Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البرازيلية كلاريس ليسبكتور تروي قلق ولادة لا ينتهي بالموت

في رواية "ماء حي" سرد تجريبي بين اللحظة والأبد وخروج على المألوف

الروائية البرازيلية الكبيرة كلاريس ليبسكتور (دار الآداب)

ملخص

في رواية "ماء حي" سرد تجريبي بين اللحظة والأبد وخروج على المألوف

تترنح الكتابة في رواية "ماء حي" للكاتبة البرازيلية كلاريس ليسبكتور (1920 - 1977) حين تقرر "الراوية" أن تعيش اللحظة، بما هي ولادة وموت، تلاحق فيها على ما يبدو تدفق الكلمات/ اللحظات. الكلمة بوصفها نغماً يسكن الصمت، لكنها أيضاً اللحظة الهاربة العصية على الثبات.

في رواية" ماء حي" (دار الآداب)، يغيب التقليد وتطغى الكلمات لتعبر بنا إلى أرض الشعر والأسئلة المثيرة للدهشة في غابة من الكلمات. فهي كناية عن رسالة سردية تتحدث فيها "الراوية" إلى حبيبها السابق كما لو أنها تتحدث إلى نفسها. تعيش "الراوية" التي لا نعرف اسمها –بل هي على ما توحي كلاريس ليسبكتور كاتبة الرواية نفسها- لتعبر فيها عن قلقنا الوجودي- قلقنا جميعاً. وإن فاجأتنا عرضاً في سياق سردها بتسمية شخصية الرواية الوحيدة "ديانا الصيادة"، بكونها تتشبث باللحظة الهاربة بواسطة الكلمة التي كتبتها أو اصطادتها. هي ليست كاتبة فحسب. هي أيضاً رسامة تحاول فهم الغموض برسم أكثر غموضاً، وتسعى من خلال الكتابة أن تفعل الشيء نفسه في صمت الكلمات. وتنشأ علاقة ما بين نصها المبتكر الذي يخرج عن كونه سرداً تخييلياً، إلى السرد التفكيري الذي تستعين فيه كلاريس ليسبكتور بمونولوغ تخاطب فيه" الكاتبة الرسامة" حبيبها السابق، بوصفه أداة تمكنها من القيام بهذا المونولوغ، لتشرح فيه الهذيان الفكري والروحي الذي تعيشه. ولكي تعبر عن هذا الهذي السردي تخرج كلاريس عن المألوف الكلاسيكي في السرد الروائي الذي مثلته الحقبة التي انتمت إليها في أربعينيات القرن الـ20 أو ما سمي جيل الـ45 وكانت من أبرز كتاب عصرها.

خارج المألوف

 نشرت "ماء حي" في عام 1973 بعد ثلاث سنوات من كتابتها. فهي ظلت تعمل عليها تعديلاً وإضافة إلى أن أفرجت عنها بعد ثلاث سنوات، لتفاجئ قراءها في خروج باهر على مألوف الكتابة الإبداعية وقيوده الرصينة. ليس فقط في التشتت الآسر للنص، بل في تراكيب الجمل واعتراض بعضها على التسلسل السردي، حين تقتحم فجأة جملة لا علاقة لها بتاتاً بما يجري الحديث عنه. شيء أشبه بالجنون. جازفت ليسبكتور بالسير فيه على خطى لا أحد. وربما كان شيئاً من خطة الرواية بل وثيمتها المتعددة في موضوعات وجودية تتشابك في ما بينها، لتشكل مجتمعة هذا القلق الوجودي الذي يبدأ لحظة الولادة بما هي لحظة حرية وانعتاق، ولا تنتهي بالموت، بل تستمر مع اللحظة "الآن"، الزمن الوحيد الذي تدور فيه أحداث الرواية.

والحدث هنا هو "الكلمة" التي كتبتها في اللحظة - الآن، لكنها لم تعد موجودة في اللحظة التالية. ولم يبق من إثبات عليها سوى الكلمة أو الجملة التي كتبتها في "تلك اللحظة"، لذا كان على الكاتبة أن تفكر في المستقبل فوراً لتعيش تتالي اللحظة بوصفها "الآن". وبوصفها أيضاً "أن تكون" بما تمثله اللحظة المكتوبة من عيش لكينونتها. وقد يظن البعض "أنني أهذي"، لكن الكلام كان للراوية وظلت تردده بأشكال وأشكال حتى نهاية السرد. وتفكك عبرها وعلى لسان بطلتها كل شيء، بل وتتشظى إلى الشيء ونقيضه من غير أن تمر كثير من الجمل السردية. تسأل حبيبها السابق وتجيب أو لا تنتظر الإجابة بحيث يتحول إلى مجرد ذريعة للكتابة والتفكير والتقريع المبطن الساخر منه، ومن نفسها ومن كل شيء، ومن العالم كله بكل مخلوقاته. تحاول الراوية مراراً الكشف عن أسباب قلقها من الموت، وتسعى بكل ما تملكه من حس وتشكيك، بما تربت عليه من قواعد وأنظمة، لكنها تقرر أن تضرب بهذه القواعد عرض الحائط وتستسلم للعبث والفوضى وكأنهما النظام الفعلي الذي يعيشه البشر وسط كم عجيب من اليقين الكاذب.

لعبة الكلمات

وعلى لسان بطلتها تلجأ ليسبكتور إلى لعبة الكلمات وتشتق تعابير غير موجودة في اللغة، وفق ما أوضحت المترجمة صفاء نجوان في المقدمة. وفي كتابة وعرة ولكن بتبسيط رقيق شاعري، تفضفض لحبيبها ولنفسها، في شكل تعمدت أن يكون غير مباشر، عن قلقها في شأن الحياة والولادة والحب والحرية والعلاقات بين البشر والحيوانات وأيضاً النباتات، والدين، كما علاقتها مع الموسيقى والألوان، والمغزى من استخدام كلمات مثل البداية والنهاية لوصف ما يمثل الأبدية، وهل هي تحمل المعنى نفسه من "دوماً". وتتساءل، إن كان ثمة ما يمكن تسميته بداية ونهاية، وإلا فما معنى استخدام كلمة الأبدية أو الخلود.

إن الأسلوب الرائع الذي اعتمدته كلاريس ليسبكتور للإعلان الفج عن "خروجها عن التقليد" أو "أن تتوقف عن أن تفعل ما يريده الآخرون" إن في الكتابة أو الولادة أو في وضع مقاييس لكل شيء، بما هو خروج عن المنطق، هو ما ميز عملها. ففي حين أن الولادة هي بالأساس فعل حرية، وكذا الموت، فإن العيش بالتوحد مع كل شيء الذي يتيحه عيش اللحظة بكل كينونتها المطلقة، هو ما يمنحها حس المغامرة في محاولة فهم نفسها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

البنية الفنية للرواية، كما صنفتها كلاريس ليسبكتور، هي أشبه برسالة، لكنها تنطوي أيضاً على قصيدة نثرية يمتزج فيها الشعر بالنثر، لتبلغ أرقى أشكال التعبير الإبداعي المفعم بالروحانية، بالتوازي مع الغموض الذي يحمل في باطنه تعدداً في القراءة والتأويل. فهي تكتب كأنها تشكل لوحة، وتطرح أسئلة وجودية عن الراهن ومستقبل العالم، في اللحظات المتلاحقة التي هي "الآن" تتحول إلى ماض مع اللحظة التالية وتترقب المستقبل في عيش اللحظة اللاحقة كتابة. وبمعنى أدق، نجد في السرد -على شاعريته- ثمة بحث عن العلاقة بين الجسد والفكر واللغة، بعيداً من النمط الواقعي، وإن كان أيضاً مزيجاً من سرد واقعي للمونولوغ الذي يجريه أي منا، وسط تلعثم الأفكار. فكيف والحال هذه، إن شاءت الراوية كتابتها لحظة بلحظة؟ وهو ما يمنع وجود موضوع مركزي تكتب عنه. فببساطة تكتب الراوية الحياة المحمولة في اللحظات التي تسارع إلى كتابتها قبل أن تتمكن من القبض عليها إلا من خلال الكلمة التي تكتبها في كل لحظة تعيشها.

النفس البشرية

وإن كانت البنية الفنية الفريدة للرواية غير مألوفة، فإن لغة السرد هي كذلك، إذ تبدو لغتها قوية ورشيقة ومثيرة للتفكير، وتؤجج الروح في بلاغة تعبيرها عما يعتمل في دواخل النفس البشرية، من تدفق فكري وروحاني مهما اتسم بالبساطة والسذاجة، أو دخل في دوامة العبث الذي تعيشه البشرية في أعمق تجليات التشظي. كأنه هو الغالب على نظام العيش "ألا يكون ثمة نظام بالأصل".

في مقدمة الرواية تصف المترجمة صفاء جبران أسلوب ليسبكتور بالخاص" باستخدامها الكلمات بطريقة غير نمطية، عدا عن انتقائها موارد دلالية ولفظية مميزة، والاستعمال غير التقليدي لعلامات الترقيم، سواء كان ذلك باللغة البرتغالية أو ما يعادلها بالعربية"، مما يجعل النص حالة فريدة من نوعها في الأدب، وفي عملية تنظيم الكتابة.

وكما أن الراوية غير قادرة على القبض على اللحظة، يجد القراء أن هذا النص الإبداعي عصي على الإمساك به، وسط هذا التدفق المتلاحق للحظات بوصفها عيشاً يعتمل بتدفق الكلمات والموضوعات التي يتداخل فيها عيش المخلوقات في صمت اللحظة وانبهارها. وبوصف الرواية نثراً شعرياً آسراً، لا يقلل من كونها مثيرة للدهشة التي تأخذنا فيها الكاتبة إلى التفكير في أشياء لا نفكر فيها أو لم نفكر فيها. أو ربما لا ننتبه إليها حين تعبرنا اللحظات الشاردة كي نتأمل في العيش أقله في "اللحظة" لنتساءل مع الراوية: "هل أنا حرة؟ ما زال هناك شيء ما يقيدني. أم أني من تتقيد به؟ وهناك أيضاً التالي: لست طليقة تماماً، لأنني متحدة بكل شيء، وعلاوة على ذلك، شخص واحد هو كل شيء. وليس ثقيلاً حمله لأنه ببساطة لا يحمل، بل يكون، يكون كل شيء".(ص38).

ربما لا تسوس الراوية شيئاً، كما تذكر ليسبكتور مستعينة بصوت شخصية الرواية الوحيدة، حين ينمو السرد ويترعرع في مونولوغ داخلي، قد يبدو مألوفاً لأي منا أو غريباً تماماً. هي  أو هو. أنا أو أنت أو" نحن" من نعيش على الهامش، على يسار من يدخل... والعالم فينا يرتجف.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة