Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عدم الانحياز الجديد وإشكالية الهيمنة العالمية للدولار

كتلة تضم نصف البشرية وقرابة خمس اقتصادها ويريحها تخفيف سيطرة العملة الخضراء

باتت الأسواق السوداء للدولار واضحة في دول كثيرة (بيكسلز.كوم)

ملخص

تقف منظومة عدم الانحياز خارج الاستقطاب بين أميركا والصين. إنها دول تشكل نصف البشرية وخمس اقتصادها لكنها تعاني ضغط الدولار عليها. وإذا خففت العقوبات الغربية، سيخف ضغط الدولار وتترسخ مكانته.

تتالى كتابات في الإعلام العام الغربي محورها السعي إلى توضيح ملامح منظومة عدم الانحياز الجديدة وموقعها حاضراً، أي في زمن حدوث "تحول جذري في النظام العالمي" وفق تعبير المستشار الألماني أولاف شولتز في مقال شهير نشرته مجلة "فورين أفيرز" أخيراً.

وربما لأن الشيء بالشيء يذكر، خصصت "فورين أفيرز" التي تنطق بلسان "مجلس العلاقات الخارجية الأميركية"، عددها لشهري مايو (أيار) ويونيو (حزيران) 2023، لتناول الأبعاد المتعددة في المنظومة الجديدة لعدم الانحياز.

وأخيراً، تبدى أن مجلة "إيكونوميست" تسير في ذلك السياق نفسه، إذ أفردت مقالاً رئيساً مطولاً في عددها الحالي للأسبوع الأخير من (نيسان)، لتفحص مدى استمرارية قوة الدولار الأميركي، والحدود التي تقف عندها هيمنته على الاقتصاد العالمي التي لا تزال مستمرة منذ قرابة 75 عاماً.

تخفيف العقوبات الأميركية يفيد واشنطن

لقد استعاد ذلك المقال نفسه الذي ظهر في قسم "القادة" في تلك المجلة نفسها، أن الشكوى من هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي الذي تنفرد العملة الخضراء بـ90 في المئة من التعاملات بين الدول فيه، لا تقتصر على مناوئين للغرب، وليست وليدة عالم حرب أوكرانيا وما بعدها. ففي عام 1965، جأر فاليري جيسكار ديستان، إبان ترؤسه وزارة المالية الفرنسية، بالشكوى من "الحظوة الباهظة الثمن" التي يحوزها الدولار عالمياً. وحاضراً، تستمر العملة الخضراء في تشكيل 60 في المئة من احتياطات البنوك المركزية عالمياً.

في المقابل، إن المكانة المتفردة للدولار ليست مطلقة بالضرورة، وفق المقال نفسه. وعلى غرار صرخة ديستان في الماضي، وجه الرئيس البرازيلي لويز إيناسيو دي سيلفا دعوة إلى دول الأسواق الصاعدة إلى اعتماد عملاتها المحلية في تجارتها الخارجية. ويضاف إلى ذلك عوامل أخرى على غرار الصعود المتواصل لسعر الذهب وهبوط حصة أميركا في الاقتصاد العالمي، وقد وصلت إلى 18 في المئة حاضراً فيما كانت أكثر من النصف بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأشار المقال أيضاً إلى ظهور مشككين بهيمنة الدولار في الغرب وأميركا، شملت صفوفهم وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين التي حذرت من أن استمرار العقوبات الأميركية الواسعة، قد يلحق الضرر بالاقتصاد الأميركي نفسه. واستطراداً، لفتت يلين إلى أن عدم تطبيق العقوبات الأميركية على الهند التي تستمر في الاتجار مع روسيا، منع ظهور ردود فعل سلبية من نيودلهي كان لتظهر لو طاولت الهند تلك العقوبات.

وبحسب العدد نفسه من "إيكونوميست"، استطاعت العقوبات الغربية أن تلحق ضرراً بالغاً بالاقتصاد الروسي لكنه لم يتحطم لأسباب كثيرة تشمل أن 16 في المئة من تعاملاته الخارجية باتت تجري باليوان الصيني الذي لم يكن يشكل أي نسبة على الإطلاق في تعاملات الاقتصاد الروسي. وخلص ذلك التحليل إلى دعوة أميركا لإعادة النظر في طريقة استعمال العقوبات الاقتصادية، خصوصاً على دول غير معادية لها، لأن الحد الآخر من ذلك السيف الاقتصادي يتمثل في دفع الدول إلى إيجاد طرق للالتفاف على العقوبات، بالتالي، الاستمرار في الحيوية الاقتصادية بمعزل عن العملة الأميركية الخضراء. ومع اتجاه النظام العالمي نحو تعدد الأقطاب، لا تخدم العقوبات وابتعاد دول الأسواق الصاعدة عن واشنطن، مصلحة الاقتصاد الأميركي على المدى الطويل، على رغم أن الاستغناء عن الدولار ليس وشيكاً، لكن هذا المسار يميل إلى الاستمرار والترسخ.

منظومة جديدة لعدم الانحياز

في نفس مماثل، ظهر مقال مطول ضمن عدد "إيكونوميست" في منتصف أبريل 2023، يفحص مدى قدرة الغرب على السيطرة على منظومة عدم الانحياز الجديدة. واستهل المقال بتعريف تلك المنظومة التي تختلف عن كتلة عدم الانحياز التي ظهرت إبان "الحرب الباردة"، أي أثناء الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية في العقود الأربعة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية.

