Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بغداد تبحث في خرائبها عن "أثر الرشيد"

لم يبق من عاصمة العباسيين القديمة سوى 8 معالم جديرة بالاهتمام ودعوات من أجل التدخل الدولي لإنقاذها

تلك مدينة حكمت أكثر من خمسمئة عام وذاع صيتها كأكبر عاصمة في التاريخ القديم (أ ف ب)

ملخص

خمسة قرون مرت على مجد عاصمة الرشيد العباسية... فما أبرز مشكلات الحفاظ على تراث بغداد؟

ثلاثة أسماء رئيسة أطلقت على بغداد هي "دار السلام" و"المدينة المدورة" و"الزوراء"، إضافة إلى اسمها الأشهر بغداد، فما إن بناها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام 750 ميلادية حتى ذاعت شهرتها وغدت عاصمة العالم القديم ووريثة بابل وآشور.

ثمة ميزتان لبغداد عن سواها من العواصم الأخرى كونها وراثة لمدينة إغريقية في غاية القدم احتلها الفرس الساسانيون وأطلقوا عليها اسم "طيسفون" ثم حررها العرب المسلمون في موقعة القادسية بعد ألف عام وسموها "المدائن"، لكنهم شيدوا بغداد كمدينة عربية - إسلامية بعد تركهم الكوفة، لتكون بغداد عاصمة لدولة بني العباس التي حكمت أكثر من خمسمئة عام (750- 1517) وذاع صيتها كأكبر عاصمة في التاريخ القديم.

حتى سقوطها المدوي على أيدي المغول عام 1258 ميلادية ومقتل آخر خليفة عباسي هو عبدالله بن منصور الملقب بـ"المستنصر بالله"، شهدت بغداد غزوات واحتلالات عدة حاولت تغيير وجهها العربي لكنها خابت جميعاً، على رغم انتقال الحكم فيها إلى أيدي غزاة عتاة بين مغول وفرس وعثمانيين وحتى العصر الحديث عام 1917 على يد الإنجليز الذين أعلنوا أنهم محررون وليسوا فاتحين، ثم استقلالها وإعلان الحكم الملكي العراقي (1921-1958)، ثم الجمهوري (1958-2023).

أسوار بغداد

محاولات عدة أرادت تغيير معالم بغداد وهدم أسوارها نجحت حيناً وخابت أحياناً بعدما حرص الخلفاء العباسيون على تسوير عاصمتهم وحمايتها من التهديد والغزوات المحتملة على مر العصور، فأراد بانيها أبو جعفر المنصور وضع أربعة مداخل لها أبواب اشتهرت بها لدخول مدينته المدورة، وحين شعر حفيده المستظهر بالله (487-512 هجرية) بالتهديدات التي تحيق بها أنشأ سوراً عظيماً يحيط بالجانب الشرقي من بغداد ويحيط بالسور خندق يملأ بالمياه.

ظل هذا السور قائماً حتى النصف الثاني من القرن الـ19 الميلادي، إذ كانت نهايته في عهد الوالي العثماني مدحت باشا الذي أمر بهدمه واستعمل آجره في تشييد بنايتي القشلة والسراي الموجودتين إلى الآن.

 

 

يجمع المؤرخون على أن الخليفة العباسي المستظهر جعل للسور أربعة أبواب كبيرة فسمي الأول "باب السلطان" أو "باب المعظم"، والثاني "باب الظفرية" الذي لا يزال قائماً ويدعى "الباب الوسطاني"، والثالث "باب الطلسم" الذي نسفه الأتراك لحظة خروجهم من بغداد عام 1917. أما الباب الجنوبي ويعرف عند الأهالي باسم "الباب الشرقي"، فكان يسمى "باب البصلية" وسمي في العهد العثماني "الباب المظلم".

في الـ12 من مايو (أيار) 1937 شرع عمال أمانة العاصمة بهدم الباب الشرقي لفتح طريق ملكي على يد أمين بغداد آنذاك ويدعى أرشد العمري، وهكذا حرمت بغداد من أثر إسلامي عباسي كبير على قلة ما بقي من هذه الآثار.

