ملخص
تدور أحداث رواية #آش_دايفيدسون "ربيع الإدانة"، بين عامي 1977 و1978، في شمال #كاليفورنيا، داخل مجتمع ريفي صغير يقتات أفراده حصراً من قطع أشجار الغابة التي يعيشون فيها
لطالما ألهمت الغابة الكتّاب وأوعزت إليهم بقصص آسِرة. في الولايات المتحدة، تحضر إلى ذهننا فوراً أسماء ريتشارد باورز، مايكل كريستي، ريتشارد هاريسون وكارل مارلينتس... وإلى هذه الأسماء اللامعة، بات علينا إضافة اسم جديد، آش دايفيدسون، إثر إصدارها العام الماضي روايتها الأولى، "ربيع الإدانة"، التي حصدت إجماع النقاد الأميركيين على قيمتها الأدبية النادرة. رواية ضخمة (464 صفحة) تطلّبت من صاحبتها عشر سنوات لإنجازها، والنتيجة، بكلمة واحدة، رائعة!
أحداث "ربيع الإدانة"، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود" بعنوان "آخر العملاقة"، تدور بين عامي 1977 و1978، في شمال كاليفورنيا، داخل مجتمع ريفي صغير يقتات أفراده حصراً من قطع أشجار الغابة التي يعيشون فيها. شخصياتها غزيرة، أبرزها ريتش الخمسيني، وهو حطّاب، مثل والده قبله (الذي توفي سحقاً بجذع شجرة حين كان ابنه طفلاً) وجدّه (الذي توفي بالطريقة نفسها). منذ عقود، يعمل ريتش لدى شركة "ساندرسون" التي تستثمر الغابة، وتحديداً أشجار السيكويا العملاقة التي تنبت فيها ويدرّ خشبها ربحاً عالياً. زوجته الثلاثينية كولين تضطلع بدور القابلة في القرية، حين لا تلازم دارها، ولذلك تعرف جميع زوجات الحطّابين الذين يعملون مع زوجها، وتزورهن بانتظام في منازلهن المتفرّقة داخل الغابة.
قرية الحطابين
في صباها، غادرت كولين قرية الحطابين هذه لبضعة أشهر فقط، بغية عيش قصة حبّها مع الفتى الوحيد في مدرستها الذي تمكّن من دخول الجامعة، ثم عادت للإهتمام بأمها المنازعة وأختها الصغرى إينيد. هذه الأخيرة، بخلاف أختها المتنبّهة لكل شيء، مهمِلة ومتزوجة من حطاب معتوه يدعى يوجين، لكنها بعيدة كل البعد عن غباء زوجها. ومقابل الأولاد الستة الذين أنجبتهم منه، اختبرت كولين ثماني حالات إجهاض، آخرها جنين تشبّثت به داخل أحشائها ستة أشهر، قبل أن تفقده وتقع في حالة اكتئاب. لحسن حظّها، تمكّنت قبل هذا الفقدان من إنجاب طفل يدعى "شاب"، لكنها تريد بأي ثمن طفلاً آخر، بخلاف ريتش الذي يحاول بصمت تجنيبها إضافة مأساة إجهاض جديدة على سلسلة مآسيها السابقة.
منذ صباه، يحلم ريتش بامتلاك أرضه الخاصة والعمل لحسابه. وحين يعرض عليه أحد معارفه قطعة أرض في الغابة تقع فيها أعلى شجرة سيكويا في العالم، مقابل 250 ألف دولار، يطلب من مصرف البلدة قرضاً ويستخدم في السر، من دون أن يخبر زوجته، كل مدخراتهما لشرائها. أرضٌ لا عيب فيها سوى أنها معزولة، ويتوجب بالتالي على ريتش، كي يتمكن من استثمارها، الانتظار ريثما تصل إليها الطريق التي تشقها داخل الغابة شركة "ساندرسون". في هذه الأثناء، تدرك كولين من حبيبها الأول، دايفيد، أن الشركة المذكورة، برشّها بانتظام المبيدات وتلويثها مياه الغابة، هي المسؤولة عن حالات الإجهاض التي اختبرتها هي ونساء كثيرات حولها، وعن التشوهات الجسدية المختلفة التي ولد بها بعض أطفالهن، فتقف في صف الناشطين البيئيين الذين يكافحون من أجل فضح هذه الجرائم في حق الغابة وقاطنيها. لكن بما أن جميع الرجال في هذه الغابة حطابون ويعملون لحساب شركة "أندرسون"، ومن مصلحة ريتش شخصياً عدم إزعاج صاحب الشركة ريثما تصل الطريق إلى أرضه، يندلع الصراع بينه وبين كولين...
لسرد هذه الجدارية الريفية، التي يحضر كل شيء فيها صائباً ودقيقاً، تقدّم دايفيدسون بالتناوب وجهة نظر ريتش ووجهة نظر كولين. وأحياناً تدعو القارئ إلى التأمل في مشاهدها وأحداثها بعيني طفلهما "شاب". وبموازاة اهتمامها البالغ بالتفاصيل التي تتشكّل منها الحياة الزوجية والعائلية، تتناول ببصيرة، الصراع العنيف بين الإنسان والطبيعة، مصوِّرة إمعان الأول في تدمير بيئته وتسميم الأرض التي يعيش عليها، وانتفاض هذه الأخيرة أثناء منازعتها، طامرةً البيوت والطرق، تارةً بجرف طيني وطوراً بانزلاق أرضي أو فيضان، ومسمِّمةً مَن يسمّمها. وبقيامها بذلك، تحذّر الكاتبة من الأخطار التي تتربّص بنا من جرّاء تعنيفنا الطبيعة.
الكائنات الحكيمة
لكنّ قيمة روايتها لا تقتصر على ذلك، بل تكمن أيضاً في مدّها جميع شخصياتها بكثافة وتعقيد كبيرين، بما في ذلك الكلاب! وحدها الأشجار التي تسكن نصّها لا تحضر سوى كجذوع جاهزة للقطع، من دون أي صلة بتلك الكائنات التي تتمتّع بالحكمة والصواب، الحاضرة في رواية ريتشارد باورز، "الشجرة ــ العالم". أشجار تبدو بالأحرى شبيهة بتلك التي تسكن رواية كارل مارلانتيس، "النهر العميق"، ولا يدافع عنها بخجل سوى حفنة "هيبيين" يمقتهم الحطابون، بما في ذلك ريتش الرقيق الذي يرفض قتل أقل حشرة. وهذا التصوير مقصود وفاعل، تماماً مثل تجنُّب دايفيدسون الانحياز لأي طرف في المواجهة بين الحطابين والمناضلين البيئيين، بغية جعل معضلتهم وتمزّقهم قابلين للإسقاط في أماكن عديدة من عالمنا اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهذا ما يقودنا إلى مصدر فتنة روايتها الأول، أي ذلك التهديد الذي تنجح في جعله يحوم على طول سرديتها، من دون أن يستطيع القارئ أن يحزر من أين ستأتي الكارثة: من غضب الطبيعة أم من غضب البشر. وفي هذا السياق، تنجح أيضاً في خلق عالم مصغّر يعتمد قاطنوه كلياً على الأشجار لكسب قوتهم، ويردّنا في طبيعته إلى العالم الكبير، عالمنا، وإلى انتفاضات أرضنا الأم التي، بتخبّطها من جراء جراحها، تزعزع حياة كل من يسكنها وتضعها في دائرة الخطر.
ولا يكتمل عرضنا لمكامن ثراء هذه الرواية من دون الإشارة إلى الفسحة الكبيرة التي ترصدها دايفيدسون فيها لوصف مهنة الحطّاب الشاقة في غابات السيكويا في كاليفورنيا. وصفٌ يبيّن المخاطر المميتة لهذه المهنة بجعلنا ننزلق تحت جلد أولئك الذين يزاولونها، أثناء مزاولتها، فنراهم أقزاماً عند أقدام تلك الأشجار المعمِّرة التي يمكن أن يصل ارتفاعها إلى 100 متر (أي ارتفاع ناطحة سحاب من أربعين طابقاً!)، وقطرها إلى 30 متراً! ونرافقهم لدى تسلّقهم إياها بغية تشحيلها قبل قطعها، ثم نتأمل برهبة معهم سقوطها على سرير من الأغصان يعدّونه لها كي لا تتحطّم. سقوط مرفق دائماً بقرقعة وصراخ يقشعر لهما البدن.
باختصار، "ربيع الإدانة" حوار مزدوج وصامت بين زوج وزوجته، وبين الإنسان والطبيعة، وقصة حب رائعة بما يمكن أن يتخللها من رغبة وخيانة وإمكان مصالحة وتكفير عن الذنب. نصّ مكتوب بحبر سيّال وناجع، يحمل قارئه إلى الغابة ويريه كيف يتحوّل الفردوس إلى جحيم بفعل جشع الإنسان وعنفه.