ملخص
تختصر قصة بلدة تروستيانتيس الأوكرانية الصغيرة حكاية المناطق التي حررها الجيش الأوكراني من الاحتلال الروسي، إنها مليئة بقصص التعذيب والقتل وفي الوقت نفسه الأمل والتفاؤل بالمستقبل.
ليس هناك من كان يعتقد أن الروس سيقدمون على الغزو حقاً، كما يقول عمدة بلدة تروستيانتيس الأوكرانية الصغيرة يوري بوفا، التي تقع على بعد 20 ميلاً (32 كلم) فقط من الحدود الروسية، إن الـ24 من فبراير (شباط) 2022 سيظل محفوراً في ذهنه إلى الأبد.
وبينما كانت الدبابات الروسية تتدفق عبر الحدود في الساعات الأولى من الصباح [في يوم الغزو]، لم تكن هناك قوات أوكرانية متمركزة في تروستيانتيس في منطقة سومي الشرقية في أوكرانيا، وكان سكان البلدة يعرفون أن العدو سيصل في غضون ساعات.
ويقول بوفا إنهم بذلوا قصارى جهدهم من أجل إبطاء التقدم الروسي. وأدى قطع الأشجار على الطرق عبر التلال والغابات المحيطة بـتروستيانتيس، إلى توقف رتل واحد من مركبات القوات الغازية لمدة يومين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بيد أن ذلك لم يكن كافياً. ويضيف بوفا "لم تكن هناك أربع أو خمس عربات مدرعة فقط، كما كنا نتخيل. وبدلاً من هذا، كان هناك رتل آخر يضم أكثر من 100 مركبة، بما في ذلك ما يصل إلى 60 دبابة وناقلة جند مدرعة، و20 شاحنة لنقل جنود إضافة إلى صهاريج وقود".
توغل الروس في تروستيانتيس في اليوم الأول من الغزو، مما شكل بداية للكابوس بالنسبة إلى سكان البلدة البالغ عددهم 21 ألف نسمة. ولقد سمعت عن محنة البلدة بعد شهر، أي في الـ27 من مارس (آذار) عندما تحررت من الاحتلال الروسي. وفي الأسابيع التي تلت ذلك [التوغل]، دمر جزء كبير من البلدة، وقتل المحتلون 49 من سكانها كما تسببوا في "اختفاء" 13 آخرين.
كنت في منطقة أخرى من أوكرانيا، ولم أكن أعرف أحداً في تروستيانتيس. غير أنني بدأت في الاتصال بأرقام هاتفية تمكنت من العثور عليها. وكان أول شخص يجيب على اتصالاتي موجوداً على رقم لـ"فندق تروستيانتيس". إذ أجابتني امرأة اسمها تاتيانا شيفتشينكو وهي مالكة الفندق، وكانت عادت للتو لتروستيانتيس. وكان بوسعي أن أسمعها وهي تحاول أن تكتم صوت نحيبها حين كانت تخبرني كيف دمر الفندق تماماً. ونهب كل ما يمكن سرقته، مثل أجهزة التلفزيون والثلاجات ومكيفات الهواء، بينما جرى تحطيم الأسرة والأثاث وحتى الأبواب.
ومع ذلك، قالت تاتيانا إنها شعرت، حتى خلال محاولتها استيعاب الدمار لمشروعها التجاري الذي قضت هي وزوجها سنوات في إقامته، بأنها محظوظة مقارنة بالآخرين الذين قتل أقاربهم أو تحولت منازلهم إلى أكوام من الأنقاض المتفحمة. إن مثل هذا الرفض للاستسلام إلى اليأس هو سمة كانت ستصبح أكثر وضوحاً في كل أنحاء أوكرانيا.
وأخيراً، تمكنت من زيارة تروستيانتيس، بعد أكثر من 15 شهراً من بدء الحرب التي كانت موسكو بدت على يقين من أنها ستستمر مجرد أسابيع. كان من السهل العثور على فندق تروستيانتيس في الشارع الرئيس في البلدة، إذ يقف سليماً متماسكاً ضمن صف من المباني ذات الوجوه الخارجية المحترقة والمدمرة. وتحتوي البلدة، التي تأسست في عام 1660، على كنائس لها قباب على شكل بصلة كما تضم قلعة محاطة بسور حجري مطلي باللون الأبيض، بني في منتصف القرن الـ18.
