Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مصر تفتش عن "طائرة زامبيا" في مهبط "السوشيال ميديا"

الجهات الرسمية صامتة حيال الحادثة بينما آلاف الفيديوهات على مواقع التواصل تدعي "كشف السر"

هذه المنصات تخرج بما تدعي أنه "معلومات" توصلت إليها فرقها الاستقصائية (مواقع التواصل)

ملخص

أبرز هذه المنصات "متصدقش" (لا تصدق) التي على رغم تدشينها عام 2018 فإن حادثة الطائرة ضخت فيها دماء الانتشار والشعبية.

يقول الإعلام الرسمي إن قوات العدو تكبدت خسائر فادحة، وإن الجيش الوطني يحرز تقدماً أكيداً وسريعاً، محققاً نصراً بات شبه مؤكد. الأخبار الرسمية للنصر تأتي مزودة بصور وفيديوهات وتحليلات وتقارير مراسلين.

بينما منصات الـ"سوشيال ميديا" تقول إن قوات "العدو" كبدت الجيش الوطني خسائر فادحة، وإنها (قوات العدو) تتقدم بسرعة صوب أراضي الوطن من دون أن تواجه مقاومة تذكر. أخبار "السوشيال ميديا" يدعمها صناعها بصور وفيديوهات وتحليلات وتقارير يصنعونها بأنفسهم أو يزودهم بها أصدقاؤهم.

تاريخياً وحتى اللحظة تستخدم حكومات أداة التعتيم الإعلامي للسيطرة على تدفق المعلومات ودعم قوتها، لا سيما في أوقات النزاع وعدم الاستقرار. حكومات الدول تخشى على شعوبها من هجمات التضليل وعمليات التزييف ومخططات التشويه على منصات التواصل الاجتماعي، التي تبدع فيه حكومات دول أخرى وجماعات ومجموعات وأفراد.

بعض هذه الحكومات يعتمد على وعي المتلقين، مع شن حملات توعية مباشرة أو غير مباشرة لتوخي الحذر والتدقيق في المحتوى العنكبوتي. وهناك من يلجأ إلى فرض قيود أو سن قوانين أو إصدار قرارات تتصور أنها قادرة على كبح جماح الـ"سوشيال ميديا". وحكومات أخرى تقرر خوض الحلبة الافتراضية ذاتها مستخدمة الأدوات نفسها، حيث التضليل بالتضليل والتزييف بالتزييف والبادي على المنصات أظلم.

حرب مكتومة

في هذه الحرب المكتومة الشعواء تجد أنظمة وحكومات نفسها مضطرة أو تختار أن "تحمي" المواطنين بفرض قيود على منصات الإعلام التقليدية، سواء كانت رسمية أو خاصة.

وفرض القيود درجات، منها ما يتوقف عند حدود مناشدة الصحافيين والإعلاميين عدم التطرق أو الحرص في التطرق إلى موضوعات بعينها، ومنها ما يفرض قبضة حديدية غير منطوقة أو مكتوبة على ما يجري تداوله على الشاشات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية وأثير الإذاعة وصفحات ما تبقى من جرائد ومجلات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تاريخ التعتيم الإعلامي الرسمي حافل بالأمثلة. ففي أوائل القرن الـ20 مثلاً فرضت وسائل الإعلام الغربية تعتيماً شبه كامل على تفجيرات هيروشيما وناغازاكي وحرب فيتنام وما نجم عنها من خراب ودمار. وقتها لم تكن هناك "سوشيال ميديا" تعج بأخبار أو آراء متناقضة، فقط بضع وسائل إعلام أجنبية "معادية" تبث جانباً مغايراً لما جرى.

وما جرى على الساحة الإعلامية بعد عام 1945، وهو العام الذي شهد إسقاط القنبلة الذرية الأولى في العالم على هيروشيما، وما صحبها من تعتيم إعلامي Media blackout غربي نجح إلى حد بعيد في حجب حقيقة ما جرى عما يزيد على نصف شعوب الأرض، قلب موازين الأخبار والصور والمصادر وغير قواعد التعتيم، سواء كان حسن النية بغية حماية الشعوب أو غيرها من النوايا.

حجب المواقع ومصادرة الصحف وفرض قيود الترخيص والإصدار على الصحف والمواقع ومحطات التلفزيون من قبل بعض الحكومات في أوقات بعينها، لا سيما الحروب والصراعات والأزمات الكبرى، أدوات معروفة منذ فجر الإعلام التقليدي. المنع واضح وصريح، حيث الصحف لا تصدر، والمواقع لا تظهر من ألفها إلى يائها، أما التعتيم فشأن آخر.

وضع مطاطي

التعتيم الإعلامي وضع مطاطي، فلا وسائل الإعلام التقليدية محجوبة بالمعنى المعروف، أو هي ممنوعة من الصدور أو التطرق إلى موضوعات أو زوايا منعاً واضحاً. هو وضع بين بينين، يعرفه الصحافي معرفة وثيقة، ويشعر به المتلقي من دون أن يدري.

وعلى رغم ارتباطه في العقل الجمعي بالحكومات فإن جهات دولية ومنظمات أممية كثيراً ما تفرضه بذكاء وحنكة حماية لسير مفاوضات أو تأميناً لعقد صفقات، لا سيما بين أطراف متحاربة أو من أجل تحرير محتجزين أو رهائن.

وتبقى الرهينة الحقيقية والدائمة في التعتيم الإعلام التقليدي هو المتلقي أينما كان. في إثيوبيا جرى تعتيم إعلامي على ما جرى وصفه بـ"مجازر" وعمليات اغتصاب وعنف في إقليم تيغراي. وفي أفغانستان اتبع عديد من منصات الإعلام التقليدي في العالم منهج التعتيم على ما يدور هناك بين وقت وآخر على مدى عقود بحسب الحاجة. وفي غزو العراق عام 2003 جرى تعتيم إعلامي أيضاً على نتائج البحث عن أسلحة الدمار الشامل. وقوائم التعتيم لا تنتهي.

قرار التعتيم

واللافت أن الاتهام بالتعتيم هو سلاح متداول بين الجميع، وفي الوقت نفسه أداة تلجأ إليها غالبية الدول بدرجات متفاوتة وبأشكال مختلفة، بعضها واضح وصريح لدرجة الفجاجة والبعض الآخر مموه وملتو لدرجة لا تشعر بها الغالبية.

غالبية الدول المدركة ماهية وقدرات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي تعي أن التعتيم الإعلامي الرسمي لا يستوي أو يجدي أو يؤتي ثماره في العصر العنكبوتي. وما يتركه الإعلام التقليدي، الحكومي والخاص، من فراغات يملأها الرقمي الشخصي ويفيض، مهما كان حجم الأزمة التي تواجهها الدولة، والتي تدفع حكومتها إلى اتخاذ قرار التعتيم.

قرار التعتيم يعني قراراً بإحداث فراغ. يقول الكاتب المصري ياسر عبدالعزيز في مقال عن "السوشيال ميديا والأزمات" (2020) "على أية دولة تواجه أزمة حادة أو تنخرط في أعمال عنف وحروب، أن تدرك أن الدور الذي تلعبه (السوشيال ميديا) أخطر من أن يترك بلا إدارة محكمة واحترافية"، مشيراً إلى أنه في أوقات الأزمات عادة تسبق وسائل التواصل الاجتماعي الإعلام التقليدي بمراحل، فتهيمن على مجال الأخبار العاجلة والمهمة. ويضيف "كثيراً ما تصوغ الانطباع الأول الذي يصبح عادة مرادفاً للحقيقة".

الحقيقة في الأزمات التي ألمت بكثير من دول العالم في السنوات القليلة الماضية، التي لجأت فيها الحكومات إلى التعتيم على أخبار أو حوادث أو أحداث بعينها تاركة فجوات وفراغات ملأتها الـ"سوشيال ميديا".

أزمة الطائرة الخاصة

أزمة الطائرة الخاصة التي تحتجزها السلطات الزامبية منذ أيام، والتي تقول إنها قدمت من القاهرة وعلى متنها 10 أشخاص بينهم ستة مصريين، وإنه جرى ضبط كميات كبيرة من الأموال بالدولار وسبائك معدنية وقدر من الأسلحة والذخيرة خير مثال على الفراغ الناجم عن التعتيم في مصر، الذي يجري ملأه بمحتوى غير موثق أو معلوم المصدر من قبل صناع المحتوى على الـ"سوشيال ميديا".

صناع المحتوى الرقمي، المتخصصون والهواة، يضخون بعلم أو من دون قدراً هائلاً من المحتوى الخبري، المعلوماتي والخيالي والتحليلات المرتكزة على خبرة أو المشتقة من إعادة تدوير آراء آخرين، وأزمة الطائرة المحتجزة في زامبيا خير مثال.

هذا ما نعرفه حتى الآن

وبدلاً من الإسراع بإصدار بيان رسمي يؤكد أو ينفي المعرفة الرسمية بما جرى، أو حتى يوضح أن التحقق من الواقعة يجري "على أن نوافيكم بالمستجدات حال ورودها"، أو "هذا ما نعرفه حتى الآن"، غابت الطائرة تماماً عن الإعلام التقليدي الحكومي والخاص في مصر.

التصريحات الخاصة هي الأخرى غابت. لذلك، جرى التعامل مع خبر صغير بثته وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية باعتباره "أول رد فعل مصري رسمي" على رغم أن الخبر اعتمد على ما صرح به "مصدر مصري مطلع". تصريح المصدر ركز على أن الطائرة خاصة، وأنها هبطت في القاهرة ترانزيت، وخضعت للتفتيش على قواعد السلامة والأمن المتبعة في الموانئ المصرية، ولا تحمل الجنسية المصرية.

الفجوتان الزمنية والمعلوماتية أسفرتا عن تحول "الطائرة" إلى الترند رقم واحد على "إكس" وموضوع التدوين الأكثر شعبية على "فيسبوك" والكلمات الأكثر بحثاً (بعد إضافة مصر وزامبيا) على محركات البحث والموضوع الأكثر جذباً لصناع المحتوى من المنتمين لكل الأطياف السياسية، وكذلك ذوي الأهداف الربحية والتجارية.

آلاف الفيديوهات يجري تحميلها على مدى الساعة. يدعي معظمها أنه "يكشف سر الطائرة"، أو "يزيح الستار عن أسماء ركابها"، أو "يفجر مفاجأة حول ملكية دولاراتها"، أو "يشرح بالتفصيل محتوى حقائبها"، أو "يعرض حقائق عن قائدها وطاقمها ومساراتها"، وكل أنواع العناوين الضامنة لضغط الملايين على زر "شاهد" تتدفق.

الملء العنكبوتي

هذا الدفق العنكبوتي متوقع، والمتابعة المحمومة لما يضخه أيضاً متوقعة، وذلك في ضوء الشح المعلوماتي الرسمي، إضافة إلى توافر كل عوامل الجذب والإثارة الشعبية، وهو ما جعل المسألة برمتها فرصة ذهبية لكثيرين.

فبين منصات إعلامية محسوبة على جماعة "الإخوان المسلمين" وغيرها لإعلاميين أو أفراد مطرودين من جنة الاستضافة في دول مجاورة بعد تحولات كبرى في موازين العلاقات الإقليمية وتبدلات في قوائم المصالح السياسية والاستراتيجية لجأوا إلى قنوات خاصة على الأثر الرقمي، شهدت الفراغات المتروكة بفعل التعتيم تصارعاً وتسارعاً للملء العنكبوتي.

الملء العنكبوتي للفراغات والفجوات لا يفرق بين دولة وأخرى، كما لا يقتصر على وقت دون غيره. لذلك يرى عبدالعزيز في مقاله أن "كل مساحة يتخلى عنها الإعلام النظامي تكسبها (السوشيال ميديا)، وتلك الأخيرة لا تخضع لأي ضبط سوى ما يرتضيه المستخدم لذاته. والحل يكمن في تعزيز أداء الإعلام النظامي ودعمه وتزويده بالمعلومات المطلوبة ما دامت غير محظورة في توقيتات مناسبة ليصبح مصدر اعتماد الجمهور الأساسي".

والجمهور الأساسي في عصر المنافسة الشرسة بين الإعلام التقليدي المنظم والجديد غير المنظم يجد نفسه منجذباً في أوقات الفراغات المعلوماتية الرسمية إلى نوعية جديدة من المنصات، التي تقدم نفسها باعتبارها مستقلة، وفي الوقت نفسه مهنية، وأن غايتها التدقيق في المعلومات والتحقق من الأكاذيب.

وفي حال الطائرة سطع نجم عدد من المنصات العنكبوتية التي تقدم نفسها باعتبارها حرة مستقلة لا تبتغي إلا تفنيد الحقائق والتنقيب في المزاعم والخروج بالمعلومة بعد تطهيرها من شوائب الفبركة أو التضليل أو التزييف، سواء كانت شوائب صنعها أفراد وجماعات ذات مصالح، أو منسوبة إلى دول وحكومات تحقق مآرب.

منصات التحقق

أبرز هذه المنصات "متصدقش" (لا تصدق) التي على رغم تدشينها عام 2018 فإن حادثة الطائرة ضخت فيها دماء الانتشار والشعبية. المنصة تحرص على عدم ذكر اسم أي من المؤسسين أو العاملين أو الممولين فيها، لكنها تحوي رثاء على صفحتها الرئيسة للصحافي والطبيب المصري الراحل محمد أبوالغيط، الذي توفي في لندن قبل أشهر، والمعروف عنه معاركه الكثيرة بسبب تحقيقاته الاستقصائية التي أزعجت البعض.

الإزعاج هذه المرة أسفر عن مداهمة أمنية لبيت كريم أسعد، أحد صحافيي "متصدقش" في القاهرة واحتجازه قبل ساعات قليلة. فريق عمل "متصدقش" أصدر بياناً عن الواقعة، ذكر تفاصيل ما جرى مع أسعد، مع خلفية عن المنصة ومؤسسها، ومهمتها، مع تأكيد عدم تلقيها أي تمويل من أية جهة أو حكومة. وأشار الفريق إلى استمرار مهامه "إعمالاً واحتراماً لمواد الدستور المصري التي تكفل حرية النشر، وتحظر فرض أي رقابة على وسائل الإعلام"، وذلك حتى عودة الصحافي المحتجز".

هذه المنصات تقوم بمهام التحقق، بحسب ما تقدم نفسها، فتخرج بما تقول إنه "معلومات" يصل إليها أعضاء فرقها الاستقصائية، لا سيما في الحوادث والأحداث الاستثنائية التي تغيب فيها المعلومات الموثقة والتصريحات المؤكدة.

المؤكد أن التعتيم الإعلامي لا يستوي في زمن الإعلام الرقمي، وهيمنة أدوات التواصل الاجتماعي، وتمكين مليارات البشر منها كمتلقين وصانعي محتوى يصعب التحكم فيه أو التدقيق في كل كبيرة وصغيرة فيه أو إسكاته حتى لو كان ذلك لصالح الأوطان.

المزيد من تحقيقات ومطولات