مشاعر مختلطة تنتاب بعض #المصريين في هذا التاريخ. وبعضهم يقرر وأدها. سنة الحياة تقول إن تفاصيل التواريخ المهمة تبدأ في التواري والتضاؤل بمرور الزمن، ولا يبقى سوى #التاريخ نفسه. حتى التاريخ، بمعناه الرقمي، منه ما يتوارى ومنه ما يقاوم للبقاء.
نسيان تاريخ 11 فبراير (شباط) 2011 أو تجاهله أو استحضاره أو البكاء على أطلاله أو حتى تركه يمر مرور الكرام تبدو واضحة بشكل أخذ في التزايد والتفاقم في السنوات القليلة الماضية. فعلى مدى 12 عاماً هي عمر أحداث يناير (كانون الثاني)، تتخذ الأيام الـ18 الواقعة بين 25 يناير و11 فبراير أشكالاً مختلفة لحد التنافر وتشهد مشاعر متنوعة لدرجة التناقض مع مرور كل عام.
بدلاً من "يوفوريا" السعادة الطاغية لتذييل أحداث الحراك بتنحي الرئيس الراحل محمد حسني مبارك في 11 فبراير، مؤذناً بنهاية "ثورة" اتضح في ما بعد أنها حراك أو أحداث أو مؤامرة أو ثورة مجهضة، تحولت مشاعر اليوم إلى خليط من عقدة الشعور بالذنب مع عرض اضطراب القلق وقليل من فوبيا التغيير غير المدروس واضطراب الكرب التالي للصدمة.
صدمة التغيير الذي بدا شديد الإيجابية مفعماً بآمال محلقة وأحلام مرفرفة في يوم 11 فبراير عام 2011 يقف على طرف نقيض حيناً وعلى منصة المساءلة أحياناً على مدى الأعوام الماضية.
في مثل هذا اليوم عام 2011، عمت أرجاء شوارع مصر وميادينها وحاراتها أجواء فرحة غامرة وصفت وقتها بالتاريخية وهالات غلبة وانتصار فاقت فوز المنتخب المصري في كأس الأمم الأفريقية ونافست انتصار مصر على إسرائيل عام 1973.
أجواء الفرحة الغامرة في تلك السنة طغت على الفضاء العام، لكن في الفضاء الخاص، وخلف الأبواب المغلقة، وعلى الكنبات المواجهة للشاشات التلفزيونية كان هناك قطاع آخر من المصريين الذين لم يجرؤوا في حينها على التعبير عن مكنون نفوسهم ومخبوء صدورهم وما ظل مستوراً في عقولهم.
بعضهم اعتبر ما يجري مسماراً في نعش الأمان والاستقرار الذي ظلت رموز الرئيس السابق الراحل مبارك تدق على أوتاره باعتباره أكبر الإنجازات التي عاشتها البلاد في عصره، والآخر رأى في أسلوب الإسقاط وطريقة الخلع ووسيلة التغيير ما ينبئ بأحداث جسام لا يعلمها أحد إلا الله والإخوان وبعض من جهات أجنبية وكيانات غير مصرية.
مراجعة الناضجين
الأحداث المصرية المتواترة على مدى الأعوام الـ12 الماضية كفيلة بإصابة شعوب الأرض بدوار وانعدام توازن. فمن حراك شارعي يومي دام لما يزيد على عامين ونصف العام، وما زالت أحداثه وحوادثه تثير شداً وجذباً بين علماء السياسة وكتاب التاريخ وخبراء الحراكات والحركات لوصفه وتصنيفه، إلى انكشافات سياسية واكتشافات اجتماعية ونكبات اقتصادية وتربصات ومكائد وردود فعل إقليمية وعالمية لم تطرأ على بال أو ترد على خاطر، يحقق المصريون تقدماً بطيئاً على صعيد مراجعة ما جرى بنضج أوفر وإعادة تقييم ما آلت إليه الأمور.
الأمور اليوم أبعد ما تكون عما كانت عليه أمس وأول من أمس. وما اعتقد قطاع عريض من المصريين أنه نهاية عقد بائس وبداية آخر "على مياه بيضاء" في عام 2011، اتضح أنه نهاية عقد لم يكن كله بؤساً، بحسب ما يؤكد البعض، وإن ظل بداية، لكن على مياه عكرة.
ما اعتبره البعض "عكارة" حكم مبارك ممثلاً في بزوغ نجم الإسلام السياسي وصعود جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في عام 2012، أو في هلهلة سياسية وانتقائية اقتصادية وعشوائية اجتماعية أثر في سير الأوضاع خلال سنوات ما بعد أحداث 2011 وما زال يؤثر.
التأثير الحقيقي لمبارك في المصريين لم تتضح كل معالمه بعد، فالتاريخ لا يكتب بين عقد وليلة. في مثل هذا اليوم عام 2011، طغت "يوفوريا" التغيير وأدرينالين الميدان والغناء الحماسي والغرافيتي الثوري على صوت العقل وتدبير المنطق والحكم المتأني على الأشياء.
على رغم تسلل المنطق والتدبر إلى عقول الملايين تحت ضغط استلاب الأحداث من قبل جماعات الإسلام السياسي ومجموعات المتطرفين والمتشددين الذين هيمنوا على الساحة وتمكنت إحدى جماعاتهم من الوصول إلى سدة الحكم في عام 2012، فإن تقييم سنوات حكم مبارك وفهم ما جرى لم يصل إلى مرحلته النهائية بعد.
استعراض المتغيرات
كمال الفهم لا يتحقق من دون استعراض سريع لمتغيرات وتقلبات، لا على ساحة الأحداث فقط بل في سياسات الأضداد أيضاً. جماعة الإخوان المسلمين وقريناتها من جماعات الإسلام السياسي والمتعاطفين مع فكرة الحكم الديني بدرجاته المختلفة سواء الديني الصرف أو المموه تحركت بسرعة ومن دون تريث من أقصى يسار معارضة مبارك والبهجة بسقوطه، إلى أقصى يمين الترحم على سعة صدره تجاه الإسلاميين ورجاحة عقله في إدماجهم أو تدجينهم تحت جناح الدولة، مكتفياً بعصا الترهيب والتقويم التي اعتادوها على مدى عقود.
بكاء الجماعة وقصر الرئاسة
عناوين صحف ومواقع الجماعة والمتحدثين باسمها صراحة أو من خلف الاستوديوهات والقنوات المموهة أو عبر التغريدات والهاشتاغات، ما تسلل منها إلى الترند أو بقي على حاله، يتذكرون حكم مبارك لمناسبة مرور 12 عاماً على تنحيه بكثير من النوستالجيا. حتى تلك الكلمات والعبارات التي تحاول الإبقاء على توازن التحليل وموضوعية تعليل أسباب البكاء على زمنه "الجميل" وحكمه "الرزين"، بعد أن كان يوم تنحيه يوم عيد، جميعها متخم بكراهية الحكم الحالي ومعاداة القائمين عليه وعلى الملايين التي دفعت به إلى قصر الرئاسة.
قصر الرئاسة كمكان له رمزيته يفرض نفسه على الساحة في مثل هذه الأيام من كل عام على مدى 12 عاماً مضت. وعلى رغم أن مسرح الحدث واحد فإن الأحداث والفصول من حوله تبدو متغيرة ليظهر في النهاية بشكل مختلف، في عام 2011 كان إسقاط مبارك غاية منى الشارع وكل أمل رافعي شعار "عيش حرية عدالة اجتماعية". وفي 2012 كان وصول مرشح جماعة الإخوان المسلمين، بغض النظر عن الاسم سواء خيرت الشاطر أو محمد مرسي أو حتى المرشد نفسه، الهدف من قبل قيادات وقاعدة الإسلام السياسي.
وفي عام 2013 استمر قصر الرئاسة محور الأحداث، لكن هذه المرة كانت الغاية إسقاط من فيه وما يمثله، والدفع بمن يملك القدرة على خلاص المصريين من براثن جماعة الإخوان المسلمين.
في عام 2014 لم يتغير الهدف من قصر الرئاسة، إذ تمثل في ضمان الجماهير وصول وزير الدفاع المشير عبدالفتاح السيسي آنذاك إلى القصر لتخليص البلاد والعباد من قبضة الإخوان، لتستمر الأبصار شاخصة لما يصدر من قرارات القصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خفوت الأدرينالين
مرت السنوات ليجد المصريون أنفسهم في 2023 ينظرون صوب قصر الرئاسة في يوم التنحي وهم أكثر قدرة على التقييم بعد خفوت الأدرينالين وهدوء العواصف. في كل عام يزداد المنطق قدراً والتعقل مكانة والحكم الشعبي صدقية.
