توفي الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، عن عمر 92 سنة، بعد تعرّضه لوعكة صحية ثانية خلال شهر، فغاب عن تونس رجل عايش تاريخها السياسي الحديث وأسهم في بلورته، منذ الاستقلال حتى نجاح الثورة.
وُلد قايد السبسي في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1926، في منطقة سيدي بوسعيد، شرق العاصمة التونسية، وتلقّى دراسته الثانوية في معهد الصادقية في تونس، وانتقل عام 1949 إلى باريس، حيث درس الحقوق في جامعة "السوربون" وحاز إجازة فيها، قبل أن يعود إلى بلاده عام 1952، ليباشر عمله في المحاماة.
الانضواء في حكم الرئيس بورقيبة
بدأ مسيرته السياسية في عمر الشباب في الحزب الحر الدستوري الجديد، وبعد نيل تونس الاستقلال عام 1956، عمل كمستشار لأوّل رئيس للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة، الذي تعرّف إلى ابنه خلال أعوام دراسته في باريس، من ثمّ عُيّن مديراً لإدارة جهوية في وزارة الداخلية.
وخلال فترة حكم بورقيبة، بين 1957 و1972، تولى قايد السبسي مناصب مهمة في الدولة، منها وزير الداخلية ووزير دولة مكلّف بالدفاع ووزير الشؤون الخارجية وسفيراً لتونس لدى باريس، لكنه استقال من منصبه كسفير عام 1972، داعياً إلى إدخال الديمقراطية إلى النظام السياسي، ما سبّب بإبعاده من الحزب الاشتراكي الدستوري عام 1974، مع مجموعة من القيادات المطالبة بالانفتاح السياسي.
الانتقال إلى المعارضة
أثناء فترة انضوائه في المعارضة، انضمّ إلى "حركة الاشتراكيين الديمقراطيين" عام 1978، وأشرف على إدارة جريدة "ديموكراسي" (الديمقراطية) المعارضة والناطقة بالفرنسية.
معارضته لم تدم طويلاً، إذ التحق من جديد بالحكومة عام 1980، كوزير معتمد لدى الوزير الأول، وتولّى بعد سنة حقيبة الشؤون الخارجية، لمدة خمس سنوات.
لعب قايد السبسي، على رأس وزارة الخارجية، دوراً مهماً في استصدار الإدانة الأولى والوحيدة من قبل مجلس الأمن لإسرائيل، على إثر غارة جوية إسرائيلية على مقرّ منظمة التحرير الفلسطينية في مدينة حمام الشط، في ضواحي العاصمة تونس.
وبعد انقلاب السابع من نوفمبر 1987، الذي أطاح ببورقيبة، انتُخب قايد السبسي رئيساً لمجلس النواب، عام 1989 في عهد الرئيس المعزول زين العابدين بن علي، وبقي في منصبه لسنة كاملة، ليعود ويترك الحياة السياسية عند انتهاء الولاية النيابيّة، عام 1994، متفرّغاً من جديد لممارسة المحاماة.
عودته السياسية مع ثورة 2010
بعد اندلاع الثورة التونسية في ديسمبر (كانون الأول) 2010 والإطاحة بالرئيس بن علي، عيّنه الرئيس المؤقت فؤاد المبزع رئيساً للحكومة المؤقتة، في 27 فبراير (شباط) 2011، ونجح خلال ثمانية أشهر بإجراء أوّل انتخابات ديمقراطية في تونس، انتُخب فيها أعضاء المجلس الوطني التأسيسي لصياغة الدستور، ورئيس الجمهورية المنصف المرزوقي.
عام 2012، أسّس القايد السبسي حزب نداء تونس، عقب فوز حزب حركة النهضة الإسلامية بالانتخابات عام 2011، بغية إحداث توازن في البلاد، وفق قوله. وفي الانتخابات التشريعية في أكتوبر (تشرين الأول) 2014، تمكّن "نداء تونس" من حصد 86 مقعداً من أصل 217. وبعد منافسة حادة بينه وبين المرزوقي، فاز قايد السبسي برئاسة الجمهورية في 21 ديسمبر 2014، لولاية تمتدّ 5 سنوات، ليصبح أوّل رئيس منتخب بشكل مباشر بعد الثورة.
تجنيب البلاد حرباً أهلية
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستطاع السبسي تجنيب تونس الدخول في حرب أهلية بين المعسكر الإسلامي والعلماني، عقب اغتيال زعيمين من المعارضة عام 2013، هما شكري بلعيد ومحمد البراهمي، إذ توصّل إلى اتفاق مع زعيم النهضة راشد الغنوشي لتكوين حكومة ائتلاف وكفاءات تصل بالبلاد إلى الانتخابات وصياغة دستور حداثي. فأصبح السبسي جراء ذلك الشخصية الأبرز على الساحة السياسية في البلاد. وأدّت قيادة السبسي الحكيمة للبلاد إلى نيل تونس جائزة نوبل للسلام عام 2015، بعدما أدارت منظمات من بينها اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة ونقابة المحامين ورابطة حقوق الإنسان حواراً وطنياً بين الفرقاء.
حقوق المرأة وخلافات حزبية داخلية
وعلى الرغم من تحقيقه قسماً كبيراً من الأهداف التي عمل من أجلها، رحل السبسي من دون أن يحقّق رغبته في إقرار قانون يحفظ المساواة في الإرث بين النساء والرجال، إذ يلقى هذا الطرح رفضاً من الجهات المحافظة في تونس. لكنّه استطاع خلال ولايته إلغاء تعميم يمنع زواج التونسية المسلمة من غير المسلم، علماً أنه من أشد المناصرين لحقوق المرأة.
وبينما أكدّ السبسي مراراً أن لا رغبة لديه في الترشّح من جديد للرئاسة، واجه في السنوات الأخيرة انتقادات واسعة اتّهمته بالسعي إلى توريث ابنه، حافظ قائد السبسي. لكنه كان ينفي ذلك، قائلاً إن من حق ابنه ممارسة السياسة وإنه لا يمكن إقصاؤه. غير أن هذه الاتهامات والمشاكل داخل "نداء تونس"، دفعت بالعديد من نواب كتلته إلى مغادرة الحزب، فتراجع حجم الكتلة من 86 نائباً إلى 37.