ملخص
لا تزال كتابات جوردانو برونو (1548-1600) الفيلسوف الملقب بـ "النولاني" نسبة إلى البلدة التي ولد فيها، والذي أحرق حياً من قبل محاكم التفتيش البابوية بتهمة الهرطقة، غير معروفة جيداً في أوروبا عموماً وفي فرنسا خصوصاً، وقد بقي الاطلاع عليها محصوراً بعدد من الأكاديميين المتخصصين في فكره، والمهتمين بتاريخ العلوم والنهضة الأوروبية والكتابات الموضوعة باللغتين اللاتينية والإيطالية، ولا سيما أن قليلاً من كتبه ترجم إلى الفرنسية والإنجليزية.
لعل الاهتمام بفكر العالم والفيلسوف جوردانو برونو، أحد رموز الفكر الحر، في مواجهة السلطات الدينية والسياسية وأشهر ضحايا التعصب، قد بدأ مع شروع دور نشر فرنسية مثل "ڤران" و"لي بيل لاتر" بترجمة مؤلفاته الكاملة وإصدارها في مجموعة خاصة مرفقة بدراسات نقدية عبر كتب ثنائية اللغة، تحرر نصوص هذا العبقري من أسر التفسيرات التبسيطية والأساطير التي حيكت حولها، مظهرة راهنيتها التي تهم اليوم المشتغلين في الفلسفة والشعر وتاريخ العلوم والفنون الدرامية والمسرحية.
ويشرف على المشروع كل من إيف هيرسان المولود في باريس عام 1944 والمتخصص في فكر وفنون عصر النهضة الأوروبية، ونوتشيو أوردينه الذي غادرنا العام الماضي (1958 - 2023) ويعد من كبار المتخصصين بفكر جوردانو برونو.
وتصدر هذه الترجمات والدراسات النقدية تباعاً في طبعات أنيقة تحت رعاية "المعهد الإيطالي للدراسات الفلسفية" و"المركز الدولي للدراسات البرونية - جيوفاني أكيليكيا"، وتهدف ليس فقط إلى سد النقص الحاصل بسبب ندرة الترجمة، بل أيضاً إلى تقديم تحقيقات نقدية كاملة للنصوص الإيطالية واللاتينية التي خطها قلم هذا الفيلسوف الذي يُستشهد به كثيراً ويُقرأ قليلاً، وقد عُهد بالمشروع إلى فريق دولي من المتخصصين يتضمن نحو 20 مجلداً، بدأ أولها بالظهور لمناسبة الذكرى الـ 400 لوفاة برونو (17 فبراير (شباط) 2000)، كان آخرها صدور الجزء الأول من "ظلال المثل"، وهو أول كتاب نشره برونو في ترجمة فرنسية عن اللاتينية وقعها كل من سيباستيان غالاند وتريستان داغرون (ڤران، المكتبة الفلسفية، سلسلة "من بتراركه إلى ديكارت"، 2024).
أسطورة الكهف الأفلاطوني
وقد شكل صدور ترجمة هذا الكتاب الذي يعرض فيه برونو نظريته في المعرفة والتي تناقض أسطورة الكهف الأفلاطونية مناسبة لاستعادة حياة وفكر هذا الفيلسوف من خلال مجموعة من المقالات نشرت في أهم الصحف العالمية، ولعلها فرصة لتعريف القارئ العربي عليه وعلى أهمية كتاباته التي ترى في عالم الصور والظلال سبيل الإنسان الوحيد لمعرفة الحقيقة، ذلك أن الإنسان لا يستطيع أبداً، بحسب جوردانو برونو، الخروج من الكهف، وأن وصوله إلى الحقيقة محكوم دوماً بعالم الصور الذي يقيد بسلاسله النفس الإنسانية خلال اتصالها بالجسد، إذ إنها لا ترى الأشياء الحقيقية بل ترى ظلالها المتحركة.
وُلد جوردانو برونو واسمه الحقيقي فيليبو برونو عام 1548 في نولا، بلدة صغيرة قرب نابولي التي كانت تحت السيادة الإسبانية، وتلقى علومه في مدرسة محلية قبل أن يلتحق بجامعة نابولي حيث اكتسب ثقافة إنسانوية مستمدة من النقاشات الفلسفية بين الأفلاطونيين والأرسطيين، ودرس المؤلفين الكلاسيكيين واللغة والآداب اللاتينية وعلوم اللاهوت والجدل والمنطق.
وفي عام 1565 دخل برونو كراهب مبتدئ دير سان دومينيكو ماجورين أحد أكبر أديرة الدومينيكان أو الأخوة الوعاظ في نابولي، والمشهور بجودة تعليمه ومكتبته الضخمة التي تضم أمهات الكتب اللاهوتية والعلمية والفلسفية الموضوعة باليونانية واللاتينية، والتي خطها كبار الأدباء واللاهوتيين والفلاسفة كأفلاطون وأرسطو وتوما الأكويني وإيراسموس وغيرهم، أو تلك التي تُرجمت عن العربية والعبرانية والتي شهدت على مكانة رهبان الدير الرفيعة في دوائر العلم والبحث والمعارف، وهناك تابع باهتمام شديد دروس جوردانو كريسبو أستاذ الميتافيزيقا الذي اتخذ اسمه الأول تكريماً له، ثم ما لبث أن سيم كاهناً وأصبح أستاذاً لعلم اللاهوت، ومدافعاً شرساً عن فكر الفيلسوفين واللاهوتيين السكولائيين توما الأكويني وخلاصته اللاهوتية وبيار لومبارد المعروف بكتاباته التي تناولت عقيدة استحالة الخبز والخمر إلى جسد ودم يسوع المسيح، والتي أكدها مجمع لاتران عام 1215.
ومع مرور السنين بدأت ثقافة الراهب والكاهن الشاب تزداد تباعاً بفضل شغفه الشديد بالقراءة وقدراته الاستثنائية على الحفظ، وقد كان معجباً بأعمال إيراسموس (1466-1536) الفيلسوف الهولندي ورائد الحركة الإنسانوية في أوروبا الذي دعا إلى حرية الفكر واستقلاله عن السلطات الكنسية، وبالتوازي مع ازدياد ثقافته أبدى برونو اهتمامه بالتنجيم والسحر ونما شغفه المتزايد بالكوزمولوجيا على حساب اهتماماته الروحية واللاهوتية.
كتب الفلاسفة والمتصوفة
وقد قرأ نصوص الأساطير المصرية واليونانية والرومانية القديمة واُفتتن بمذهب العالم والفيلسوف ديمقريطس الذي تابعه أبيقور وشرحه كوبرنيكوس بصورة رائعة، وقرأ أيضاً كتب بعض الفلاسفة والمتصوفة اليهود والمسيحيين والمسلمين المترجمة إلى اللاتينية أمثال ابن جبيرول وديونسيوس المنحول ونيقلاوس الكوزاني وابن سينا وابن رشد وبرناردينو تليزيو، وتسربت إليه أفكارهم عن اتحاد الأضداد في الطبيعة وفي الله، وعن لانهائية الكون ولا مركزيته، من دون أن أنسى الإشارة إلى إعجابه الشديد بالخيميائي والطبيب والمنجم والساحر السويسري باراسيلسوس (1493-1541) وبفلسفة الألماني هاينريش كورنيليوس أغريبا الغامضة.
تداخلت هذه القراءات كلها في فكر جوردانو برونو الذي بدأ يبتعد شيئاً فشيئاً عن سكولائية توما الأكويني وفلسفة أرسطو التي دأبت رهبنته على التوفيق بينها وبين المسيحية، طارحاً كثيراً من الأسئلة ومعترضاً على بعض العقائد وتفسيراتها الكنسية مما أزعج رؤساءه.
وفي عام 1576 وبعد قضائه 11 عاماً في الرهبنة، ترك برونو الدير فجأة وتوارى عن الأنظار، ويقال إنه اشتغل بالتعليم في مدرسة قرب جنوى متنقلاً بين كثير من المدن الإيطالية والأوروبية، عابراً جبال الألب باتجاه شامبري وليون وجنيف، معقل الكالفينية أيام الحروب الدينية التي اجتاحت أوروبا.
في جنيف تحول جوردانو برونو من الكاثوليكية إلى الكالفينية لكنه ما لبث أن انتقد المذهبين المسيحيين، كذلك انتقد الوحشية التي ظهرت في غزو الأوروبيين للأميركيتين، ولعله بدأ نشر أفكاره التي تقول بدين طبيعي يتماهى الله فيه بالطبيعة، فاستدعي للمحاكمة أمام محكمة كنسية تراجع خلال جلساتها عن أقواله وتعاليمه، وغادر برونو جنيف متوجهاً إلى مدينة ليون ومنها إلى تولوز التي عرفت آنذاك بعض التسامح في ما يتعلق بالصراع القائم بين الكاثوليك والبروتستانت، وفي استقبالها لليهود القادمين من إسبانيا والبرتغال.
في تولوز ألقى جوردانو برونو عدداً من المحاضرات تناولت كتاب "النفس" لأرسطو الذي يعد من أشهر كتب الفيلسوف اليوناني، ونالت هذه المحاضرات شهرة واسعة بلغت أصداؤها بلاط الملك هنري الثالث الذي استدعاه إلى باريس طالباً منه تدريبه على تنشيط ذاكرته، ومعيناً إياه أستاذاً في الكوليج دي فرانس.
نقد الأكليروس
استمر جوردانو برونو في منصبه مدة عامين لكنه عام 1582 نشر رواية هزلية بعنوان "حامل المشعل"، انتقد فيها الرهبان والأساتذة المتحذلقين، وكان صدور هذه الرواية كافياً لجعله يترك العاصمة الفرنسية متجهاً إلى إنجلترا حيث أقام بتوصية من الملك في مقر إقامة السفير الفرنسي ميشيل دو كاستيلنو دو لاموفيسيير، وحيث كتب بعضاً من أهم كتبه وتعرف على ألمع الأدباء والمفكرين الإنجليز، وحظي بمقابلة الملكة إليزابيث الأولى نفسها، وامتدحها بعبارات أخذتها عليه محكمة التفتيش في ما بعد.
في عام 1583 ألقى جوردانو برونو بعض المحاضرات في جامعة أوكسفورد، فتحدث عن خلود الروح وعن نظرية كوبرنيكوس وغاليليو المتعلقة بدوران الأرض، على رغم أنها كانت محرمة من قبل الكنيسة آنذاك، منتقداً كل الذين رفضوها وعارضاً لأطروحته القائلة إن النظام الشمسي هو واحد من مجموعة نظم تملأ الكون اللانهائي في صورة نجوم وألوهية، وإن الأرض مجرد كوكب يدور حول الشمس، كذلك افترض أن كلاً من النظم النجمية الأخرى تشتمل على كواكب ومخلوقات عاقلة، فقوبلت هذه المحاضرات بانتقادات لاذعة، ولا سيما أن برونو قد ضمنها أفكاراً طاولت الكنيستين الأنغليكانية والكاثوليكية.
كتب جوردانو برونو نحو 50 كتاباً باللغتين اللاتينية والإيطالية، منها 38 نُشرت في حياته، وعرض فيها رؤيته الثورية للكون انطلاقاً من دعمه الأطروحات الكوبرنيكية، لكنه تجاوز كوبرنيكوس حين دافع عن كون مليء بعوالم لا عد ولا حصر لها، وقد كان يثير إعجاب الفلاسفة والعلماء من أنصاره وأخصامه على السواء، لسعة معرفته وللنصوص التي كان يحفظها ويتلوها غيباً بفصاحة قل نظيرها.
وفي أواخر عام 1585 عاد جوردانو برونو إلى باريس ليحاضر في جامعة السوربون منتقداً الأرسطيين، ثم ما لبث أن انتقل إلى بعض الجامعات الألمانية والتشيكية والسويسرية حيث استقر ونشر بعض مؤلفاته الموضوعة باللغة اللاتينية والتي، كما دوماً، أثارت زوبعة من الانتقادات جعلت من الكنيسة اللوثرية تعبر عن رفضها تعاليمه.
غير أن الصدامات والانتقادات التي أثارتها أفكاره في الأوساط الكنسية والأكاديمية لم تمنعه من متابعة نشر أعمال عكست رغبته في تنظيم أفكاره في مجال الكوزمولوجيا والرياضيات والهندسة والفلسفة واللاهوت وتنشيط الذاكرة، وها هوذا يتعرف على نبيل فينيسي يدعى جيوفاني موسينيغو، أمِل في أن يعلمه برونو فن الذاكرة والاختراع، لكنه سرعان ما اختلف معه فاحتجزه ثم اتهمه بالكفر وأبلغ عنه محاكم التفتيش في البندقية حيث سجن.
قبل دخوله السجن كانت فلسفة جوردانو برونو قد اكتملت، ولو أنها لم تصل إلى مرتبة الوضوح والترابط المنطقي، فعناوينها مقتضبة ومضامينها صيغت بأسلوب شاعري بعيداً من المنهجية الفلسفية المتسقة، ولعلها أقرب إلى الشذرات الصوفية والفلسفية التي تتضمن كماً من المجازات البلاغية والرموز إلى جانب الفرضيات والأفكار الثاقبة.
مسائل لاهوتية وفلسفية
وفي نصوص جوردانو برونو براعة الكتاب المسرحيين الإيطاليين ومرح شعرائهم وتهكمهم في معالجة المسائل اللاهوتية والفلسفية، وفي أفكاره دعوة إلى إصلاح ديني يتخطى الكاثوليكية والبروتستانتية، وفي رؤيته للكون الذي نعيش فيه اعتراف بأن الأرض والشمس ليستا مركز العالم، بل هما جزء صغير من اتساع لا يمكن إدراكه، وفي ما وراء العالم الذي نعيش فيه عوالم أخرى لا يمكن معرفتها، والفضاء والزمن والحركة أمور نسبية، ولربما كان هناك كواكب كثيرة تسكنها كائنات حية عاقلة، فهل مات المسيح من أجلهم كذلك؟
على أنه في هذا الاتساع الذي لا نهاية له هناك بقاء ثابت للمادة، ولما كان الكون لا نهائياً فلا يمكن أن يكون هناك "لا نهائيان"، فإذاً "الله" اللانهائي والكون اللانهائي هما شيء واحد، وليس هناك "مدبر أو علة أولى" كما قال أرسطو، بل هناك حركة متأصلة في كل جزء من هذا الكل، وليس الله عقلاً خارجياً بل هو القاعدة الداخلية للحركة، وهي طبيعته وروحه، وهو ليس موجوداً في "سماء عليا" بل في كل جزء من جزيئات الواقع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولئن كان العالم يتألف من عناصر ووحدات غير قابلة للانقسام فإن لكل جزء فرديته وعقله القائم بذاته، لكن حريته لا تعني تحرره من القانون بل تعني سلوكه وفق قانون طبيعته، وهناك في الطبيعة أضداد وقوى متعارضة، غير أنها في عمل الكون بأسره وفق "مشيئة الله" تتوافق كل الأضداد وتختفي، والحركات المتباينة للكواكب هي التي تحدث الانسجام في السماوات، ووراء التنوع الساحر في الطبيعة هناك وحدة أشد سحراً وروعة، تظهر فيها كل الأجزاء وكأنها أعضاء في كائن واحد، ومن ثم تكون معرفة الوحدة الأسمى هي هدف العلم والفلسفة، وهي الدواء الشافي للعقل.
هذا بعض من فيض أفكار جوردانو برونو الفلسفية التي قادته أيام جمود الكنيسة الكاثوليكية وخوفها من كل جديد واكتفائها بنصوص الكتاب المقدس إلى محاكم التفتيش، بعد أن مجد ديانة مصر القديمة في مرحلة عناقها مع الفيثاغورية والأفلاطونية، وقال إن الدولة في حاجة إلى الدين لكي تستطيع قيادة شعبها، ودافع عن حرية التعبير.
وانتقد بعض العقائد اللاهوتية ورجال الدين وشن حملة ضد التعصب والحروب الدينية، داعياً إلى استبدال الدين بالفلسفة وإلى إقامة الدولة القومية المستقلة عن سلطان الكنيسة الرومانية، وقد ظل جوردانو برونو في السجن ثمانية أعوام وحكم عليه بالهرطقة والكفر والزندقة وأُحرق حياً في روما وسط ميدان كامبو دي فيوري في الـ 17 من فبراير عام 1600، حيث يقوم اليوم تمثاله الضخم في تحد صريح للسلطة التي حكمت عليه بالموت، لكن أفكاره لم تمت معه بل جذبت في ما بعد انتباه كثير من المفكرين والفلاسفة أمثال الألماني لايبنتز والبريطاني تولاند وغيرهما، فلمع اسمه في الدوائر الفلسفية الألمانية منذ القرن الـ 18 وكان له تأثير كبير في حركة الفكر الفلسفي والعلمي، مما حمل بعض المفكرين الإيطاليين منذ أوائل القرن الـ 19 على إعادة الاهتمام بدرس كتاباته ونظرياته، ولعل قراءة نصوص هذا العالم والفيلسوف الذي سبق عصره والذي مزج في كتاباته بين الشعر واللاهوت والعلم والمفاهيم الفلسفية، والتي بين التاريخ والتقدم العلمي والفكري عمقها وصوابية بعضها، تتطلب انتباهاً شديداً شبيهاً بالانتباه الذي يوليه لاعب الشطرنج الجيد في مباراته.
وعلى رغم ترجماته الى لغات عالمية فإن المكتبة العربية تكاد تخلو من مؤلفاته لولا صدور كتاب واحد بعنوان "فلسفة العوالم المجهولة "اللانهائية والكون والعوالم" في ترجمة عن الإيطالية لياسر شرف، صدرت في مصر عن "دار اسكرايب" للنشر والتوزيع عام 2022، ولم يتسن لي الاطلاع عليها.