ملخص
نجمتا المسرح الفرنسي #ساره_برنار و#إيفيت_غيلبرت كان لهما دور في حياة رائد التحليل النفسي #سيغموند_فرويد
كانت هناك كما هو معروف نساء كثيرات في حياة سيغموند فرويد. ولا نتحدث هنا عن النساء اللواتي كن شديدات القرب منه، من ابنته آنا التي كان يعتبرها وريثته في عالم التحليل النفسي، أو زوجته التي كانت على الدوام راعيته الحنون بل حتى مستودع أسراره "النسائية"! وصولاً إلى ماري بونابرت التي انتمت إليه فكرياً وقدمت له خلال السنوات الأخيرة من حياته مساعدات لا تقدر بثمن؛ بل نتحدث عن نساء بدأت علاقتهن به كـ"زبونات" لديه ليتولى تحليلهن نفسياً ثم ينضممن إلى عالمه العلمي ويصبح معظمهن مشتغلات بالتحليل النفسي تحت رعايته ثم يتابعن بعد انفصالهن عنه وعن نظرياته أو يتبنيها لينشرنها في أماكن ومجالات أخرى. ومن هنا لم يعد أحد يدهش حين يجد في الصور الجماعية لفرويد وتلاميذه أو في تلك الصور التي تلتقط خلال المؤتمرات العلمية لجمعيات التحليل النفسي في فيينا وغيرها عدداً كبيراً من نساء جالسات غالباً في المقاعد الأمامية. ولا فائدة هنا من إيراد أسماء حتى ولو كن قد أصبحن شهيرات لأن الأمر كان أكثر حضوراً من أن يعتبر استثنائياً جديراً بالتنويه.
شغف فني!
وبالطبع ثمة الكثير من الحكايات التي تزعم ارتباط فرويد العاطفي بتينك النساء أو تتناول بشيء من الثقة أذواقه النسائية وتفضيلاته الشخصية، لكن قلة فقط من تلك الحكايات تحمل شيئاً من اليقين. غير أن ثمة هنا ما يتعلق بتفضيلات نسائية لفرويد بشكل موثق في رسائل وكتابات خاصة لفرويد نفسه، من المدهش أن المسألة تبدو هنا خارج نطاق اهتماماته كمحلل نفسي لتنحصر في شغفه ذات حقبة من حياته بما لا يقل عن فنانتين فرنسيتين كبيرتين في نجمات المسرح الفرنسي في زمنهما. ولعل ما يمكن قوله في صدد أولاهما قبل أي شيء آخر أنها جرته ذات مرة ومن دون أن يكون لها يد في الأمر، للسفر ومن دون زوجته – التي كانت لا تزال خطيبته في تلك السنوات المبكرة – إلى باريس ليشاهد عرضاً لإحدى مسرحياتها. والحال أن في إمكاننا القول إن الأمر يستأهل ذلك وبالتحديد لأن تلك الفنانة لم تكن غير نجمة نجمات زمانها سارة برنار التي من المعروف أن ما من أحد ولا سيما في صفوف المفكرين والمبدعين الكبار – فكيف بالناس العاديين؟! – إلا وأغرم بها واعتبرها فاتنته. ومع ذلك سيبدو لنا من غير المتوقع أن يكون فرويد قد أغرم بها بدوره. بل لنقل أنه كان شغوفاً بها بالأحرى. حسناً فلنستعد تلك الحكاية من أولها قبل أن ننتقل إلى المرأة الأخرى التي سيبدو أن شغفه بها كان أعمق وأطول وأكثر خصوصية على أية حال.
بين ثيودورا وساره
حدث ذلك في عام 1885 خلال وجود فرويد الشاب في باريس. وكان عمره يدنو من الثلاثين سنة. في ذلك الحين إذ قصد مسرح "باب سان مارتان" ليشاهد عرضاً صاخباً للمسرحية التاريخية "ثيودورا" من تأليف فيكتوريان ساردو والتي تقوم فيها سارة برنار بدور الإمبراطورة البيزنطية التي وصلت إلى سدة العرش آتية من الحضيض إذ كانت في بداية صباها راقصة بائسة أنقذها من البؤس جمالها وذكاؤها اللذان قاداها إلى حياة القصر الإمبراطوري. ومن المؤكد أن السبب المباشر لرغبة فرويد في مشاهدة المسرحية كان مزدوجاً فمن ناحية كان يعرف الحكاية نفسها وتستهويه، ومن ناحية ثانية هناك سارة برنار في الدور هي التي كان يتابع نشاطها الفني ولا يتوقف عن إبداء إعجابه الصادق بها. وهكذا احتمل زمن العرض "الطويل في رأيي أكثر كثيراً مما يمكن للمشاهد أن يتحمل" كما سيكتب، في مقعد متعب لا يبدي فيه أي انزعاج. فهو الآن يحقق حلماً من أحلامه يتعلق بالإمبراطورة التاريخية كما بإمبراطورة المسرح الراهنة. وهكذا انتهى العرض وهو مسحور. وبالطبع لم يكن فرويد معروفاً في ذلك الحين ولا كان قد أصدر أياً من كتبه. كان مجهولاً تماماً وسط مجهولين. ومن هنا لم يسع على الأرجح إلى لقاء الفنانة بل اكتفى بكونه متفرجاً عادياً وخرج ليكتب لاحقاً في رسالة بعث بها إلى زوجته يحدثها عن تجربته في مشاهدة تمثيل تلك المرأة الفاتنة، تلك الليلة قائلاً "يا له من أداء عجائبي ذاك الذي راحت سارة برنار تؤديه! فهي منذ تفوهت بأولى عباراتها حتى شعرت كأنني أعرفها منذ زمن بعيد. كان صوتها سماوياً وجديراً بالتبجيل".
أمور لا تصدق
وبعد أن كرر فرويد في رسالته عبارات من هذا النوع أردف: "في الحقيقة لا تصدق طريقتها في الهمس والصرخ. طريقتها في التوسل حيناً وفي الإمساك بالأمور في أحيان أخرى! لا تصدق تصرفاتها، طريقتها في معانقة شخص ما. أسلوبها في تحريك جسدها كله والتحكم بحركة يديها ورجليها!" وإذ قال فرويد هذا كله وقد نسي حتى أن يذكر شيئاً عن المسرحية نفسها وعن بقية العناصر والديكور وبخاصة عن الجمهور ورد فعله على ما شاهد، بدا وكأن سارة كانت وحدها تصول وتجول على الخشبة فيما كان هو وحده جالساً على مقعده المزعج في الصالة! لكن هذا لم ينسه أن يختم رسالته ذاكراً أن العرض قد أصابه بدوار مؤلم! ما جعله يخلد إلى النوم بعدما منعه على الأرجح، أو على الأقل، كما يوحي في الرسالة، من محاولة اللقاء بالفنانة الكبيرة. وليس ثمة على أية حال من المعلومات التاريخية ما يشير إلى أي لقاء جرى بين الاثنين، لا في تلك الأمسية ولا في أية أمسية أخرى مع أن سارة سوف تعيش سنوات عديدة تالية تتواصل فيها مكانتها الفنية وتبجيل المعجبين لها. ولكن على العكس من ذلك كانت حكايته مع الفنانة المسرحية الفرنسية الأخرى إيفيت غيلبرت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صداقة طويلة
كان اللقاء مع إيفيت بعد مشاهدة فرويد سارة برنار بأربع سنوات وأيضاً في باريس. ففي عام 1889، وكانت إيفيت لا تزال صبية وتدخل عالم الشهرة والفن لتوها. ولم يكن فرويد بالطبع يعرف شيئاً عنها ولا سمع باسمها. أما همومه الباريسية هذه المرة فكانت مختلفة تماماً. كان هناك ليشارك في مؤتمر علمي دولي حول التنويم المغناطيسي. وحدث ذات ليلة أن قصد ورفاق له في المؤتمر صالة المولان روج، الصاخبة بحياتها البوهيمية وبالرقص والشراب وتمتلئ بالفنانين يتزعمهم الرسام تولوز – لوتريك. وكانت إيفيت غيلبرت ذات الرابعة والعشرين ترقص هناك وتغني. ولم تكن بعد قد أضحت تلك الفنانة المسرحية الكبيرة التي سوف تعتبر خليفة ساره برنار. ومع ذلك تنبه فرويد إلى موهبتها منذ سمعها تغني وشاهدها تتحرك في تلك الليلة. وكان انبهاره بها وبصوتها كبيراً. وهو هذه المرة تعمد أن يلتقيها ويتعرف بها وأثنى بصدق وعمق على مواهبها ولا سيما على أدائها الصوتي "الذي يليق بالمسرح". والحقيقة أن الفنانة والعالم ارتبطاً منذ تلك الليلة بصداقة عميقة لن تنقطع أواصرها لحظة ولا سيما بعدما تزوجت وصارت "مدام شيلر" وواحدة من أكبر فنانات المسرح في زمنها. بل ثمة صورة لها تحمل توقيعها ومهداة إلى "البروفسور فرويد" ظلت معلقة على جدار عيادة هذا الأخير حتى مبارحته فيينا بعد ذلك بسنوات طويلة.
ولو ساعة واحدة!
ولكن على رغم تلك الصداقة فإنهما لم يلتقيا كثيراً إلا حين يزور فرويد باريس أو تزور إيفيت وزوجها فيينا. ومع ذلك ظل فرويد يتابع أخبار إيفيت وفصول حياتها بل يحدث له في مرات عدة أن يعلق على عروض لها يشاهدها هنا أو هناك. ومن الجدير ذكره أن ثمة بين رسائل فرويد إلى إيفيت واحدة تعود إلى عام 1931 ويعلق فيها بعمق على عرض لها كان شاهده في تلك الآونة، تعليقاً بات شهيراً لاحقاً حول أداء الفنانة بتفاصيل تبدو اليوم مدهشة يشير فيها خاصة إلى دورها قائلاً: "لا يمكن القول إن الشخصية امحت بل ثمة بالأحرى عناصرتتعلق بالاستعداد المسبق لم تتمكن من أن تتطور، ولكن عادلتها في المقابل مشاعر أو رغبات مكتومة في تكوين الشخصية، قدرت على أن تسبغ على الشخصية سمة الصدق...". ويبدو على أية حال أن هذا الكلام لم يرق للفنانة، فردت عليه ولكن بلطف وعمق. وطبعاً سوف يبقيان صديقين ويلتقيها فرويد عام 1938 لدى ماري بونابرت. وقبل رحيله عام 1939 كتب فرويد لها ولزوجها رسالة وداع أخيرة ختمها قائلاً: "لقد أمضيت سنواتي الأخيرة وأنا أشعر بالغبن لأني لم أعد شاباً ولو للحظة استمتع فيها بسحرك...".