ووفق المقال، تندرج ضمن المنظومة الجديدة مجموعة الدول التي لا تريد أن تنحاز إلى الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، ولا ترغب في الالتحاق بالتجمع المقابل لها المكون أساساً من الصين وروسيا. ولم يفت المقال الإشارة إلى أن الكتلتين ليستا منسجمتين على طريقة انقسام العالم في زمن "الحرب الباردة". ولعل المثل الأقرب على عدم انسجام الكتلة الغربية، وفق المقال، يأتي من زيارة ماكرون للصين.

وتذكيراً، تضمنت تلك الزيارة مجموعة من المواقف التي أثارت جدالات واسعة، لعل أبرزها تشديد ماكرون على ضرورة الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا عن أميركا، إضافة إلى التركيز على عدم وجود مصلحة لأوروبا في تصعيد الأزمة في تايوان.

وفي السياق نفسه، استطرد المقال المشار إليه آنفاً ليورد أن قرابة 100 دولة تضم ما يزيد على نصف البشرية، تقف خارج ذلك التجاذب الكبير في النظام العالمي المعاصر.

وكذلك لاحظ المقال أن تلك الدول لا تشكل كتلة منسجمة، لكنها تتضمن قرابة 18 في المئة من الاقتصاد العالمي، ما يساوي حجم الاقتصاد الأوروبي مجتمعاً في الاقتصاد العالمي، ولا يقل أيضاً عن حصة الولايات المتحدة فيه. وتمتلك تلك الدول نفسها مصلحة في الابتعاد عن ضغط العملة الخضراء على اقتصاداتها، خصوصاً تلك التي تعتمد اقتصادياً على مبيعات الطاقة أو المواد الأولية الخام.

ووفق المقال نفسه، تميل منظومة عدم الانحياز الجديدة إلى الارتياح في التعامل مع روسيا بعملاتها المحلية والروبل، في سلع أساسية كالغذاء والمعادن الثمينة ومشاريع الطاقة النووية.

وتذكيراً، تعتبر روسيا الدولة الأولى في بناء المفاعلات النووية المخصصة للطاقة، إذ تبني وحدها نصف ما يشيد منها عالمياً منذ عقود طويلة.

ولاحظ ذلك المقال أن دول عدم الانحياز ترحب أيضاً بالتعامل مع الصين بالرنمينبي والعملات المحلية، خصوصاً في مبيعات الطاقة والمواد الأولية.

وكذلك تعاني معظم تلك الدول ضغوط الغرب عليها في شأن المعايير البيئية في الاقتصاد والصناعة والمواصلات والطاقة وغيرها، على رغم أن تلك الدول لم تسهم سوى بنسبة شديدة الضآلة في التلوث الذي تتصدر قائمته دولتا الاستقطاب العالمي، أي أميركا والصين، وتليهما الدول الصناعية الغربية الكبرى.

اقتصادات "التعاملات الـ25"

في سياق المقال نفسه، تبرز الدعوة فيه إلى ضرورة ملاحظة الميل البراغماتي القوي لدى 25 اقتصاداً كبيراً بين الدول التي لم تفرض عقوبات على روسيا، ويشار إليها بمصطلح دول "التعاملات الـ25" Transactional- 25، على غرار ميل الهند إلى توسيع مبيعاتها من إنتاجها الضخم من السلع الإلكترونية، وتجارة تركيا في الأسلحة والطائرات المسيرة، إضافة إلى ميل دول كتلة البترودولار للاستثمار في اقتصادات خارج الغرب وغيرها.

وخلص ذلك المقال نفسه إلى ضرورة أن يستعمل الغرب مزيجاً من العقوبات الدقيقة الذكية، بمعنى ألا تصيب الشعوب قبل تحقيق أهدافها، والمعونات والاستثمارات في دول منظومة عدم الانحياز الجديدة.

في منحى نقدي، يمكن ملاحظة أن التجربة الواسعة مع العقوبات الاقتصادية الغربية على مدى عقود طويلة، لم تكن إيجابية، بل يرى البعض أنها لم تفعل سوى زيادة معاناة الشعوب وإرباك مساراتها في التنمية الاقتصادية، بالتالي ربما يكون تخفيف سلاح العقوبات خياراً لاستمرار جاذبية خيار الدولار عالمياً، إلا أن ذلك الخيار ليس بالسهولة الذي يبدو عليه. ففي أميركا مثلاً، يسهل فرض العقوبات حتى على دول غربية حليفة، كما حدث أخيراً مع أوروبا، لكن الانقسام الداخلي المتصاعد يجعل تخفيفها أو التخلي عنها خياراً شائكاً.

وفي ما يتعلق بالاستثمارات، أدت حرب روسيا في أوكرانيا وتزايد الميل إلى العسكرة والإنفاق على التسلح، إضافة إلى ضغوط التضخم وأسعار الطاقة وغيرها، إلى تقليص قدرة الدول الغربية، خصوصاً أوروبا، في تقديم المعونات والاستثمارات. يبقى أن كتلة البترودولار تقدر بتريليونات الدولارات، تحتفظ بالقدرة على إعطاء المعونات والانخراط في الاستثمارات بأنواعها، في الدول غير الغربية. وربما تكون تلك الكتلة التي تمسك دول الخليج العربي بمعظم مقاليدها، عنصراً محورياً في تحديد مآلات المسار المترجرج للاقتصاد العالمي.

المزيد من تقارير