ونصب الروس أثناء الاحتلال مدفعية ثقيلة في الداخل، إذ حسبوا بشكل صائب أن القوات الأوكرانية لن تستهدف مبنى مدرجاً [في قائمة المباني التاريخية] ضمن الكنوز التاريخية. ولم يصب المبنى بأذى جراء القصف الأوكراني إلا أن جدرانه مليئة بثقوب أحدثها الرصاص الذي أطلقه الروس الفارون من مدافع رشاشة في وداع مليء بالنكد.
يحمل كل شارع بعض الندوب. محطة السكة الحديد والمتاجر والمطاعم والمباني السكنية التي كانت على أطراف ساحة كبيرة ومنتزه باتت أثراً بعد عين، إذ فجرت معظم كتل البناء بشكل لا يمكن إصلاحه. أما المنتزه فصار عبارة عن مزيج مخلوط بقوة من الإسفلت والتربة. وجثمت فوق قاعدة خرسانية عالية وسط هذا الخراب بشكل مخيف دبابة T-34 السوفياتية التي تعود لحقبة الحرب العالمية الثانية. وتتأرجح ببطء إحدى درجاتها بسبب إصابتها بنيران القذائف.
عندما وصل الروس، استولوا على الفندق وطردوا منه تاتيانا.
وقالت إنهم انطلقوا على الفور لإثارة الرعب في البلدة، التي غالباً ما كان سكانها يتعرضون للضرب أو الاعتقال، من دون أي سبب. وتضيف أن عديداً من الرجال أجبروا على خلع ملابسهم تحت تهديد السلاح والوقوف في الشارع طوال ليال شديدة البرودة.
وأردفت تاتيانا "لقد أرهبوا الناس ونهبوا المتاجر. وسرعان ما بدأوا في جمع الناس لإخضاعهم للتعذيب. لقد استخدموا الطابق السفلي في محطة السكك الحديدية لدينا كغرفة تعذيب، إذ فعلوا [بهم] ما يحلوا لهم"، مضيفة "لقد فهموا أننا كنا خائفين منهم وتصرفوا بمزيد من الغطرسة، لقد استمتعوا بذلك".
وتشير تاتيانا إلى أن اثنين من أصدقائها، وهما زوجان، كانا يركبان دراجتين عندما أطلق الروس النار عليهما من دون سابق إنذار. وماتت المرأة، إلا أن الروس "لم يسمحوا بنقل جثمانها لدفنه وظل هناك حتى رحل الروس".
تاتيانا ناشطة في مجال السياسة المحلية وكانت رئيسة لجنة الانتخابات المحلية. لذا خشيت أن يأتي الروس في نهاية المطاف للقبض عليها وتمكنت هي وابنتها من المغادرة في منتصف مارس إلى غرب أوكرانيا. كان كل من زوجيهما غادرا سابقاً والتحقا بالجيش الأوكراني.
وبدأت تاتيانا وزوجها في إصلاح فندقهما بمجرد أن غادر الروس، مستخدمين مدخراتهم إضافة إلى مساعدة تلقوها السلطات المحلية. ابتسمت ابتسامة ساخرة وهي تعرض صورة لباب الغرفة رقم 6، إذ تشير خربشة بالروسية إلى أن قائداً روسياً أقام فيها. سيكون الباب جزءاً من متحف يخطط لإنشائه [لتوثيق] احتلال البلدة.
إن الوضع في ساحة المعركة مختلف الآن إلى حد ما. كانت أوكرانيا تدفع بهجوم مضاد للاستيلاء على أراض أخرى تحتلها روسيا في الجنوب والشرق، وأصبحت المنطقة الحدودية غير البعيدة من تروستيانتيس ميداناً رئيساً لعمليات توغل عبر الحدود من قوات موالية لأوكرانيا. ونفذ الجزء الأكبر من هذه العمليات من مقاومين روس في إطار مساعيهم لإثارة المتاعب للرئيس فلاديمير بوتين. وتعرضت منطقة بيلغورود الروسية، التي تبعد وقتاً يتراوح بين ساعتين وثلاث ساعات بالسيارة من تروستانيتس إلى الأراضي الروسية، لقصف إضافة إلى عمليات إغارة.
