ملخص
المغنية الفلسطينية ريم الكيلاني ترصد معاناة المغنين العرب المغتربين مع التهميش في الخارج.
على ملامحها تبدو خريطة الغناء الفلسطيني وفي حنجرتها أصالة عربية غير محدودة، لكن إقامة ريم الكيلاني خارج الأراضي الفلسطينية منذ صغرها، جعلتها فنانة منفتحة على مختلف ثقافات العالم، وإن كان ولعها وتأثرها بالتراث العربي يبدو واضحاً وبشكل كبير في أغانيها.
تجربة الكيلاني الغنائية لا تخرج عن دائرة الالتزام، فهي لا تسعى جاهدة إلى محاكاة الأغنية المعاصرة بكل تحولاتها الجمالية، بقدر ما ظلت أمينة في اختياراتها الجمالية للأغنية التراثية وأصالتها، إذ تحرص في أغانيها أن تنطبع بقوة بالبيئة الفلسطينية وعوالمها.
إنها تبتكر من خلال هذا البراديغم الفني عالماً متخيلاً تتحكم فيه القوالب الغنائية العربية والفارسية وترمم أوصاله الموسيقى المعاصرة عبر فتنة الآلة، لكن، وهي تستعيد هذا التراث الفلسطيني، كما هو الأمر، في حفلها الأخير المقام بالمتحف الفلسطيني في بيرزيت بالقرب من رام الله، لا تسعى إلى محاكاة ذاكرة بلادها بقدر ما تخلق لها مساحات فنية لإعادة تأمل تراث مدن وقرى الساحل الفلسطيني.
تفعل ريم كل ذلك بطريقة تتيح للجسد الاشتباك غنائياً مع قضايا التاريخ والذاكرة، من دون رقابة العقل وصرامته القاهرة، ولهذا تأتي أغانيها وفق نبرة نوسطالجية (إحساس بالألم) حالمة، تستعيد تراث هذه الفضاءات والإقامة في تخومها والإعلاء من قيمتها وأهميتها للراهن الفلسطيني.
مشروع غنائي أصيل
عن هذا المشروع الغني، تقول المغنية المعروفة ريم الكيلاني لـ"اندبندنت عربية" إنه "جاء بناءً على دعوة كريمة من المتحف الفلسطيني في بيرزيت. كان هذا تماشياً مع معرضهم (بلد وحده البحر: محطات من تاريخ الساحل الفلسطيني)، والذي استمر ما بين 29 سبتمبر (أيلول) 2021 إلى 30 يونيو (حزيران) 2023".
وأضافت "استغرقت عملية البحث في الأغنيات والشهادات الحية قرابة العامين، ثم قدمنا الحفل في لندن مع فرقتي البريطانية، منتصف شهر مارس (آذار) من هذا العام، واستغرق الأمر شهرين إضافيين بعد تاريخ الحفل للقيام بمونتاج الصوت على حدة، ثم مونتاج الفيديو، ثم دمج الاثنين معاً".
أما فكرة استلهام أغان من تراث مدن وقرى الساحل الفلسطيني والاشتغال عليها غنائياً، فتقول عنها الفنانة الفلسطينية إن "معرض (بلد وحده البحر) كان عن تاريخ وتراث مدن وقرى الساحل الفلسطيني، فطلب مني المتحف الفلسطيني أن أقدم أغنيات وتراثيات من هذه المناطق، وهكذا كان، وهي تجربة جديدة بالنسبة إليَّ، لأن تركيزي في السابق كان على تراث الشمال والجليل الفلسطيني، بحكم أصولي العائلية، سواء كان هذا التراث من الداخل أو من مخيمات اللاجئين في لبنان وسوريا والأردن".
جماليات الالتزام
وبما أن صاحبة ألبوم "الغزلان النافرة" (2006) تشتغل وفق أفق الأغنية الملتزمة، فحكت أن "مصطلح (الفن الملتزم)، للأسف، أصبح كثير الاستخدام، وأحياناً، يستعمله بعض الفنانين كنوع من التعالي على غيرهم من المبدعين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهنا تقول ريم الكيلاني "بنظري المتواضع، الفن بحد ذاته هو التزام، وأي شيء يخلو من الصبغة الفنية الملتزمة ليس فناً، وإن عرف كذلك. والالتزام بمعناه الصرف هو المحافظة على المقولة، سواء كانت دينية أو دنيوية أو وطنية. فالأم التي تغني التهليلة لوليدها قبل النوم تمارس الفن الملتزم، وبمقدار أكبر بكثير من المغني الذي يتشح بالكوفية ويزايد على غيره بالوطنية".
ومضت في حديثها، "أما مظاهر الترفيه المذكورة في السؤال فهي موجودة منذ الأزل، وتتماشى في مبالغتها وشدة ترفيهها مع الفترة الزمنية التي تعيشها، ولا يمكننا أن نفعل أي شيء لمنعها. لنا فقط أن نلتزم مقولتنا كفنانين، وهذا هو المطلوب، سواء انتصرت على مظاهر الترفيه أم لم تنتصر، لأن الفنان المستقل لا يملك ماديات كتلك المتاحة للحفلات الترفيهية".
وعي جمالي
في معرض حديثها عن الأصالة الفنية والأبعاد الجمالية التي يتميز بها مشروعها الغنائي، وأسباب غياب أغانيها عن المهرجانات العربية، تروي ريم "أعرف هذا، ولكنني لا أعرف السبب. قد يكون عدة أسباب منها أنني لست مقيمة في العالم العربي. ومنها أيضاً استقلالي السياسي الذي يرفض اتباع أو حتى مجاملة التنظيمات السياسية والحكومات الرسمية، كما أنني من معارضين كثر لاتفاقية كامب ديفيد والتطبيع، وهذا لم ولن يساعدني بالتأكيد".
وتابعت "في المرات القليلة التي دعيت من خلالها إلى العالم العربي، كان تجاوب الجماهير رائعاً، كالبلسم الذي يخفف عني غربتي المكانية والزمانية. على سبيل المثال، حين جاءتني الدعوة للغناء في سوريا من قبل المجلس الثقافي البريطاني في دمشق عام 2007 – من خلال جولة شملت دار الأوبرا في دمشق ومديرية الثقافة في حلب – كان التجاوب والتواصل مع الجمهور من أهم الإنجازات في حياتي. وهذا ما يخفف عني هذه الغربة المريرة".
وعما إذا كان اللون الغنائي الذي تشتغل عليه يسهم بشكل ضمني في تغريبها داخل الوطن العربي، على رغم المكانة التي تحتلها الأغنية التراثية داخل بعض الدول الأوروبية، تقول "لا أعتقد ذلك في الحقيقة. لأن هناك كثيراً من المبدعات والمبدعين في العالم العربي ممن ينتجون اللون الغنائي نفسه، أو شيئاً قريباً منه. أعتقد أن ما يسهم في التغريب داخل الوطن العربي – أو خارجه – هو الفن المستقل، بما في ذلك الاستقلال السياسي والتجاري، واستقلال المقولة الفنية، وهنا تكمن الصعوبة".
وأضافت "هناك فنانون في العالم العربي من المهمشين أيضاً، وللأسباب نفسها. أما بالنسبة إلى الفنانين المغتربين فدائماً ما تستخدم مصاريف السفر من أوروبا إلى العالم العربي كأعذار لندرة الدعوات أو عدمها. وهذا في الوقع ليس صحيحاً، لأن كثيراً من الفنانين العالميين غير العرب تتم دعوتهم إلى العالم العربي".
من الإنشاد إلى المعاصرة
وإلى جانب كونها موسيقية ومغنية لها باع كبير في تاريخ الأغنية، وذلك من خلال عدد من البرامج الإذاعية التي أعدتها، فإن ريم تجعل الأغنية العربية إنشادية وتظل بمنأى عن تحولات الموسيقى المعاصرة. وتعتبر صاحبة "لم أحبها" (2019) بأنه "في الأقل تاريخياً، الموسيقى العربية هي موسيقى صوتية"، أي إنها تعتمد على الصوت البشري، بدءاً من حداء الإبل، مروراً بالأذان الإسلامي، ثم المغنين والقيان في العصور الوسطى، فعصر النهضة في مصر، والموسيقى التراثية، وانتهاء بما نعرفه اليوم بالأغنية العربية التي يكون القائل الأساسي فيها هو المغني أو المغنية.
وتمضي الكيلاني في حديثها بقولها "كي لا ننسى أيضاً فإن للشعر مكانة خاصة في التراث العربي، لكن التركيز أكثر على المغني الذي ينشد القصيدة. وهنا نجد أنفسنا في موقع غريب نوعاً ما، لأننا في يومنا هذا لا نركز إلا على المغني، ونهمل تماماً كاتب كلمات القصيدة وملحنها".
تتابع حديثها قائلة "وفي الأغاني المعاصرة التجارية التي تغلب عليها التكنولوجيا نجد أن الموزع الموسيقي هو من يحتل مكانة أكبر من الملحن نفسه، وهذا فيه إجحاف كبير. بالنسبة إلى الموسيقى الفلسطينية غير الإنشادية يمكنني أن أذكر أسماء مثل يوسف خاشو (1927-1997) وسلفادور عرنيطة (1914-1985) من فلسطين ممن كانوا في الريادة في مجال الأوركسترا. وفي مجال الموسيقى الشرقية تفخر فلسطين بالموسيقار وعازف العود، ابن مدينة نابلس، روحي الخماش (1923-1998)".
أما عن أيامنا فترى "أننا نجد المغني الذي يلحن أغنياته، يمكنه أيضاً تلحين قطع موسيقية من دون غناء، وأنا منهم، لكن يبقى الجانب الموسيقي غير الصوتي والأوركسترالي في الموسيقى العربية في حاجة إلى المزيد من المساهمة والتطوير".
وتحكي عن معاناة أخرى بقولها "للأسف نحن المغنيات ما زلنا ندفع ثمن طغيان أم كلثوم على الموسيقي العبقري محمد القصبجي (1892-1966)، باستثناء القليل من عازفي العود في أيامنا هذه، على سبيل المثال معظمهم يكرهون مرافقة المغنيات في العزف، بخاصة إذا كانت المغنية هي أيضاً الباحثة والملحنة وقائدة الفرقة".
الأغنية الفلسطينية في الخارج
وكسؤال أخير عن الأغنية الفلسطينية المهاجرة، والطريقة التي تنظر بها وتتأمل جمالياتها داخل المهرجانات العالمية، تقول ريم الكيلاني "المهرجانات العالمية في الغرب لا تعير الموسيقي (غير الغربي) المقيم عندهم الاهتمام الكبير. معظم المهرجانات العالمية، صدق أو لا تصدق، تهتم بالموسيقي الذي يعيش في العالم العربي على نظيره الذي يعيش بين ظهرانيهم".
وتضيف "يحدث ذلك على رغم أنها مهرجانات ما تسمى ﺑ(موسيقى العالم)، لكنها على أرض الواقع ترى في الموسيقي العربي الذي يعيش في الغرب بأنه أقل إكزوتية (جذباً) من الذي ما زال يعيش في العالم العربي. وهذا ينطبق على كل الجنسيات، فلو أرادت هذه المهرجانات سماع موسيقى من السنغال، على سبيل المثال، تلجأ معظمها إلى تجاهل الموسيقي السنغالي الذي يعيش في أوروبا".
وتحكي "هي نظرة استشراقية ما بعد- كولونيالية (انتقال من الأراض المحتلة إلى الواقع) ما زالت مسيطرة على العقل الأوروبي، ولهذا قدمت ستة برامج وثائقية بهذا الصدد في قناة بي بي سي، هي سلسلة (الأوتار البعيدة) باللغة الإنجليزية، التي حاولت من خلالها تسليط الضوء على موسيقى وتراث اللاجئين في أوروبا وبريطانيا".
وأخيراً فإنه "بالنسبة إلى الأغنية الفلسطينية المهاجرة، التي تنطبق عليَّ شخصياً فهي إضافة إلى عقدة (الإكزوتية) عند الغرب تعاني الانحياز ضد المقولة الفلسطينية. وفي كثير من هذه المهرجانات التي ذكرت، هناك الكثير منها ينحاز للمقولة الصهيونية، وحين تتجرأ في دعوة موسيقيين من فلسطين فهي تضطر كعادتها إلى دعوة موسيقيين إسرائيليين، للحفاظ على (التوازن) وفق روايتهم – لكن العكس بالطبع ليس صحيحاً. باختصار الأغنية الفلسطينية المهاجرة تستمر وتنجح على رغم المهرجانات العالمية، وليس بسببها"، وفق ما ذكرته ريم الكيلاني.