفة التي قربت بينها وبين زوجها، "لأن في ذلك كل الخير له". ومن هنا أسهمت من دون أن تدري في البؤس الذي طبع حياته آتياً من النساء ولا سيما من النساء اللاتي كان يحب الارتباط بهن فكن من أسباب تعاسته وآلامه.