لكن تروستيانيتس عاشت تجربتها الخاصة من نشاط حرب العصابات خلال الاحتلال الروسي. ينقل العمدة بوفا كيف حصلت تلك التجربة. ولد بوفا، وهو رجل قوي البنية مكتنز الجسم، في تروستيانيتس وكان سابقاً رجل أعمال. انتخب للمرة الأولى كعضو في المجلس البلدي عندما كان عمره 24 عاماً وشغل منصب عمدة البلدة لمدة 18 عاماً.
وكانت الاستخبارات البريطانية والأميركية حذرت الحكومة الأوكرانية من أن الروس أعدوا قوائم مفصلة بالأشخاص في الحكومة والجيش والشرطة والتعليم والناشطين الاجتماعيين ورجال الأعمال وغيرهم ممن يشتبه في أنهم سيساعدون في تنظيم المقاومة الذين وضعت أسمائهم على حدة من أجل الاعتقال أو الإعدام.
ويقول بوفا "كان علي أن أقرر ما إذا كنت سأبقى في مكتبي وأنتظر حتى القبض علي أو قتلي. كان سيكون هذا جنوناً. كان هناك نقص شديد في الأسلحة، إذ كان لدينا أربعة بنادق آلية فقط. وهكذا فإننا لم نكن نستطيع القتال بهذه [الوسائل المتاحة]".
أجرى هو ورفاقه اتصالات مع اللواء 81 الأوكراني العامل في المنطقة وطلبوا من أهل بلدته أن يقدموا معلومات استخبارية عما يجري داخل تروستيانتيس.
ويوضح بوفا الذي أصبح قائداً لقوات المتطوعين الإقليمية في تروستيانتيس أنهم "قالوا إن ذلك سيكون أكثر قيمة بكثير من أي قتال يمكن أن نخوضه نحن في ذلك الوقت".
بقي بعض الثوار الأوكرانيين داخل البلدة بينما عمل بوفا هو وآخرون من قواعد في الغابات بالقرب من تروستيانتيس، وجمعوا معلومات مفصلة عن القوات الروسية، بما في ذلك أماكن تناول الطعام والنوم ومكان وجود أسلحتهم الثقيلة وعرباتهم المدرعة في أي وقت.
كما ساعدوا في توجيه نيران المدفعية الأوكرانية إلى المواقع الروسية. وتعتقد الاستخبارات الأوكرانية أن أحد أوائل الجنرالات الروس الذين قتلوا خلال هذا الغزو لقي مصرعه في تروستيانتيس.
زار بوفا البلدة سراً مرتين ليظهر للثوار أنه كان قريباً وليرفع الروح المعنوية. وفي الـ21 من مارس من العام الماضي، شنوا مع القوات النظامية الأوكرانية هجوماً على قوات الاحتلال في محاولة لتحرير البلدة. لكن الثوار اضطروا إلى الانسحاب في أعقاب معركة شرسة. ويقول بوفا إن عديداً من الروس قتلوا بيد أن أحد الثوار سقط أيضاً. ومع ذلك، كانت القوات الأوكرانية تزحف تدريجاً على البلدة، أما الروس المحبطون الخائفون من فرض حصار عليهم ففروا ليلة الـ27 من مارس عبر الحدود عائدين إلى بلادهم.
تحدث إلي بوفا داخل مكتبه الكائن في مبنى الإدارة الرئيس في البلدة، الذي تعرض إلى النهب والتدمير من الروس، شأنه شأن المباني العامة والمجتمعية الأخرى في البلدة، على حد تعبيره. ولفت إلى أن "الروس خربوا ودمروا كل شيء. وقبل مغادرتهم بثلاثة أيام، أطلقوا حوالى 30 قذيفة دبابة على المستشفى الرئيس لدينا... كما دمروا بشكل متعمد المباني السكنية. كان ذلك خبثاً خالصاً".
ويعرب بوفا عن شكه في أن الأشخاص الـ13 "المختفين" كانوا بين أولئك الذين تعرضوا للتعذيب في القبو الكائن تحت محطة السكك الحديد. وعثر على اثنين من السجناء على قيد الحياة في الطوابق السفلية بعد فرار الروس. وقد تحدثا عن ضحايا نزفوا حتى الموت بعد أن قطعت أصابعهم. ويرتعش وجه بوفا بألم وهو يتذكر كيف أن أول ما طلبه الجلادون خلال تعذيب أسراهم وضربهم هو مكان وجوده.
ويذكر بوفا أنه عمل بلا كلل من أجل إعادة إعمار البلدة منذ تحريرها. دمرت أنظمة الكهرباء والماء والتدفئة أو خربت. كما سرقت سيارات الإطفاء وسيارات الإسعاف والحافلات وأي معدات قابلة للتحريك في البلدة. وأوضح أن الروس أخذوا حتى صناديق العدة الأساسية ودمروا ما لم يتمكنوا من حمله.
ويقول إنه كان يجب تنفيذ المهمات كافة بالتوازي مع بعضها بعضاً، وهذا لغز لوجستي ضخم. ومد العمدة يده [طالباً المعونة] وتواصلت معه 130 منظمة ومجموعة من أنحاء العالم، أبدت حرصها على تقديم المساعدة في إعادة بناء تروستيانتيس. وإضافة إلى ذلك، ساعد عشرات من الأفراد، وظهر كثير منهم من دون سابق إنذار للتبرع بالمال أو توفير الإمدادات أو لكي يشمروا عن سواعدهم للمساعدة.
ويقول إنه بات من الضروري استبدال [أشياء جديدة] بكل شيء من الطعام والملابس والأدوية إلى الأجهزة المستعملة في المستشفى وسيارات الطوارئ والحافلات "لإعادة بعض مظاهر الحياة الطبيعية".
ويضيف بوفا "لا يوجد اليوم مشردون في تروستيانتيس يعيشون تحت شجرة، لكل شخص سقف ما فوق رأسه".
إلا أن التوتر لا يزول على الإطلاق. [والبلدة لا تشعر] أبداً أنها في مأمن من العدو، لأنه قريب جداً من الحدود.
ولدى بوفا رؤية لإعادة إعمار تروستيانتيس باستخدام تصاميم مبتكرة من كل أنحاء العالم، على أن تؤخذ في الاعتبار عوامل مثل حاجات كبار السن أو المعوقين واستعمال تقنيات خضراء ملائمة للبيئة وتساعد في توفير الطاقة. ويقول "نحن نعلم أننا لا نستطيع اختراع كل شيء بأنفسنا عند البحث عن مفاهيم جديدة".
لذلك، فهو يعتقد أنه يتوجب على الأوكرانيين من أجل إعادة بناء بلادهم أن يقيموا شراكات مع مجموعات وأفراد في أنحاء العالم كافة لكي يتعلموا الطرق التي يتبعونها في دمج الثقافة والتعليم والمنتزهات والترفيه في تخطيط المدن.
ولهذه الغاية، سافر إلى الولايات المتحدة حيث يتابع مشاريع منها جعل "فلسفة جديدة لتصميم المنتزهات" طورتها مدينة تشاتانوغا في تينيسي، ملائمة من أجل التطبيق في تروستيانتيس. وكان في الشهر الماضي في لندن حيث حضر "مؤتمر إعادة إعمار أوكرانيا 2023"، الذي استضافته المملكة المتحدة وأوكرانيا، والهادف إلى ضمان قدرة أوكرانيا على العودة [من جديد] لتكون أقوى من الدمار الذي تعرضت له.
ويرى بوفا أن إعادة إعمار أوكرانيا يجب أن تبدأ حتى قبل انتهاء القتال. ويردف "لقد أتقنا بسرعة [استخدام] تكنولوجيا الأسلحة [الغربية] الجديدة التي حصلنا عليها. هذا شعب لم ينكسر على رغم الأهوال التي ذاقها على يد الروس، وأمتنا قادرة على إتقان التقنيات والأفكار بسرعة من أجل إعادة بناء بلدنا".
ويضيف أن كثيرين ماتوا لكي يضمنوا أن أوكرانيا ستحيا، وأنه "من الواجب قطف ثمار كل واحدة من هذه التضحيات، من خلال بناء مستقبل جديد كانوا سيفخرون به وليس إعادة خلق الماضي".
© The Independent