صحيح أن صدقية سائق الأجرة الذي كان يسب ويلعن الغلاء طيلة سنوات حكم مبارك على المحك، لا سيما أنه مستمر في السب أثناء حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي، وكان والده ومن قبله جده يلعنان ما سبقهما من رئيسين وملك وولاة بالقدر نفسه من الغضب والحنق، وذلك لسيولة الغضب واستمراريته من دون مقصد بعينه أو هوى دون غيره.
صحيح أيضاً أن مستوى معيشة الغالبية المطلقة تأثر سلباً بسبب "هبات" اقتصادية عالمية وأخرى محلية وثالثة لم تطرأ على بال، إلا أن المعاناة الاقتصادية الحالية التي تضافرت فيها كل الظروف والأوضاع لتضع جموع المصريين في خانة "اليك" دفعتهم هذا العام إلى قدر أوفر من إعادة التقييم في مسألة التنحي.
ظاهرة إعادة النظر والتقييم الشعبي غير المخطط ليست جديدة. فعلها المصريون من قبل حين وجدوا أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما في عام 2013، إما الدولة وإما اللا دولة، إما الوطن وإما الدويلات والإمارات الدينية، إما النظام ولو كان عقيماً وإما الفوضى ولو كانت خلاقة.
في أوقات الأزمات يميل الحس الشعبي الفطري إلى السمو على الأيديولوجيات والترفع عن النعرات، باستثناء من وقعوا أسرى الإسلام السياسي. في أوقات الضغوط العارمة يظهر ميل شعبي واضح لترجيح كفة الدولة ولو كانت عميقة، ولرموزها ولو شاب بعضها شبهة فساد، وللوطن ولو كان قاسياً.
المكانة بالمقارنة
في عام 2013، وقبل أسابيع من غضبة الإرادة الشعبية التي لجأت إلى الشارع للمطالبة بإسقاط حكم الجماعة، عاد الرئيس مبارك إلى دائرة الضوء، لكنها كانت عودة سريعة لمتابعة أخبار المحاكمة وإخلاء السبيل والإقامة الجبرية. وقتها وضح للمرة الأولى منذ التنحي في 2011 نبرة شعبية متزايدة تحوي تعاطفاً مع الرجل، سواء لأسباب إنسانية بحتة أو بدوافع المقارنة السياسية والاقتصادية والأمنية بين ما كان قبل عام 2011، وما آلت إليه الأمور على مدى عامين.
لكنها كانت عودة قصيرة سرعان ما انصرفت الغالبية المطلقة بعدها لحال سبيلها وحال سبيل الوطن وأحداثه وحوادثه الجسام، لكن بدا واضحاً بمرور السنوات أن قطاعاً عريضاً من المصريين بات أكثر تسامحاً مع الرجل وسيرته.
عفا الله عما سلف
يستطيع الإعلام الغربي أن يكتب كما يشاء عن المصريين والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية. وفي مقدور المنصات الإقليمية أن تحلل الساحة المصرية كيفما تريد، حيث خبير سياسي يحكم على أداءات الحاكم السابق وآخر اجتماعي يعلل تصرفات الجموع الغاضبة. وفي استطاعة كل صاحب حساب على الـ"سوشيال ميديا" أن يكتب وينظر ويصدر الأحكام عن ملوك الأرض ورؤسائها، لكن يظل واقع الحال في الشارع المصري يشير إلى هامش أكبر من التسامح مع مبارك والتغاضي عن أخطائه ورفع شعار "عفا الله عما سلف" لأسباب ليست منطقية بالضرورة.
جانب من العفو في الذكرى الـ12 للتنحي يعود إلى مبدأ "اذكروا محاسن موتاكم"، وجانب آخر سببه اندمال الجرح بعد هدوء العاصفة، أما الجانب الثالث فيعود إلى صعوبة الأوضاع الاقتصادية الحالية. فعلى رغم يقين نسبة كبيرة من المصريين بأن صعوبة الأوضاع الحالية ليست حكراً على مصر، وأن غالب سكان المعمورة يعانون بدرجات متفاوتة جراء عامين من الوباء وحرب روسية لم تضع أوزارها على رغم مرور عام، فإن تفاقم المصاعب الاقتصادية الحالية بوتيرة سريعة وثقل متزايد وسع من حجم التسامح مع الرجل وعصره.
فساد واقتصاد ومبارك
في أغسطس (آب) عام 2011، أي بعد تنحي مبارك بنحو ستة أشهر، أظهر استطلاع لآراء المصريين أجرته مؤسسة "يو غوف" البحثية البريطانية أن 67 في المئة من المصريين يريدون محاكمة مبارك آملين في أن ينال عقوبة الإعدام. وزادت هذه النسبة بين الفئات العمرية الأصغر فوصلت 77 في المئة بين الفئة 18 و24 سنة، و70 في المئة في الفئة بين 25 و29 سنة.
عكس هذا الاستطلاع حرارة المشاعر حينئذ، وحماس الميدان المتأجج بالشعارات والغرافيتي، وبراءة المشاعر المتصورة أنه جرى شطب فصل من فصول التاريخ وفتح صفحة جديدة من صفحات المستقبل.
سئلت عينة من المصريين في هذا الاستطلاع عن أهم القضايا التي يعتبرونها ذات أولوية قصوى، وطلب منهم ترتيب القضايا بحسب الأولوية من قائمة ضمت 16 قضية. جاء "إعدام مبارك" في المرتبة الثالثة بعد "مواجهة الفساد" و"تنمية الاقتصاد" متقدماً على "إصلاح التعليم و"مواجهة البطالة" و"الرعاية الصحية".
لو قدر لاستطلاع مشابه أن يجري في شهر التنحي هذا العام، ولو كان مبارك على قيد الحياة، فإن غالب الظن أن مطلب محاكمة مبارك من الأصل، لا إعدامه، لن يذكر من قريب أو بعيد. بعد أعوام عجاف أمنياً واقتصادياً بدأت عقب انتهاء أحداث الأيام الـ18 في عام 2011، لم تعد الغالبية من المصريين معنية بمبارك ومطالب الحرية كثيراً. المطلب الأوسع انتشاراً والأعلى صوتاً والأكثر إلحاحاً هو تحسين الأوضاع الاقتصادية. حتى تلك الأصوات التي كانت تظهر في المواسم الثورية لشرح وتفنيد وتلخيص كيف أن الاقتصاد حلقات في سلسلة لا يمكن فصلها عن بعضها بعضاً أو التخلص من حلقة فاسدة واعتبارها خفتت هذا العام وتوارت بفعل موجة الغلاء ومعدل التضخم وسعر الدولار ووهن الجنيه.
موسم التنحي
اعتاد الخبراء في موسم التنحي شرح العلاقة الوثيقة بين أداء الاقتصاد المصري في سنوات ما بعد أحداث يناير 2011 وما قبله من ثلاثة عقود هي فترة حكم الرئيس الراحل السابق، لكن هذا العام مختلف. موسم التنحي الذي تحل بعده بـ19 يوماً ذكرى رحيله الثانية لن يشهد تفنيدات اقتصادية محترفة أو استحضارات سياسية موجهة. فقط، مراجعات شعبية يتوقع أن يعتري بعضها مشاعر الذنب أو توبيخ الذات على سوء التقدير أو طيش الاندفاع.
على رغم أن التاريخ لا يلتفت كثيراً للمشاعر أو يتوقف طويلاً أمام الأحاسيس، فإن إشارات ستذكر على الأرجح التغيرات التي طرأت على مواقف المصريين في محطاتهم السياسية والاقتصادية التي تلت التنحي. حتى محطة "مبارك" في مترو الأنفاق والتي أصبحت "الشهداء" بحكم محكمة القضاء الإداري بعد أسابيع من أحداث يناير عام 2011 ما زالت معروفة باسم مبارك بين كثيرين. لم يعد التفوه بالاسم أمراً مثيراً للحرج أو الريبة أو الخوف من "ثوار الميدان".
يوم وفاة مبارك قبل عامين، بكاه بعض المواطنين. وفي ذكراه الأولى ظهر عدد من محبيه في محيط المقابر لإحياء ذكراه. وفي ذكرى انتصار أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه توجه مواطنون لقبره أيضاً للاحتفاء بـ"صاحب أول ضربة جوية". في العام التالي، ظهر عدد أكبر في المناسبتين، صحيح أن العدد قليل ولا يمكن وصفه بـ"الجمهرة"، لكن يظل دالاً.
التاريخ لا يعتد بالمشاعر
بعد وفاة مبارك بأيام في 25 فبراير عام 2020 وبكاء كثيرين حزناً على رحيله أو تعاطفاً مع ما كابده من مصاعب في سنوات عمره الأخيرة، كتب أستاذ العلوم السياسية مصطفى كامل السيد تحت عنوان "مبارك وشهادة التاريخ" أن "التاريخ لا يعتد كثيراً بردود الفعل الوقتية هذه، وإلا لكانت فكرتنا أكثر إيجابية عن شخصيات تركت مسرح الحياة والسلطة بطريقة أو بأخرى، وبكاهم المواطنون، ولكن حكم التاريخ بعد مغادرتهم الدنيا بعقود، بل وأحياناً بسنوات قليلة، كان أقل رأفة بهم".
ووصف السيد عقد الثمانينيات (أثناء حكم مبارك) من الناحية الاقتصادية بأنه "كان عقداً ضائعاً في تاريخ مصر، وخصوصاً في نصفه الثاني الذي تباطأ فيه كثيراً معدل النمو". وأشار إلى أن عودة الاقتصاد للنمو في النصف الثاني من العقد الثالث لمبارك (2000 - 2010) وتجاوز النمو في ذلك العقد 5.2 في المئة في المتوسط سنوياً، "فقد كان نمواً لا تسقط ثمراته على الفقراء أو لا يبدو كذلك".
وأشار السيد إلى أن "الأرقام المتوافرة عن نسبة الفقراء أو توزيع الدخل لا تقطع بأن أوضاعهم كانت أسوأ مما عليه الحال في الوقت الحاضر، لكن المؤكد أن الخدمات التي يتطلع إليها الفقراء ومحدودو الدخل من تعليم ورعاية صحية ومواصلات عامة وسكن لائق في متناولهم وفرص عمل مناسبة لم تتحسن على رغم ذلك النمو في عهد مبارك إن لم تكن ساءت".
لكن الحكم على سوء الأوضاع أو تحسنها في العرف الشعبي لا يتوقف كثيراً عند نسبة النمو السنوي أو معدل التضخم أو قيمة الفائدة، كما لا يأخذ الأسباب العالمية ولا يلتفت إلى ربط الخبراء بين اقتصاد الأمس ومآله اليوم أو إدارة الأصول وجدولة الديون وآفاق التعديل وإمكانات التغيير. الحكم يتم بمقاييس أخرى تماماً بعضها لا يخضع للمنطق أو يتوافق مع العقل، لكنها تظل مقاييس.
ضعف الاقتصاد والديمقراطية
كشفت نتائج استطلاع للرأي أجرته شبكة "الباروميتر العربي" في الصيف الماضي عن تزايد نسبة المواطنين العرب الذين فقدوا ثقتهم في الديمقراطية كوسيلة لتحقيق الاستقرار والانتعاش الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. قال معظم المستطلعة آراؤهم في تسع دول عربية (لم تكن مصر ضمنها) إن الاقتصاد ضعيف في ظل الديمقراطية. مدير "الباروميتر العربي" مايكل روبينز قال وقتها "هناك اعتقاد متزايد بأن الديمقراطية ليست شكلاً مثالياً للحكومة ولن تصلح كل شيء".
كل شيء وعكسه وارد في السياسة والاقتصاد وكذلك في الأهواء على منصات الـ"سوشيال ميديا". وعلى هذه المنصات، شكل آخر من محاولات التسلل وجهود نثر الفتنة. صفحات دشنها أشخاص غير معروفين منها ما يحمل دعوة لترشح جمال مبارك النجل الأكبر للرئيس الراحل لرئاسة مصر، وهو الذي كان أحد أبرز عوامل غضب المصريين من مبارك الأب بعد أن أفسح له المجال لدخول السياسة من باب الاقتصاد وتنامي طموح الوصول للحكم لديه أو من حوله، كما أبى نجل الرئيس الراحل الأصغر علاء مبارك أن يختفي من على الساحة، فهو يغرد بين الحين والآخر، وكلاهما يظهر في عزاءات هنا أو أفراح هناك ويتم تداول صور التفاف بعض المواطنين حولهما لالتقاط الصور باعتبارها مقياساً للرأي العام، وهي ليست كذلك، أو معياراً للمزاج العام، وهي أيضاً أبعد ما تكون عن ذلك. في ذكرى التنحي هذا العام، لا يحتفل المصريون لا سلباً بلعن أيامه وذم أخطائه، أو إيجاباً بالترحم على أيامه والبكاء على أطلاله. فقط يحيون الذكرى بقدر أرحب من العفو وهامش أكبر من الحدس.