يختلف المواطنون في #لبنان على تفسير مفهوم #اللامركزية_الإدارية التي نص عليها #اتفاق_الطائف عام 1989 في #السعودية كتسوية لإنهاء #الحرب_اللبنانية وإرساء نظام جديد يؤسس لمرحلة بناء السلام.
وعلى رغم أن الحرب العسكرية، بالقواعد التي قامت عليها بين عامي 1975 و1990، انتهت، لا يزال لبنان ينحدر إلى مستنقع الانهيار على مختلف المستويات. وفي قلب هذا الانهيار يعود الجدل حامياً حول تفسير معنى اللامركزية الإدارية التي تحدث عنها "الطائف". ففي حين يدعو أكثر من طرف إلى تطبيقها بإعطائها أبعاداً مختلفة تخص كل طرف، تعتبر أطراف أخرى أنها تعبر عن أهواء مبيتة تخفي المطالبة بالفيدرالية وبالتقسيم، وبأن يعيش كل مكون من المكونات الطائفية والمذهبية في منطقته في ظل بقاء هيكل عام للسلطة لا يعكس حضور الدولة كدولة مركزية قوية.
ماذا قال "الطائف"؟
تحت بند اللامركزیة الإداریة نص اتفاق الطائف على ما يلي:
1- أن الدولة اللبنانیة دولة واحدة موحدة ذات سلطة مركزیة قویة.
2ـ توسیع صلاحیات المحافظین والقائمقامین، وتمثیـل جمیـع إدارات الدولـة فـي المنـاطق الإداریـة علـى أعلـى مسـتوى ممكن تسهیلاً لخدمة المواطنین وتلبیة لحاجاتهم محلياً.
3ـ إعادة النظر في التقسیم الإداري بما یؤمن الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العیش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
4ــ اعتماد اللامركزیـة الإداریـة الموسـعة علـى مسـتوى الوحـدات الإداریـة الصـغرى (القضـاء ومـا دون) عـن طریـق انتخاب مجلس لكل قضاء یرئسه القائمقام، تأمیناً للمشاركة المحلیة.
5ـ اعتماد خطة إنمائیة موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطویر المناطق اللبنانية وتنمیتها اقتصادیاً واجتماعیاً وتعزیز موارد البلدیات والبلدیات الموحدة والاتحادات البلدیة بالإمكانات المالیة اللازمة.
هذا النص ينطلق من المبادئ العامة التي نص عليها "اتفاق الطائف" أيضاً، والتي تؤكد "وحدة الدولة اللبنانية، وعلى أن لبنان وطـن حـر مسـتقل، وطـن نهـائي لجمیـع أبنائـه، واحـد أرضـاً وشعباً ومؤسسـات، فـي حـدوده المنصـوص عنهـا فـي الدستور اللبناني والمعترف بها دولیاً، وعلى أن الشعب مصدر السلطات وصاحب السیادة یمارسها عبر المؤسسات الدستوریة، وأن أرض لبنان واحدة لكل اللبنانیین. ولكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها والتمتع به في ظل سیادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان ولا تجزئة ولا تقسیم لا توطین، وأنه لا شرعیة لأي سلطة تناقض میثاق العیش المشترك"، هذا الكلام لا يترك مجالاً للالتباس في تفسير معنى اللامركزية لأنه أيضاً يركز على الوحدة والمركزية.
لجنة ومشروع
على عهد الرئيس الأسبق ميشال سليمان تشكلت اللجنة الخاصة باللامركزية الإدارية بموجب قرار صادر من رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي بتاريخ 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 برئاسة وزير الداخلية الأسبق زياد بارود. أنجزت المهمة وأعلنتها في أبريل (نيسان) 2014، وخلصت بنتيحتها إلى نقل صلاحيات ومهام واسعة من السلطة المركزية إلى مجالس الأقضية. واعتبرت أن هذا الأمر يستتبع تأمين الموارد المالية اللازمة لممارسة هذه الصلاحيات.
