Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 البحر يطوف في الروايات ويحملها إلى ضفاف بعيدة

هذا الأزرق الساحر جذب الروائيين بجمالياته المضطربة وكنوزه الخفية

لقطة رهيبة من فيلم "موبي ديك" المأخوذ عن الرواية الشهيرة (ملف الفيلم)

ملخص

هذا الأزرق الساحر جذب الروائيين بجمالياته المضطربة وكنوزه الخفية

يغني بول إيلوار: "أمسك بموجة النهر مثل قيثارة"، يدعونا الماء للغناء وعزف الناي والكمان. يروي الظمأ، وتغتسل فيه الروح والجسد، ويغمر الذات كأنه يعدها بولادة جديدة. يتحدث باشلار عن "الماء سيد اللغة السائلة"، فاللغة ترغب أن تتدفق، والسرد العظيم ينساب انسياب الماء، ويتلاطم تلاطم أمواج البحر. إن الماء أصل الحياة، والإبداع في آن واحد، يشبه الموسيقى في جريانه والإحاطة بكل شيء حولنا. فماذا نعرف عن النصوص التي داعبها موج البحر؟ هل يكتفي المبدعون بالاسترخاء أمام أمواج الصيف أم إنها تلهب خيالهم؟ كأن هذا الغموض الهائل السيال أمامهم يخفي قصصاً عظيمة تنتظر من يكتبها!

معركة مع حوت

كان "إسماعيل" محبطاً وخالي الوفاض من الدراهم، فأحس أنه قد آن الأوان كي يركب البحر بأقصى ما يستطيع من سرعة. "إن في الماء لسحراً" فجر مغامرة "موبي ديك" لهرمان ملفيل، الرواية التي احتلت مكانة راسخة في الأدب العالمي. رحب "إسماعيل" بالخروج في رحلة لصيد الحيتان، وهيمنت عليه فكرة اصطياد ذلك الوحش المهول الغامض، وسرعان ما انضم إلى سفينة بيكود صحبة القبطان "أهاب" الذي قرر أن يخوض معركة لصيد حوت أبيض متوحش يدعى "موبي ديك".

قدم ملفيل أمثولة ملحمية تنضم إلى كبريات الملاحم الإبداعية من عينة الأوديسة والشاهنامة، لكنها ملحمة إنسان العصر الحديث وصراعه مع الوجود. للأسف لا أحد قدر نصه الضخم، إلا بعد 60 سنة من صدوره، فعاش ملفيل موظفاً في الجمارك، يعاني اليأس والإحباط، ولم ينظر إلى "موبي ديك" بوصفها رواية عظيمة إلا بعد رحيله بـ16 عاماً!

هيكل سمكة وصبي

بطريقة ما سار همنغواي على خطى ملفيل، فبطله "سنتياغو" صياد عجوز، ظل لأسابيع عاجزاً عن صيد أي شيء، إلى أن علقت في شباكه سمكة كبيرة في حجم قاربه، ودارت بينهما معركة طويلة إلى أن نجح في السيطرة عليها، لكن أثناء عودته هاجمته أسماك القرش ولم تبق له من سمكته إلا هيكلها العظمى فراح يعرضه بسرور أمام الناظرين. وعلى عكس سلفه الذي استطرد في الوصف والتحليل وطرح رواية في نحو 700 صفحة، كثف همنغواي روايته في قصة طويلة تزيد قليلاً على 100 صفحة.

أما "الموت في البندقية" فتمتعت بشهرة لا تقل عن "العجوز والبحر" وهي تقاربها في الحجم، رواية قصيرة كتبها توماس مان من وحي مدينة بحرية شهيرة هي البندقية، وفي حر الصيف الوهاج، لكن الرواية لا تدور داخل البحر، بل بالقرب من صخبه وهمسه من خلال شخصية روائي كهل يدعى "غوستاف" يأسره الجمال الغامض لمراهق يدعى "تاديو". لا يرى البحر مباشرة ولا تكتشف أعماقه، لكن همسه الجنوني يتسلل بين السطور.

وبدلاً من الصراع مع الطبيعة ومطاردة حوت أبيض شرس يسمى "موبي ديك"، أو صيد سمكة بحجم قارب، دار الصراع داخل الذات عن تلك العواطف الغامضة والجمال المريب، والوحدة التي يعيشها الروائي بطل الرواية رغم كل الصخب على شاطئ البحر من حوله.

الجزر الغريبة

كل ماء يعد بجزيرة، وليس ثمة كتاب ارتحل بنا عبر الجزر الغريبة مثل سفر "ألف ليلة وليلة" الخالد، فما بين الماء والماء تختفي جزر "الواق واق"، وتعد بالمكافآت العظيمة، أو الأخطار الجسام. رحلات تغوص بنا إلى مدن نائمة ومنسية تحت الماء، وكائنات لا مرئية تشاركنا الوجود. وعوالم لا يصل إليها إلا أبطال شجعان مثل "الحسن البصري"، وقد تختزل المهمة في تحرير أميرة مسحورة.

وعزفاً على "ألف ليلة وليلة" كتب روبرت ستفينسون روايته الشهيرة "جزيرة الكنز"، عن "الصبي جيم" الذي يعيش قرب البحر مع أمه، ثم تقع في يده خريطة لكنز في جزيرة نائية، فيخرج مع بحارة من أجل العثور عليه. إذن المطاردة هذه المرة ليست من أجل حوت ولا سمكة، بل كنز ضخم، لكن الجزيرة نائية والكنز في علم الغيب والسفينة تلاطم الأمواج في عرض البحر، والبحارة ليسوا أكثر من قراصنة متوحشين.

أما "أدموند دانتي" البحار الطيب على السفينة "فرعون" في رواية "الكونت دي مونت كريستو" لألكسندر دوما، فبسبب طمع وحقد وغدر الرفاق، دبرت له مكيدة انتهت به في سجن قاس مدى الحياة في جزيرة ألبا، ولم ينقذه منها إلا خريطة قادته إلى الكنز المدفون في جزيرة "مونت كريستو" ليصبح ثرياً حاملاً لقب النبالة، وقادراً على الانتقام من رفاق الأمس البعيد. فخلف البحر وعود ومفاجآت لا تخطر على قلب أحد من سكان البر.

توفر الجزر البعيدة فرصاً للتأمل والتفكر والنسيان ومداوة النفس، تسلحنا بعودة مظفرة وانتقام مضمون، كأن عبور الماء للوصول إليها، يعني عبور ذواتنا من كينونة إلى كينونة مغايرة. وهكذا تحول "إدموند" الطيب البريء إلى "الكونت دي مونت كريستو" الداهية. لكن ماذا لو عرف الآخرون سر الجزر، فلم تعد مغامرة فردية خفية؟ ماذا لو وصل إليها العشرات، وجلب السادة إليها قوانين البشر ووضعوها تحت سيطرتهم؟

انتهت المغامرات الفردية مع البحر وجزره العجائبية، مع انتشار الأساطيل والطائرات وسفن شحن العبيد للأراضي الجديدة. ففي "الجزيرة تحت البحر"، تروي إيزابيل الليندي حكاية العبدة "زاريتيه" التي انضمت مع العبيد الأفارقة لخدمة السادة البيض، لتفقد الجزر براءتها وسحرها وتصبح "مستعمرات" تدار بالحديد والنار. تقول الليندي: "كانوا يطلقون على جزيرتهم اسم هايتي، قبل أن يحول الغزاة اسمها إلى "إسبانيولا"، ويقضون على السكان الأصليين. فخلال 50 سنة لم يبق فرد واحد من الأراهواكيين حياً، ولو كنموذج: جميعهم ماتوا ضحية العبودية والأمراض الأوروبية والانتحار".

البحر بالعربي

في مقدمته لرواية "الشراع والعاصفة" للكاتب حنا مينا، يقول سعيد حورانيه: "البلاد العربية بمجملها واقعة على أطراف البحار، ولكننا منذ ألف ليلة وليلة، لم يعرف البحر سبيله إلى أدبنا!" ألا يبدو مبالغاً بعض الشيء؟ صحيح أن نجيب محفوظ ظل ملتصقاً بحارته القاهرية لكنه ذهب أحياناً إلى بحر الإسكندرية، والنيل، فهل كانت الأنهار العربية أكثر حظاً من البحار والخلجان والبحيرات، والدليل حضور النيل في روايات كثيرة منها "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، وثلاثية إسماعيل فهد "النيل يجري شمالاً"، و"رباعية النهر" لعبدالله الطوخي.

يمكن أن نعتبر حنا مينا أشهر الكتاب العرب في سرد البحر، هو المتيم ببحر اللاذقية، وقد عمل في الميناء نفسه، لكن من يقرأ روايته "البحر والسفينة وهي" سيجد أنه انشغل أكثر بحوارات الركاب، وشخصية "بدر" وعلاقته مع "غيداء" أكثر من البحر نفسه.

وغير بعيد من ضفاف المتوسط، شيد محمد البساطي مجمل عالمه الروائي عن بحيرة المنزلة، المتصلة بالبحر. خصص لها وللقرى المحيطة بها، ومجتمع الفلاحين والصيادين، كل حكاياته الأساسية كما في "صخب البحيرة" و"بيوت وراء الأشجار".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"تتلاحق أمواج البحيرة في فتور، صغيرة متناسقة مثل خطوط أرض محروثة، يجذبها هدير البحر عند المضيق". كتب البساطي نصاً عذباً عن علاقة الإنسان بالماء، وقسمها إلى فصول مستقلة، أولها عن صياد عجوز غامض هائم بقاربه في البحيرة إلى أن يلتقي امرأة لديها طفلان توأم، فيضمهم إليه كعائلة ويبني لهم "عشة" كأنها وطن صغير على ضفاف البحيرة، لكنه يموت، فتدفنه المرأة بمساعدة ابنيها ثم يغادرون، تاركة خلفها الجثة المجهولة و"العشة" المهجورة التي قوضتها ريح الشتاء.

نقر ما ذهب إليه حورانيه حول قلة سرد البحر في الأدب العربي، وربما يحضر في العنونة أكثر من تحققه في المتن. فمن يقرأ لغادة السمان كتابها "البحر يحاكم سمكة"، سيفاجأ أنه ليس ثمة بحر ولا أسماك، وإنما تجميع لحوارات أجريت معها صدرته بهذا الحوار الرمزي بين بحر يسأل وسمكة تجيب:

ـ "لماذا أخطأت الطريق؟" ـ "إنها تياراتك يا سيدي" ـ "لماذا التهمت ما ليس لك؟" ـ "إنها مجاعتك يا سيدي" ـ "لماذا جبنت أحياناً عن قول الصدق؟" ـ "إنها أسماك قرشك يا سيدي" ـ "ولماذا هاجرت من كهف إلى آخر؟" ـ "كنت أفتش عن الشمس يا سيدي"

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة