ملخص
يتردد أن هناك وحدات عسكرية لا تزال تدين بالولاء لبازوم لكنها تتفق مع المجلس العسكري على إزالة التدخل الفرنسي وتدخل "إيكواس" التي تخطط لنشر قوة عسكرية قوامها 25 ألف عسكري في النيجر
لم يقتصر الحشد ضد تهديد المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" والوجود الفرنسي في النيجر وإعلان باريس اعتزامها دعم جهود مجموعة "إيكواس"، على الاحتجاجات الشعبية المدنية فقط، إذ دعا قادة الانقلاب العسكري في النيجر إلى عسكرة وتجييش المدنيين تأهباً لأي تدخلات، بغرض إعادة الرئيس المنتخب محمد بازوم والحكومة المدنية. ووسط التظاهرات الشعبية توجهت وحدات من الجيش النيجري إلى القاعدة العسكرية الفرنسية في نيامي المكونة من 1500 جندي لمراقبتهم، مصحوبة بهتاف شعبي يطالب بسحب الجيش الفرنسي من القاعدة، في أجواء مشحونة بعد انتهاء ثاني مهلة من نوعها كان حددها المجلس العسكري للبدء في انسحاب القوات الفرنسية من النيجر.
ومع التصعيد الدبلوماسي بسحب الحصانة الدبلوماسية من السفير الفرنسي سيلفان إيتيه والطلب منه "مغادرة" البلاد، واتهام فرنسا بـ"التدخل الصارخ" عبر دعم الرئيس المعزول محمد بازوم، كان المجلس العسكري ألغى اتفاقات عسكرية عدة مبرمة مع فرنسا تتعلق بتمركز الكتيبة الفرنسية في النيجر للمشاركة في محاربة الإرهاب والجماعات المتطرفة.
مظاهر عسكرية
هذه المظاهر العسكرية لم تخفت بتعيين رئيس وزراء جديد للحكومة النيجرية، هو علي محمد الأمين زين وزير المالية في حكومة الرئيس الأسبق مامادو تانغا، الذي انتهت حكومته بانقلاب عسكري عام 2010 نفذه رئيس "المجلس الأعلى لاستعادة الديمقراطية بالنيجر" الجنرال سالو دجيبو. وفي ذلك إشارة إلى أن المجلس العسكري قد يقوم بما فعله سالو دجيبو الذي تعهد بإعادة السلطة للمدنيين، ونظم انتخابات رئاسية فاز بها محمدو إيسوفو عام 2011، الذي لم تخل فترتا حكمه من محاولات انقلابية ولكنه استمر إلى أن تنحى أخيراً، وعقدت انتخابات أخرى فاز بها محمد بازوم عام 2021، قبل أن يطيح به المجلس العسكري في الـ26 من يوليو (تموز) الماضي. والآن بتعيين رئيس وزراء جديد كان المجلس العسكري ينوي فرض التعامل مع مرحلة انتقالية تشمل مدنيين وعسكريين على المجتمع الإقليمي والدولي، مما يجعل من الصعب وصفها بأنها عسكرية فقط، ويتعذر معها التفاوض للعودة بالرئيس بازوم على سدة الحكم.
منذ أن أعلنت "إيكواس" في الـ10 أغسطس (آب) الماضي من قمتها المنعقدة في نيجيريا تفعيل "قوة احتياطية" لاستعادة النظام الدستوري في النيجر، شرع المجلس العسكري في وضع خطط للدفاع وتنظيم المقاومة التي يتولاها الجيش بكتائبه المختلفة، وفي مقدمها قوات النخبة والحرس الرئاسي، إضافة إلى الدعم العسكري المتوقع من مالي وبوركينا فاسو. ولكن ما يدق ناقوس الخطر هو "الكتائب الشعبية" التي دعا إلى تشكيلها قائد المجلس العسكري عبدالرحمن تياني "للدفاع عن البلاد".
موازنة الأدوار
كحال الانقلابات في أفريقيا أفضى انقلاب النيجر إلى الوصول بالبلاد إلى مستوى عال من عسكرة الدولة، وبحسب محللين فإن ذلك يكشف عن أن محمد بازوم على رغم أنه رئيس منتخب، إلا أنه كان ينتهج استراتيجية عزل عملية صنع القرار في الدولة باستخدام الهياكل والإجراءات العسكرية، مما أنتج نظاماً عاجزاً عن الموازنة بين الأدوار المدنية والعسكرية. فلرئيس النيجر كانت تخضع القيادة العامة للقوات المسلحة بقسميها الرئيسين، الأول فرع عسكري يتكون من الجيش والقوات الجوية، والثاني شبه عسكري يتكون من الدرك الوطني والحرس الوطني والشرطة. ويخضع الجيش والقوات الجوية والدرك الوطني لوزارة الدفاع النيجرية، بينما يخضع الحرس الوطني والشرطة لقيادة وزارة الداخلية النيجرية. وهذا ما يفسر تأخر إعلان القيادة العسكرية للقوات المسلحة في النيجر تأييدها لقوات الدفاع والأمن التي أطاحت ببازوم، ووصفت الخطوة بأنها "من أجل تجنب مواجهة دامية بين القوى المختلفة".
هذه التأثيرات لم يكن بالإمكان القضاء عليها بنظام ديمقراطي يتوغل داخله النفوذ العسكري، فالنيجر لديها حوالى 30 ألف جندي موزعين بين أقسام الجيش المختلفة. ويتردد أن وحدات عسكرية منها لا تزال تدين بالولاء لبازوم، لكنها تتفق مع المجلس العسكري على إزالة التدخل الفرنسي وتدخل "إيكواس" التي تخطط لنشر قوة عسكرية قوامها 25 ألف عسكري في النيجر. ويبدو أنه بعد إزالة العدو المشترك، ربما تكون هناك مواجهات مرتقبة، إذ لا يتوقع أن يظل الجيش متماسكاً، بل سيكون مستعداً للدخول في صراع بين أجنحته. كما أن هيكل الجيش النيجري الذي صمم على نموذج القوات المسلحة الفرنسية جعل قيادة الجيش تتهيب الكتيبة الفرنسية على رغم قلة عددها مقارنة بعدد جنوده، لعلمهم باستراتيجية تحركات الجيش.
وباعتبارها قوة استعمارية سابقة للنيجر فإن بنية الكتيبة الناشئة عن القوات الفرنسية كتطور تاريخي عن قوة أوروبا العسكرية، تختلف عن النسخة النيجرية الناتجة من نمط الهيمنة والتبعية. فالجيش النيجري سيحافظ على الهيمنة الراسخة داخل الدولة، ولكن عند المواجهة مع القوة الفرنسية الداعمة لـ"إيكواس"، سينتقل إلى وضعه الطبيعي من حيث عدم التكافؤ، وحينها ستبرز حاجته إلى قوة عظمى تمده بالدعم اللوجيستي والتدريب العسكري وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
احتمالات التدخل
حذرت دول مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري من أن أي تدخل عسكري ضد النيجر سيكون بمثابة إعلان حرب عليها، أما بالنسبة إلى إعلان مالي وبوركينا فاسو استعدادهما للدفع بقوات لمساندة الجيش النيجري، ومقدرتهما على مواجهة "إيكواس" كل من منطلقاته الخاصة، فإنه لا يوجد مقياس معين لمدى هذه القدرة أو معيارها الأخلاقي، باعتبار أن الجيوش الأفريقية بما فيها قوات "إيكواس" هي جيوش وريثة للنظام العسكري الاستعماري، يتمثل دورها في القمع. ولا يتوقع أن تترفع قوات "إيكواس" أو قوات النيجر وحلفاؤها عن هذه الصفة عند وقوع أية مواجهة عسكرية.
ومع الاحتمالات الواسعة للتدخل، لكن هناك عقبات عدة تحيط بالطرفين، مثل ما تواجهه "إيكواس" من عوائق سياسية وقانونية وتنظيمية، وإنسانية تتعلق بمساومات على سلامة المدنيين، وأمنية تتعلق بتسرب الإرهابيين وغيرها. أما في ما يتعلق بمشاركة قوات مالي وبوركينا فاسو، فإنه يتوقع أن تكون مشاركة رمزية لانشغال قوات البلدين بنزاعاتهما الداخلية مع الجماعات الإرهابية المسلحة وتمركزها في المناطق الحدودية بين الدول الثلاث.
كتائب شعبية
وضع الجيش النيجري إضافة إلى ضعف الدعم المتوقع من حلفاء النيجر، دعا قادة الانقلاب في النيجر إلى الدعوة إلى تشكيل كتائب شعبية تحت شعار التطوع للدفاع عن البلاد. وهذا يعني أن المجلس العسكري مستعد للحرب حتى لو أدى الأمر إلى عسكرة المدنيين، التي تتجاوز الاستعانة بأفرع القوات المسلحة شبه العسكرية المكونة من الدرك الوطني والحرس الوطني والشرطة عبر مدها بالأسلحة والزي العسكري، ومطالبتها بالتدخل مباشرة في القتال المحتمل إلى جانب المواطنين.
في أوقات السلم النادرة فإن العلاقات المدنية - العسكرية في أفريقيا تنطوي على استخدام الجيش في مهمات داخلية غير قتالية مثل تطوير البنية التحتية وتأمين مواقع الموارد الطبيعية مثل مناطق إنتاج النفط وتعدين الذهب وغيرها من هجمات الجماعات الإرهابية والحركات المتمردة المسلحة، أو السيطرة على موجات الفساد في المؤسسات العامة، على رغم أن هذه المهمات غير القتالية تضع الجيش في حال مساءلة عن أي إخفاق سياسي أو اقتصادي متعلق بهذه الموارد أو المؤسسات العامة. أما في أوقات الحروب والنزاعات فتسود النزعة العسكرية، وإعلاء النبرة القومية لدرجة تنزيه الجيش والكف عن عدم توجيه النقد له وإظهار التضامن معه، لتفادي ما يقابل ذلك من تجريم.
وعلى رغم اقتناع كثيرين بأن المؤسسة العسكرية يصعب تصور وجودها بشكل صارخ في الحياة السياسية الديمقراطية، إلا أنه في الديمقراطيات الأفريقية الوليدة ومنها النيجر فإن الرئيس محمد بازوم وسلفه محمدو إيسوفو لم يستطيعا التخفيف من النفوذ العسكري أو القضاء عليه بالكامل، نتيجة لإرث الحكم العسكري والامتياز الذي نالته العسكرية في الحياة الأفريقية باكتساب القوة والسلطة والثروة والمكانة الاجتماعية.
من المهم ملاحظة أن هذا التداخل المثير لقلق الديمقراطيات الغربية هو ليس كذلك في أفريقيا، إذ يتداخل المفهومان إلى حد بعيد من دون أن يثير التداخل أي جدل، إلا بالقدر الذي يضمن مصالح الأحزاب والقوى السياسية المختلفة. أما في مجتمع الديمقراطيات الغربية فيكون ذلك استثنائياً مثل استخدام القوى العسكرية وشبه العسكرية ضد مظاهر الإرهاب المختلفة، كما تبرر تدخلاتها العسكرية المباشرة ضد ما يهدد مصالحها خارج حدودها، سواء تعلق ذلك بمكافحة الإرهاب أم غير ذلك.
أجواء ملتهبة
يمكن ملاحظة اختلاف التوجهات نحو عسكرة المدنيين بين دولة أفريقية وأخرى تحت ظل الحكومات الانقلابية بالاستناد إلى توجهات جيشها، أما الأثر الذي تتساوى فيه النيجر مع جيرانها من هذه الدول فهو أن تجييش المدنيين سيؤدي إلى تحولهم إلى ميليشيات مسلحة تفاقم من حال التدهور السياسي والأمني. كما أن الحماسة الطاغية التي ظهرت في الحشد الشعبي الذي يواصل احتجاجاته ضد الوجود الفرنسي وتدخل "إيكواس" تهيئ الدولة إلى المضي في العسكرة، وتشجعها على تفضيل الأدوات العسكرية على تلك الدبلوماسية، وقد لا تتراجع عنها إلى نظام ديمقراطي، أو تصل إلى قناعة بانتهاء الفترة الانتقالية، كما أن هذه الأجواء الملتهبة تزيد من احتمالية الحرب وينتج منها تشويه عملية صنع القرار في الدولة.
يكمن الخلل من حال التجييش الشعبي في أن القوات المسلحة تختلف عن القوات شبه العسكرية بأن الجيش يمثل هيكلاً تنظيمياً بدرجة عالية من المركزية والتسلسل الهرمي، بينما القوات شبه العسكرية تفتقر إلى تسلسل القيادة والانضباط، وهي صورة شبيهة بالجيش. ومع أن المطالبة بالعسكرة تجيء في إطار التطوع، إلا أن جانبها النفسي قائم على الإكراه. أما الغرض الظاهري منها فهو مشاركة القوات المسلحة في الحرب أو النزاع لصد عدو أو تنفيذ عدوان، بحسب وجهة نظر هذه القوات تجاه غيرها، فإنها من ناحية أخرى تستخدم للحفاظ على نظام عسكري وترسيخه في مجتمع تسيطر عليه المؤسسة العسكرية. وإن كان الهدف الأول يستند إلى معايير أخلاقية ووطنية فإن الحكومات العسكرية عند خلق ذراع مساندة لها وجماعات منبثقة عنها، تمضي إلى أبعد من ذلك فتقوم بتعديل الهيكل الدستوري لترسيخ عسكرة الإدارة السياسية، حتى تصل إلى إزالة الخط الفاصل بين تجييش المواطنين في حال التفاعل المدني - العسكري من أجل الدفاع عن البلد، وبين العسكرة غير الضرورية أو المرفوضة.