والآن لم يبق من آثار بغداد العباسية سوى ثمانية معالم أثرية جديرة بالاهتمام والعناية ولم يبق من سور بغداد الشرقي سوى قطعة طولها 30 متراً.

الباب الشرقي

تعد منطقة "الباب الشرقي" إحدى معالم بغداد المميزة وفيها حديقة الأمة التي كانت تسمى في العهد الملكي "حديقة الملك غازي" وجرى إنشاؤها على جزء من الخندق الذي يحيط بالسور، وكذلك الشارع الممتد من ساحة التحرير إلى ساحة الطيران، وهو الحد الفاصل بين منطقة "الباب الشرقي" والأورفلية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يذكر إبراهيم الدروبي في كتابه "البغداديون" أن "بغداد في العهد العثماني كانت مدينة محدودة، فإذا وصلت إلى الباب الشرقي لم تجد بعده شيئاً"، ولذلك كان البغداديون يتخذون من أطراف بغداد وضواحيها العامرة ومنها منطقة "الباب الشرقي" مكاناً للنزهة، فيخرجون عصر كل يوم لامتطاء الجياد.

ويروي المؤرخ سالم الألوسي معرفاً بـ"الباب الشرقي" فيقول "ومن المؤسف أنه لم يبق في الوقت الحاضر من هذه الأبواب الأربعة إلا ’الباب الوسطاني‘ الذي سبق لدائرة الآثار القديمة عام 1936 أن قامت بترميمه وصيانته وجعلته متحفاً للأسلحة، أما ’باب الطلسم‘ فنسفه الجيش العثماني ليلة الـ11 من مارس (آذار) 1917 عند دخول الجيش البريطاني بغداد، وأسف أهل بغداد على تدمير هذا الأثر التاريخي ورثاه عدد من الشعراء. أما ’باب كلواذا‘، أي الباب الشرقي، فهدمته أمانة العاصمة الإثنين في الـ12 من مايو (أيار) 1937 خلال عهد أمينها المهندس أرشد العمري".

تعددت الأسباب

يعزو كثير من المؤرخين والمعماريين الدافع الرئيس من إزالة كثير من المعالم الأثرية لبغداد إلى سببين جوهريين، الأول الحاجة لتوسيع شوارع ومعالم المدينة المعاصرة، والثاني عدم إدراك المسؤولين الذين حكموا العراق لقيمة هذه الآثار فاستهانوا بالمباني العتيقة وعدوها تركة لا لزوم لها.

وعلى رغم كل ظروفها احتفظت بغداد ببقايا مبانٍ أساسية تعود للحقبة العباسية، في مقدمتها "قصر الخلافة" العباسي الذي يقول مصطفى جواد إن "تاريخ بنائه يعود للخليفة الناصر لدين الله، فقد ذكر الرحالة العربي ابن جبير أنه شاهد لدى قدومه إلى بغداد الخليفة الناصر لدين الله ينزل من زورقه قرب مسناة كبيرة على ضفة النهر ليدخل القصر العباسي آنذاك".

 

 

وعن أهم استخدامات القصر يوضح جواد أنها "كانت مختلفة، منها ثقافية وأدبية والدليل على هذا وجود المكتبة العظيمة والقاعات الدراسية والتدوين، إضافة إلى جلسات الترفيه التي كان الخليفة يقيمها برفقة حاشيته وجلاسه، حتى قيل إن الخليفة كان يدخل إلى القصر من خلال ممر يحجزه عن الناس، وكان الحاجز عبارة عن قماش طويل خشن يسمى ’الخيش‘ مزين بصور جميلة وملونة، وكان يعطر عند دخول الخليفة بالمسك والزعفران"، مشيراً إلى أنه "نتيجة لحملات التتار ومع مرور الأعوام تعرض القصر لكثير من التخريب، لكن دائرة الآثار العامة قامت بأول حملة لصيانته في 1938".

