Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل فشل السودان في بناء دولة المواطنة؟

الإخفاقات طاولت المدنيين والعسكريين وتبقى معظم الأقاليم قائمة على أساس قبلي

أصبحت المناطق السودانية التي تقطنها إثنيات عدة مرشحة للأزمات مستقبلاً (اندبندنت عربية – حسن حامد)

ملخص

فشلت الحكومات المتعاقبة في فرض سلطتها على كامل المجتمع الذي يفترض بها تسيير مصالحه

منذ قيام انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018 وإسقاط نظام عمر البشير كانت هناك محاولات لإعادة ترسيخ الدولة، وحدث هذا الأمر في سياق مفاوضات دائمة بين المكونين المدني والعسكري، بدت فيها "دولة المواطنة" كشعار احتكرته السلطة المتمركزة في العاصمة السودانية، بينما في الأقاليم البعيدة حيث الموارد الطبيعية والنزاعات، برزت المجتمعات المحلية تبحث أيضاً عن سلطاتها بعد غياب زعمائها التقليديين والحكوميين في رحلتهم إلى الخرطوم، وبالموازاة توجهت أيضاً الحركات المسلحة تفاوض في نصيب زعمائها من السلطة في مقابل دمج أفرادها بالقوات المسلحة.

أمام هذا التنافس على السلطة خفتت أصوات بناء الدولة وبرزت التكتلات لحجز مقاعد في حكومة الفترة الانتقالية وجاءت المطالبة بإطالتها بمبررات شتى، وشقت الخلافات صفوف المدنيين ثم انتقلت إلى نزاع واسع بين صفوف العسكريين، فكان لا بد من إقناع الناس بأن سلطة الدولة باقية ولا بد من التحلي بالصبر لتثبيتها.

وبعد سقوط النظام السابق وزوال هيمنته "تكشف هيكل الدولة عن هشاشة كان يغطى عليها بالقمع الممنهج"، بحسب متابعين، فكان لا بد من العمل على بناء الدولة على أساس المواطنة.

تواجه الحكومة الحالية وربما لأعوام مقبلة قضايا الحكم والدستور والتشريعات والاقتصاد والهوية الثقافية والاجتماعية. فالدولة السودانية بصيغتها الحالية تفتقر إلى القدرة على إدارة التنوع الثقافي والمجتمعي، وإتاحة الفرصة للمشاركة السياسية والاقتصادية ضمن ثقافة وطنية موحدة. وإذا كانت هناك مؤشرات تمثلت في حدوث نزاعات وحروب أهلية في جنوب البلاد وغربها، فإن فشل الدولة التي احتكرت السلطة في المركز تجلى أخيراً في اندلاع الحرب الحالية.

عناصر التصادم

يمثل عدم الاستقرار تحدياً يعد الأكثر الأهمية بسبب تفاقمه نتيجة التغييرات المتكررة في هياكل الإدارة السياسية منذ بداية الحكومات الوطنية في السودان خلال الأعوام السابقة. ولم تنظر حكومة الفترة الانتقالية الأولى والثانية في عملية حقيقية لبناء الدولة، فالشعارات الرنانة التي جاءت بها الانتفاضة لم تترجم إلى واقع.

مسؤولية حل مشكلة ضعف الدولة القائمة منذ عقود تقع على عاتق السياسيين والعسكريين معاً في كل العهود السابقة، كما على النخب التي تبدأ وطنية ثم تنخرط في السلطة، لكن الانتفاضة لفتت أنظار العالم إلى هذه المشكلة التي تلعب في تفاقمها عناصر التصادم بين مبادئ الحريات السياسية للديمقراطية الليبرالية التي ينادي بها المكون المدني، وبين القمع الذي يمارسه المكون العسكري، وأحداثه المتمثلة في قمع الاحتجاجات وفض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة. مع ذلك تصالح المكونان ولكن حدثت انشقاقات داخل كل جسم منهما انتهاء بالخلاف الكبير المفضي إلى الحرب، وهناك أيضاً العوامل الاقتصادية وتأثير موجات التضخم العالمي في هيكل الاقتصاد السوداني الضعيف، وتفاعل العوامل الثقافية والاجتماعية المتجذرة في المجتمع.

وأصبح السودان دولة ضعيفة ضالعة في ارتكاب انتهاكات خطرة في حقوق الإنسان وطاردة لمواطنيها إلى الدول الأخرى، ثم أخيراً في دفعهم إلى أن يكونوا لاجئين. وظلت الدولة تعاني مشكلات الحكم والإدارة نسبة لغياب الديمقراطية، وأصبح الطابع العام ديكتاتورياً في معظم فتراته، وفق محللين.

ومنذ الاستقلال لم يمر على السودان عقد كامل من الاستقرار السياسي أو الاقتصادي، إذ لم تسمح النظم الحاكمة بأي إصلاحات اقتصادية، بل أهدرت الموارد بالنزاعات تارة والفساد تارة أخرى.

وعادة ما تتفاقم المشكلات القبلية في ظل النظم السلطوية لأنها تحاول إلغاء دور النظم المجتمعية وإذابتها على طريقة "فرق تسد" وإخضاعها لأغراضها السياسية، فتكون النتيجة تعطل وظيفة الدولة وضعف كفاءتها في إدارة المجتمع، الذي يكون قد تحول إلى كيان مستنفر يتحين الفرص لينقض على سيادة الدولة.

سلطة الأقاليم

وتدار معظم الأقاليم السودانية فعلياً من قبل نافذين قبلياً وبواسطة الحركات المتمردة التي يربط بينها رابط القبيلة، وهو يعلو على أي رابط آخر.

وتعود جذوره للنظام التقليدي القديم الذي تكون فيه المجتمعات مقسمة بشكل رئيس وفقاً للولاء لقبائل منتشرة على مساحة شاسعة، ولا تعترف بالحكومة. لذلك قام المستعمر بجعل زعماء الإدارات الأهلية بديلاً عنه بوصفهم حماة للقانون العرفي ويحكمون بصلاحيات محدودة، ومثله فعلت الحكومات الوطنية، وحتى حديثاً عندما يتم تعيين وال أو حاكم إقليم يكون تعيينه على أساس قبلي وليس لأية مقومات أخرى، ظناً أن ذلك يعالج النزاعات في هذه المناطق.

لكن النتيجة كانت عكسية تماماً، فقد سمح ذلك للسلطة باللعب على هويات هذه المجموعات القبلية التي تمنحها ولاءها، وهي القادرة على تغيير الزعماء بناء على مصالحها، ونتيجة لذلك فشلت الحكومات المتعاقبة في فرض سلطتها على كامل المجتمع الذي يفترض بها تسيير مصالحه.

وبشكل مواز قام النظام السابق خلال فترة النزاعات بموازنة سلطات حكام الأقاليم المعينين على أساس المحاصصات السياسية من خلال تعيين منافسين موالين للحكومة في الأقاليم نفسها، ويفسر هذا الأمر وجود رئيسين لإقليم واحد.

واستمر هذا الأمر حتى بعد الانتفاضة، فمثلاً إقليم دارفور تم توزيعه على خمس ولايات يحكمها قائد حركة تحرير السودان مني أركو مناوي الذي انتقل من التمرد ووقع "اتفاق سلام جوبا 2020" مع حكومة الفترة الانتقالية، وتحت إمرته حكام موالون للمكون العسكري.

ومن حيث المبدأ تبقى معظم الأقاليم قائمة على أساس قبلي أكثر منها على أساس جغرافي، غير أن كثيراً من رؤساء الأقاليم موجودون في الخرطوم.

ومع تزايد عدد حكام الأقاليم بدأت أنواع جديدة منهم بالظهور، بعضهم ضباط عسكريون سابقون أو متمردون سابقون. وعلى أرض الواقع، فإن منصب الحاكم القادم من تمرد سابق أو منصب تم الحصول عليه بعد التوقيع على اتفاق السلام أو الانضمام إلى تيار سياسي معين أكثر ديمومة في الغالب من منصب في الجيش الذي يشعر أفراده بالغبن فيتمردون على الحكومة. وأصبحت المناطق التي تقطنها إثنيات عدة مرشحة للأزمات مستقبلاً مع تزايد استخدام الأقليات لخدمة النظام.

خلل العلاقة

خلقت النظم العسكرية، لا سيما النظام السابق، خللاً في علاقة المجتمع مع نظام الحكم، وإن كانت العلاقة مع السلطة السابقة أيديولوجية عقائدية فإنها في هذه الفترة تتراءى فيها تبعات الإجراءات التي نفذها الفريق عبدالفتاح البرهان في الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول)2021، مع افتقارها لأي توجه سوى بصيص من التوجه السياسي حين يعلو صوت الأحزاب والمكونات السياسية، لكن تنعدم في كل النظم الشمولية الرابطة القانونية والوطنية التي يتجسد خلالها أساس العلاقة مع الدولة، ومن ضمنها الاعتراف بالتعددية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي حين يعتقد عدد من حكام الأقاليم أنهم يحكمون مناطقهم التي تعيش فيها مكوناتهم الاجتماعية، يطالب آخرون بتحديد مناطقهم بشكل واضح نسبة لوجود إثنيات نازحة فيها، مثل إقليم شرق السودان، مما يمكن أن يتسبب بتوترات يمكن استبعادها. ويبدو أن هذا التوجه يحاول إخفاء الزعماء القبليين وتعيين حكام مناطقيين، لكن حرص السلطة على الإبقاء على حكام يتمتعون بولاء مجموعتهم القبلية لينعكس على الولاء لهم، أكبر من حرصهم على السلام القبلي، بحسب سياسيين.

ولم يستطع الرؤساء في كل العهود العسكرية والديمقراطية التخلص من ذهنية التكتل القبلي التي انعكست على التكتل السياسي. ومما شجع على استمرار هذه السياسة أن المنطقة التي يوجد فيها حكام من قبائل عدة يميل الأفراد فيها إلى الاعتراف بسلطة الحاكم الذي ينتمي إلى قبيلتهم حتى لو كان هذا الحاكم يعيش في منطقة أخرى، وبهذه الطريقة يمكن لأي مجموعة سكانية ليس لديها حاكم من قبيلتها إلحاق نفسها بالمنطقة الأخرى التي يحكمها ممثلهم القبلي. ولذلك كانت التعديات على الأراضي ومناطق الرعي، لأن القادمين الجدد يستقوون بحاكم المنطقة من قبيلتهم على أراضي المجموعات الأصلية.

دلالات ارتباطية

هناك عوامل ذات دلالات ارتباطية مع فشل بناء الدولة، أهمها وأولها أن "المواطنة" لم تحظ بالاهتمام الكافي من جانب المشرع السوداني، بل لم يتم التوصل حتى الآن إلى صيغة دستور ديمقراطي تخضع الدولة والمجتمع لأحكامه، وينظم سلطاتها ويكفل الحقوق والحريات العامة لأفراد المجتمع وينظم علاقتهم مع الدولة. هذا يدل على عدم وجود توافق سياسي وأن المرحلة الحالية تفتقر إلى دستور ينظم عملية التفاوض السياسي وإدارة الاختلافات وفق شرعية دستورية يحتكم إليها الجميع.

والثاني أنه بعد ما يقارب خمس سنوات منذ إسقاط النظام السابق بتصنيفه الواضح على أنه نظام شمولي، لم تتشكل بنية النظام الحالي بعد ولم يحدد نوعه، وبدأ بمرحلة انتقالية بمشاركة بين المدنيين والعسكريين، ولم تنته الفترة الانتقالية بعد ولكن انتهى الحال إلى نظام عسكري يفترض أن يكون موقتاً، وخلال هذه الفترة إن كانت قصيرة أو طويلة، فإن من أهم سماتها أنها أفضت إلى تصعيد الأزمات والحرب.

أما الثالث فهو حاجة الدولة الدائمة إلى الخارج سواء أكانت في شكل مساعدات أم إشراف على حل الأزمات. فالنظام السابق على رغم تحديه للمجتمع الدولي في بداية الفورة الأيديولوجية خلال فترة العشرية الأولى، إلا أنه استعان بالصين لتسيير الاقتصاد والتجارة والاستثمارات للالتفاف على العقوبات الدولية كما استعان بإيران عسكرياً، ثم أشرفت الولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي و"إيغاد" على حل أزمة جنوب السودان التي انتهت بفصله عن الدولة.

ومثله تفعل الحكومة الحالية التي تعددت أقطابها الخارجية لدرجة مناداة بعضهم بإنزال الفصل السابع على السودان، وذلك من دون رؤية سياسية أو إستراتيجية واضحة. ويعود هذا الاندفاع والاستعانة بإدخال قوات دولية لحسم الخلافات السياسية من دون تمحيص لما يراد من المجتمع الدولي، للرغبة في تأجيل حل الأزمات والبقاء أطول مدة ممكنة في السلطة.

أما العامل الرابع فهو أن المتغير الجغرافي يلعب دوراً بارزاً في أزمة بناء الدولة، وإن كان يربط بين انفجار الأزمات في جنوب السودان سابقاً وإقليم دارفور ومنطقة جبال النوبة والنيل الأزرق أنها بعيدة جغرافياً عن المركز، بمعنى أن هذه الأزمات عملت على مدى عقود على تطويق الدولة السودانية من الأطراف حتى انقضت أخيراً على المركز وزادت إمكان انفجارها.

تجسيد المواطنة

وعلى رغم السعي إلى تطبيق الديمقراطية ومحاولة ترسيخ جذورها في مواجهة العسكرية، إلا أنه لم يظهر أي اهتمام بالتأكيد على بناء الديمقراطية نفسها من خلال ممارسات وسلوك الدولة تجاه مواطنيها قبل تنزيلها على نظام الحكم.

ولأن الدولة السودانية "أبوية" من الطراز الأول فإنه لم يتجل فيها تداول السلطة، وبالتالي تخلف تجسيد مفهوم المواطنة، ومن هذه التجارب يتضح أن السياسيين والعسكريين يفتقرون إلى مهارات بناء السياسات والإجراءات لتأسيس دولة المواطنة، إذ لم يكن لديهم أي دافع للتغلب على أشكال عدم المساواة، بل ظلت الحكومات تستثمر في هذا الشكل وخلقت إطاراً يتجسد فيه عدم تكافؤ الفرص.

وبدأ النظام السابق بسياسة التمكين وتسخير موارد الدولة وهيكلها الإداري للمنتمين إلى النظام، ثم جاءت الحكومة الحالية بعد الانتفاضة بسياسة "إزالة التمكين" وسقت المواطنين من الكأس نفسه، بأن سخرت الموارد للمدافعين عن الانتفاضة، واستبعد من التوظيف في أجهزة الدولة كل من لم تظهر عنده مشاعر ومبادئ ثورية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل