Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لهذا تسقط الإمبراطوريات

ينبئنا التاريخ بأنها تتخذ أشكالاً مختلفة فنحن اليوم نعيش عصر إمبراطورية النفوذ لا الاحتلال

مع توتر العلاقات بين أميركا والصين يزداد شيوع دراسة نهايات عصور الهيمنة السابقة (أ ف ب)

ملخص

كتاب لهذا تسقط الإمبراطوريات يحمل تحذيراً لأوروبا وأميركا مما هو قادم ويعيد التذكير بالسقوط التاريخي لإمبراطوريات كبرى

غالباً ما تميل كتابات "فيسبوك" التي ترصد ما شهده جيلنا الحالي من ويلات إلى التركيز على الأوبئة والحروب والزلازل والأعاصير، وغالباً ما تنتبه إلى أن مجموعتنا من الكوارث لا ينقصها إلا حرب عالمية، لكن هذه الكتابات لا تكاد تذكر "مأثرة" أكيدة في هذا السياق كان لجيلنا فضل معاصرتها، فأبناء هذا الجيل شهدوا أيضاً سقوط إمبراطورية. أم ترانا نسينا أننا تابعنا تفكك الاتحاد السوفياتي في نشرات الأخبار مثلما يتابع أبناء الجيل الحالي انتقال لاعبي كرة القدم بين الأندية في رحلتي الشتاء والصيف؟

ربما يحق لنا فعلاً أن نضيف إلى قائمة "إنجازاتنا" أننا شهدنا مثل ما شهده أجدادنا الأقربون بعد الحرب العالمية الثانية حينما سلمت فرنسا وإنجلترا راية سيادة العالم للولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وما شهده أسلاف أبعد عند انهيار ممالك ما كان لمتفائل منهم أن يتصور لها نهاية. بوسعنا أن نباري أجدادنا في هذه المفاخرة الجنائزية بأننا شهدنا مثلهم إمبراطورية عظيمة إذ تذل، بل لعلنا لم نزل نراها اليوم وهي تترنح أو تنتفض في أوكرانيا، كما لعلنا نشهد في صعود الصين الأكيد مراسم تسلم الرجل الأصفر عرش العالم من العم سام.

في هذا السياق صدر حديثاً كتاب صغير الحجم، مؤلف من 200 صفحة فقط، بعنوان "لماذا تسقط الإمبراطوريات: روما وأميركا ومستقبل الغرب" عن دار بنغوين، لمؤلفيه أستاذ الاقتصاد السياسي جون رابلي وأستاذ تاريخ القرون الوسطى البروفيسور بيتر هيذر المتخصص في سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية.

"مرة أخرى تروج صرعة الحديث عن الانحدار". هكذا يبدأ استعراض "لماذا تسقط الإمبراطوريات" في مجلة "إيكونوميست" البريطانية في 25 مايو (أيار) الماضي. يمضي المقال فيقول إنه مع توتر العلاقات بين أميركا والصين وازديادها تدهوراً، يزداد شيوع دراسة نهايات عصور الهيمنة السابقة. وتتكاثر الكتب التي تتنبأ بصعود الطغاة المستبدين ووفاة الديمقراطية. ويكثر الحديث عن فخ ثوقيديدس [الذي يعني في أدبيات السياسة] حتمية الصدام بين قوة صاعدة وقوة قائمة، مثلما سبق لأثينا أن تحدت إسبرطة في القرن الخامس قبل الميلاد.

"يضيف هذا الكتاب المثير إلى هذا المنهج لمسة بسيطة جديدة. فهو يقارن بين الغرب في عام 1999، في ذروة ثقته، وروما قبل 1600 سنة، في عام 399 على وجه التحديد، قبل عقود قليلة من انهيار الإمبراطورية"، وفق ما جاء في المجلة البريطانية.

ومضت في تعليقها، "وأكثر أجزاء الكتاب إثارة هو المتعلق بروما... إذ يختلف المؤلفان عن التحليل الشائع منذ إدوارد جيبون لانهيار الإمبراطورية التدريجي منذ بدايتها تقريباً في ظل حكم أغسطس. ويذهب المؤلفان بدلاً من ذلك إلى أن روما ظلت على مثل قوتها المعهودة عند انعطاف القرن الخامس الميلادي، ولم يحافظ على تلك الإمبراطورية الشاسعة، والمتهالكة في بعض الأوقات، إلا اختيار الغرباء الموهوبين، ونقل صلاحيات واسعة النطاق إلى قادة أقوياء، وإبرام صفقات مع أعداء محتملين. ومع ذلك، في غضون عقد واحد من الزمن، أخرجت روما فيالقها من بريطانيا (وهو ما يسميه المؤلفان البريكست الأول)، ثم لم يمض قرن على ذلك الانسحاب، حتى كان إمبراطور روما الأخير أوغسطولوس قد اختفى من الوجود".

فما الخطأ الذي وقع؟ يسهب المؤلفان في الحديث عن قوى أجنبية أصبحت أشد مراساً في المقاومة. وعن الرخاوة التي دبت في أطراف الإمبراطورية، فبدأت شخصيات محلية بارزة في الانضمام إلى القوط والقوط الشرقيين والقوط الغربيين والهون والفندال وغيرهم حتى إن أختاً لأحد الأباطرة تزوجت من زعيم قوطي غربي (طوعاً في ما يبدو) وأنجبت ولداً باتت له مطالبات إمبراطورية جادة.

"ومثلما أعيا جيبون قبل 250 عاماً تفسير ذلك، فقد بقيت الإمبراطورية الشرقية قائمة في القسطنطينية لقرابة ألف عام بعد ذلك، لكنها هي الأخرى دب فيها الخور ومضت تفقد أراضيها باطراد، من خلال حروب ضد الإمبراطورية الفارسية في البداية ثم مع صعود الإسلام".

"وبمرور القرون تعافت أوروبا الغربية، في البداية تحت حكم شارلمان ثم على نحو مشهود حينما بسطت قوتها (وإمبراطوريتها الخاصة) على معظم أرجاء العالم المعروف. والسؤال الذي يثيره الكاتبان هو عما إذا كان الغرب الآن -على رغم هيمنته البادية حتى منعطف القرن 21- يمضي في مثل وجهة روما في القرن الخامس، بخاصة مع التحديثات التي يشير إليها الكاتبان من قبيل أعباء الدين المتصاعدة، ودولة الرفاه باهظة التكاليف، وتراجع النمو الإنتاجي، والانحدار الديموغرافي والهجرة الجماعية. ويريان تحديات ضخمة تواجه الغرب في نمو آسيا، وبخاصة الصين والهند، وأيضاً من قوى غير غربية من قبيل روسيا وصعود أفريقيا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تحت عنوان "ما الذي يربط البريكست بسقوط الإمبراطورية الرومانية؟"، يكتب سيمون هيفر في صحيفة "ديلي تليغراف" في 18 مايو الماضي، أنه "لا ينبغي أن يكون المرء مؤرخاً محترفاً ليعرف أن التاريخ يكرر نفسه، فعندما يرى المرء قادة سياسيين -عندنا أو عند غيرنا- يرتكبون الأخطاء نفسها مراراً وتكراراً، فإنه يرى أيضاً أن أولئك المكلفين بحكمنا نادراً ما يدركون هذا الأمر. ولقد شهدت بريطانيا مثالاً لذلك في العام الماضي. لقد كانت حكومة هيث -في مطلع سبعينيات القرن الـ20- تطبع النقود وتنفقها بلا حساب، مستغلة البعض منها في تمويل التخفيضات الضريبية، وانتهى ذلك إلى كارثة. وفي الخريف الماضي، حاولت ليز تراس أن تفعل شيئاً مماثلاً، وفي حين أنها وزملاءها لم يتمكنوا من رؤية الأهوال التي ستحدث من جراء ذلك، فمن حسن الحظ أن الأسواق استطاعت أن ترى. وانتهى الحال بها وقد باتت أقصر رؤساء الوزراء حكماً على مدار التاريخ".

"تعاون مؤلفاً كتاب (لماذا تسقط الإمبراطوريات) في رصد التماثلات بين نهاية تلك الإمبراطورية في القرن الخامس الميلادي والوضع الذي يعيشه العالم في الوقت الراهن. ومن النقاط الرئيسة التي يرصدانها -والجديرة بأن تبقى في الذهن في ضوء عجز العالم الظاهر عن التعافي من أزمة عام 2008 المالية- هي أن الدراسات وعلم الآثار الآن يبينان لنا أن الإمبراطورية الرومانية بلغت ذروة ثروتها قبل سنوات قليلة من بدء البرابرة في تمزيق أوصال روما في عام 410 ميلادية.

لكن هذا يتناقض مع تأكيدات إدوارد غيبون في كتابه "قيام وانهيار الإمبراطورية الرومانية" من أن روما عانت منحى هبوط طويلاً يبدأ ربما قبل قرنين من الانهيار النهائي. ولقد بدا أن الغرب اليوم يحقق ذروة الثروة عند بداية الألفية، فإذا لم نتحل بالحذر فإننا قد ننفجر داخلياً -بحسب ما يحذر الكاتبان- بمثل سرعة ما جرى لروما".

"من المؤكد أن الكتاب تمهيد نافع لمرحلة ما بعد إدوارد غيبون في تفسير الأخطاء التي وقع فيها الرومان... لكن أجراس الإنذار تدق في آذان كاتب هذه السطور مع نهاية مقدمة الكتاب إذ يكتب المؤلفان أنه "أخيراً، مثلما يؤكد التاريخ الروماني مرة أخرى، سيعتمد مستقبل الغرب على الخيارات السياسية والاقتصادية التي سيتخذها قادته ومواطنوه في السنوات المحورية القادمة. وليس التاريخ الروماني وحده الذي يؤكد ذلك، وإنما التواريخ كلها. ففترات السنوات المحورية كثيراً ما تظهر، فكم امتلأ بها القرن ونصف القرن الماضيين".

"غير أن عنوان هذا الكتاب مرتبك بعض الشيء. فالكتاب يناقش سقوط الإمبراطورية الرومانية، ولماذا غابت بعض الإمبراطوريات الأخرى عن الوجود ـ وأبرزها الإمبراطورية البريطانية التي قضى عليها غياب الإجماع لا حضور البرابرة. ومن ثم فإن موضوع الكتاب الحقيقي هو القرارات التي ينبغي أن يتخذها الساسة اليوم اجتناباً للانهيار على الطريقة الرومانية في المستقبل القريب".

"يصيب رابلي وهيذر إذ يقولان إن الإمبراطوريات هي التي تدخل التحولات على الأجزاء المكونة لها. فالإمبراطوريات بذلك هي جوهرياً التي تخلق منافسيها، وانظروا إلى مستعمرات بريطانيا في أميركا إذ أدارت وجوهها ووطدت أركانها، وبرزت مستقلة بذاتها. ومثل ذلك حدث عند انهيار الاتحاد السوفياتي قبل 30 سنة، وهو ما تذكرنا به حرب أوكرانيا بصفة يومية".

"ينبئنا التاريخ بأن الإمبراطوريات تتخذ أشكالاً مختلفة، فنحن اليوم نعيش عصر إمبراطورية النفوذ لا إمبراطورية الاحتلال، وأنه مع تراجع إحداها، تصعد أخرى لتحل محلها. وأوروبا الآن في أزمة، وأميركا تبدو على نحو متزايد فاقدة البوصلة يعتريها الانقسام، والصين صاعدة... ويقارن الكاتبان نجاح الصين بمحاولات بوتين المؤسفة في عدوانه على أوكرانيا "لاسترداد عظمة روسيا". من المؤكد أن النظام العالمي يتغير، ولكنه كان في تغير مستمر على مدار التاريخ مثلما نعلم منذ فخ ثوقيديدس".

"في نهاية الكتاب يضع المؤلفان وصفة لمستقبلنا، فيبدو أن بعض عناصرها يشي بانفصال عن الواقع. فتأكيدهما أن ضريبة الثروة "قد تساعد في إعادة تحفيز الاقتصاد" يكذبه معظم التاريخ الاقتصادي. فما لم تفرض جميع البلاد هذه الضريبة، فإن من لا يفرضونها سيجتذبون صناع الثروات من أماكن أخرى، إلا في حال وضع "الاتفاقيات الضرائبية الدولية" التي يريدها الكاتبان، وهذا ببساطة ما لن يحدث، فقد تزامنت ضريبة الثروة في فرنسا مع ركود اقتصادي".

 

 

وليس هذا بالمأخذ الوحيد على الكتاب، فمقال مجلة "إيكونوميست" الذي يتناول "لماذا تسقط الإمبراطوريات؟" لا يرى التماثل بين انحدار روما وسقوطها مقنعاً بالقدر الكافي. "فلا شك أن بقية العالم تلاحق الغرب، اقتصادياً وديموغرافياً. وقد يصبح اقتصاد الصين عما قريب أكبر من اقتصاد أميركا. وأوروبا التي كانت تمثل ربع سكان العالم في عام 1914 تمثل أقل من عشره اليوم. والهجرة، وبخاصة من أفريقيا وأميركا اللاتينية، تحد سياسي كبير. والشعبوية هادرة في مسيرها، لكن مع ذلك، من الصعب على المستوى العالمي تصور منافس حقيقي عسكرياً لقوة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. فما تفعله روسيا في أوكرانيا الآن لا ينفي انحدارها منذ أمد بعيد. والصين هشة ونموها يتباطأ. والهند سياسياً يحركها الحقد. وقبضة الغرب قوية على أحدث التكنولوجيات والبحوث العلمية. وعلى رغم أن آفاق أوروبا الاقتصادية قد تكون غائمة، فالإنتاجية الأميركية أعلى من معظم منافسيها بلا مراء".

والحق أن الانحدار ليس حتماً على الغرب أو على الإمبراطورية الأميركية، ففي مقال حديث بصحيفة "نيويورك تايمز" نشر في الرابع من سبتمبر (أيلول) الجاري، كتب أحد مؤلفي الكتاب وهو جون رابلي يقول إنه "لم يزل بوسع أميركا أن تحشد مواردها الوفيرة للبقاء قوة القيادة في العالم. غير أنه من أجل القيام بذلك سيلزم الولايات المتحدة أن تتخلى عن محاولة استرداد مجدها الغابر من خلال اتباعها منهج أميركا المنفردة، وأميركا أولاً، فقد كان هناك دافع مماثل هو الذي دفع الإمبراطورية الرومانية إلى مغامرات عسكرية تسببت في خرابها النهائي. لقد تغير الاقتصاد العالمي، ولن يتسنى لواشنطن أن تسيطر على الكوكب سيطرتها القديمة، لكن إمكانية إقامة عالم جديد من التحالف مع بلاد مماثلة في الذهنية ترف لم يتيسر مثله لروما. ويجب على أميركا... أن تنتهز هذه الفرصة".

من اللافت أن سيمون هيفر استدعى في عنوان مقالته عن كتاب سقوط الإمبراطوريات تجربة بريطانيا مع الـ"بريكست"، وأهم من ذلك أنه استحضر مثال سياسات ليز تراس الاقتصادية الخطأ مقارناً إياه بدرس من سبعينيات القرن الـ20 في بريطانيا، فلم يكن هذا فقط مثالاً أحدث مما ينبغي على أن التاريخ يكرر نفسه، بل كان مثالاً أكثر محلية مما ينبغي. فالكتاب الذي كان هيفر يزمع تناوله لا يركز على بريطانيا، وإنما ينصب موضوعه على وريثتها في حكم العالم، أي الولايات المتحدة، لكن لعل هذا ما نفعله جميعاً حينما نقرأ، نترجم فورياً كل ما تقع عليه أعيننا إلى لغة تخصنا، فتتحول أميركا إلى بريطانيا مع قارئ بريطاني أو إلى روسيا مع قارئ روسي أو إلى الخلافة الإسلامية مع قارئ مسلم.

غير أن القراء لا يستوون في آثار هذه الترجمة، فمنهم من يقرأ فيحذر وينتبه ويقرر أن يؤثر حذره على الورقة التي سيضعها عما قريب في صندوق الاقتراع، ومنهم من يقرأ فيداعبه الأمل وهو يرى صعود بلده على جثة إمبراطورية متدهورة، ومنهم من تأكل الحسرة كبده، وربما خير لهذا القارئ الأخير ألا يترجم ما يقرأ أصلاً، وأن ينعم بالمسافة التي تفرضها اللغة الأجنبية، ويتأمل في برود لعبة الكراسي الموسيقية العالمية التاريخية، ساخراً في صمت من جرى الوحوش، محاذراً الاقتراب من ندوبه الحضارية الغائرة.

عنوان: Why Empires Fall: Rome, America and the Future of the West

تأليف: Peter Heather - John Rapley

الناشر: Penguin

اقرأ المزيد

المزيد من كتب