وما زال القصر ماثلاً قرب دجلة جهة الرصافة بزخارفه المميزة وبنائه الإسلامي الفريد تحت إدارة الآثار والتراث.

المدرسة المستنصرية

يجاور القصر العباسي أقدم مدرسة في التاريخ الإسلامي وهي "المستنصرية" التي تأسست عام 1233 ميلادية على يد الخليفة المستنصر بالله، وكانت مركزاً علمياً وثقافياً مهماً، وشيدت على مساحة 4836 متراً مربعاً تطل على شاطئ دجلة إلى جانب "قصر الخلافة" وقرب المدرسة النظامية، وكانت تتوسط المدرسة نافورة كبيرة فيها ساعة عجيبة تعد شاهداً على تقدم العلوم في تلك الحقبة، إذ كانت تدق في أوقات الصلاة.

 

 

ولم يبق من "جامع الخلفاء" الواقع قبالة "سوق الشورجة" الكبيرة في بغداد غير منارة العباسية والترميم الحديث الذي صممه المعماري محمد مكية للجامع محاولاً الحفاظ على طابعه القديم، ويعود بناء الجامع للخليفة المكتفي بالله العباسي الذي أقامه ليكون المسجد الجامع لصلاة الجمعة شرق "القصر الحسني" وكان يعرف أيضاً بـ"جامع القصر"، وهو من معالم بغداد التاريخية وشيّد من الآجر عام 902 ميلادية وتعد مئذنته من معالم زهو العصر العباسي.

السبيل الأخير

هذه المعالم وسواها من الآثار التاريخية للحضارة العباسية تعرضت وما زالت لإهمال السلطات المنشغلة عن قيمة الموروث العباسي لعاصمة الرشيد التي تحتاج إلى كثير من جهود المتخصصين ممن يعون قيمتها التاريخية والمردود الذي بإمكانها أن تجنيه عمرانياً وسياحياً، باعتبار أن المدينة برمتها متحف للعالم القديم يتخطى الحقبة العباسية الزاهرة إلى التاريخ البابلي الآشوري.

يقول المهندس المعماري ومخطط المدن تغلب الوائلي إن المعالم التاريخية لبغداد العباسية التي كانت تضم قصوراً عدة والتي تحدثت عنها الكتب والروايات منذ إنشاء بغداد المدورة وحتى بداية القرن الـ20، اندثرت للأسف نتيجة ما تعرضت له المدينة جراء الحروب والغزوات والفيضانات والإهمال وانخفاض الوعي بأهمية هذه الآثار، علاوة على أن أياً من السلطات التي استلمت زمام المدينة منذ بدايات القرن الـ20 لم تهتم بالتنقيب عنها أو الاهتمام بتاريخ المدينة، بل على العكس اهتمت بما يسمى عمليات التحديث التي أجهزت على كثير مما تبقى من هذه المعالم، كالقلعة و"الباب الشرقي" و"الباب المعظم" و"جامع مرجان" وغيرها.

ويضيف "هذا التخريب المؤسف تشترك فيه مؤسسات الدولة والأوقاف بداعي التحديث، ضاربة عرض الحائط بالمعايير الدولية المتعلقة بالحفاظ على المناطق التاريخية والتراثية، مما يتطلب تدخلاً دولياً ورقابة مشددة على ما يجري من قبل أطراف غير متخصصة تهدف إلى الربح والهيمنة على المناطق التاريخية بداعي الصيانة والاستثمار"، مؤكداً أن "استمرار ذلك التخريب سيؤدي حتماً إلى فقدان المدينة ما تبقى من هويتها التاريخية ومبانيها التراثية، وهو إرث لا يتعلق بمدينة بغداد أو العراق فحسب، بل يعتبر جزءاً أساسياً من التراث العالمي، لما لمدينة بغداد التاريخية من إسهامات في تاريخ الحضارات الإنسانية".

اقرأ المزيد

المزيد من العالم العربي