ولاحظت الدراسة أيضاً أن يتم رفع نسبة إنفاق الإدارات المحلية (بلديات وأقضية) من إجمالي إنفاق الحكومة المركزية إلى حدود 25 في المئة كحد أدنى، في الوقت الذي لا تتعدى فيه نسبة إنفاق الإدارات المحلية المحصورة بالبلديات واتحاداتها الـ7 في المئة من نسبة الإنفاق المركزي، وهي نسبة اتضح في الممارسة أنها غير كافية. وطلبت أن يتم تأمين 40 في المئة من هذا المبلغ من خلال الصندوق اللامركزي، و60 في المئة منه من خلال الضرائب المباشرة وغير المباشرة والرسوم وموارد أخرى. وتستوفي مجالس الأقضية، بصورة مباشرة، بعض الضرائب والرسوم التي تستوفيها خزانة الدولة حاضراً، وذلك وفق انتقال مهام وصلاحيات من الأخيرة إلى الأولى.
وعدد المشروع في المادة 78 منه واردات القضاء، وذكر منها مداخيل المشاريع التي يستثمرها مباشرة، وحصته من المشاريع التي يشارك في استثمارها، إضافة إلى مداخيل أخرى متنوعة من الضرائب التي تحصلها الحكومة، وذلك تحقيقاً لهدف منشود، وهو الإنماء المتوازن بين المناطق، خصوصاً أن المشروع نص أيضاً على كيفية انتخاب الهيئات المحلية في البلديات والأقضية بعد اعتماد توزيع جديد لها إذا اقتضى الأمر، وهي التي تتولى مهام الإدارة الذاتية من ضمن اللامركزية الموسعة، ولكن دون هذا المشروع بقيت عقبات كثيرة معظمها سياسي تحول دون تطبيقه وتعود إلى الشك بأهداف من يطالبون به.
طروحات ونزاعات
أواخر عام 2021 طرح رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ضرورة الذهاب إلى لا مركزية إدارية ومالية موسعة، الأمر الذي فتح سجالاً جديداً حول الهدف منه، بينما اعتبر البعض أن عون طرحه لخلق توازن مع دعوته إلى الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية المتعلقة بسلاح "حزب الله"، اعتبر آخرون أن هذه الدعوة تحتمل مطالبة مبطنة باعتماد الفيدرالية حلاً للأزمة اللبنانية، خصوصاً عندما تذكر اللامركزية المالية التي تعني أن تتولى كل سلطة إدارية إدارة مواردها المالية بشكل مستقل، الأمر الذي يخلق تفاوتاً بين المناطق ولا يحقق التنمية المتوازنة. واعتبر مؤيدو هذا الطرح أنه يحقق العدالة في توزيع الثروة الوطنية، بحيث إن كل منطقة تتولى جباية مواردها واستثمارها، بحيث يمكن أن يؤدي هذا الأمر إلى القضاء على عملية التهرب من دفع الضرائب وفواتير الكهرباء، وغيرها، بالتالي لا يعود من الممكن أن تحصل الجباية في مناطق معينة ولا تحصل في أخرى. وينتفي التهرب الضريبي، بالتالي تصير هذه المناطق ملزمة تحصيل وارداتها ولا تعود هناك اتهامات بأن المناطق التي تجبى فيها الضرائب تدفع عنها وعن غيرها من دون أن تحصل في المقابل على حصتها من هذا المال الذي تدفعه، الأمر الذي يوسع الخلل القائم في المالية العامة للدولة وللمناطق الإدارية. وقد اعتبر الرافضون لدعوة عون أنها تعني أن على كل طرف أن يذهب ويعيش في منطقته مع موارده المالية، وأن هذا الطرح ينطوي على ما هو أبعد من الفيدرالية، وقد يكون مدعاة للتقسيم، لأن الطائف دعا فقط إلى اللامركزية الإدارية ولم يتحدث عن اللامركزية المالية.
وهذا الأمر استدعى رداً من القصر الجمهوري اعتبر "أن اللامركزية المالية واللامركزية الإدارية صنوان، من ضمن ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني المنبثقة عن مؤتمر الطائف، وفي مقدمة الدستور عن الانماء المتوازن للمناطق".
إعادة النظر في تركيبة الدولة
عاد الجدل حول هذا الموضوع بعد أن دعا رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع في يناير (كانون الثاني) 2023، رداً على منع "حزب الله" وحلفائه انتخاب رئيس جديد للجمهورية، إلى إعادة النظر بتركيبة الدولة اللبنانية للتخلص مما سماه "سلبطة حزب الله". ولم يرَ جعجع أن النظام الفيدرالي سيئ، بدليل أنه معمول به في الإمارات وسويسرا والولايات المتحدة الأميركية. وقد قال، "نريد التخلص من (سلبطة حزب الله)، لا نقدر نحن والأجيال اللاحقة أن نبقى أسرى سيطرة هذا الحزب"، مضيفاً، "نريد إعادة النظر بكل تركيبة الدولة وساعتها ليبقى (حزب الله) وبيئته الحاضنة يحمون ظهر المقاومة كما يريدون، وليوفقهم الله في أماكن وجوده".
كلام جعجع كان يعبر عن إرادة التحرر من سيطرة "حزب الله" على قرار الدولة اللبنانية وتحميله مسؤولية انهيار السلطة والمؤسسات في لبنان وعدم قدرة اللبنانيين على تحمل البقاء تحت سلطة الحزب. وقد أتى أيضاً بعد أن كان رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، صهر الرئيس السابق ميشال عون، قد أعلن بداية ديسمبر (كانون الأول) في ظل إشهار خلافه مع "حزب الله" حول رئاسة الجمهورية بأن خياراته مفتوحة، ومن ضمنها "تطبيق اللامركزية الإدارية على الأرض". وقد تم اعتبار هذا الكلام تهديداً باعتماد خيار اللامركزية من طرف واحد وفرضه كأمر واقع في حال استمر "حزب الله" بالتخلي عن دعم باسيل لرئاسة الجمهورية ودعم ترشيح منافسه الموالي للحزب رئيس تيار المردة سليمان فرنجية.
أزمة نظام
هذه الدعوات تأتي في ظل انسداد الأفق السياسي والحديث عن أزمة نظام لا أزمة حكم فقط بسبب إقفال "حزب الله" وحلفائه المخارج التي يمكن أن تشكل حلاً للأزمة بدءاً من انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة لا يسيطر عليها تستطيع أن تعيد تسيير عجلة الدولة. وتأتي أيضاً في ظل تنامي ظاهرة المطالبين بهذه اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة وتجاوزها إلى المطالبة بالفيدرالية والطلاق مع "حزب الله". ولا تقتصر هذه المطالبة على المسيحيين وحدهم، بل تشمل طوائف أخرى لا تقبل استمرار تحكم "حزب الله" بقرار الدولة، بدءاً من رئاسة الجمهورية وتشكيل الحكومات، وتحديد الخيارات السياسية والاقتصادية وما هو مسموح وما هو ممنوع مع تحميله مسؤولية إيصال الأمور إلى هذا الحد من التدهور في لبنان.
والتخوف الأكبر ناشئ عن الحديث عن أن بلوغ هذه المرحلة يمكن أن يحصل في ظل استمرار الفراغ الرئاسي وتفكك مؤسسات الدولة في حال حصلت فوضى كبيرة تؤدي إلى تفكك السلطة الأمنية التي تصير عاجزة عن التحكم بمسار الأمور وعن فرض الأمن، خصوصاً مع تنامي ظاهرة الأمن الذاتي التي تحصل في أكثر من منطقة للحماية من موجة السرقات والتعديات، وإن كان معظمها لا يزال من دون تسليح، ويتم بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية ويرتبط بها في النهاية.