تغنت شعوب المنطقة منذ القدم بجمال المها العربي ووظفوا عشيرته من الغزلان والظباء والريم في المدائح الروحية والغزلية وخلدوها رسماً على جبالهم وصخورهم والجلود، قبل أن يطوروا تلك الذاكرة لاحقاً ألحاناً غنائية سرت بها الركبان مثل "نهج البردة" وأخواتها.
لكن سحر "عيون المها" الذي آمن به شعراء العرب لقرون، لم تقع فيه منظمة اليونسكو إلا متأخرة، عندما قالت مصادر لـ"اندبندنت عربية" إنها على الأرجح لن تستطيع مقاومة أسراب المها المتلألئة على أمواج رمال "الربع الخالي"، وهي تستعيد نشاطها القديم في محمية "عروق بني معارض" التي رشحتها السعودية هذا العام لتصنيفها على قوائم اليونسكو للتراث العالمي.
ومع أن مصادر أخرى تحدثت إلى الصحيفة على هامش أعمال "لجنة التراث" المنعقدة في الرياض بين العاشر والـ25 من سبتمبر (أيلول) الجاري، لفتت إلى أن قرية "الفاو" الأثرية أيضاً قد تفوز بالأصوات اللازمة لتحتل مقعداً آخر في اليونسكو، إلا أن القائمة الرسمية للترشيحات لدى المنظمة الدولية، لم تشارك فيها السعودية بغير محمية بني معارض. لكن عند مراجعة خرائط المنطقة المحيطة بالمحمية، نجد أنها و"الفاو" جارتان، فلا يفصل بينهما عدا 20 كيلومتراً، مما يعني أنه عند فوز بني معارض وهو المرجح حتى الآن، تكون الفاو هي الأخرى مستفيدة من الزخم العالمي، إلى حين تنضم إلى القائمة العالمية، وهي موقع الحفريات الأول بهذا الحجم الذي ينفض عنه خبراء الآثار السعوديون الغبار.
وبدأت المحمية بتحضير نفسها ليوم عيدها المرتقب قبل نحو 30 عاماً، إلا أن الدفعة الكبيرة جاءت أخيراً بصدور قرار تنظيم المحميات، ينص على اعتمادها أرضاً محمية إلى الأبد، على رغم وقوع الأجزاء الكبيرة من بني معارض على رمال "الربع الخالي" التي عرفت باحتياطاتها الهائلة من النفط والغاز، إذ كان حقل "الشيبة" الواقع على تلك الصحراء مترامية الأطراف، بين أغنى الحقول في السعودية والعالم بالسائل الثمين، بواقع 1.3 مليون برميل يومياً، مما يجعل المحمية تخدم هدفاً استراتيجياً في ضمان التوازن والاستدامة البيئية.
بعد غياب ٩ عقود عن مواطنها بشمال المملكة.. جهود #المركز_الوطني_لتنمية_الحياة_الفطرية بالتعاون مع @KSRNReserve في إكثار وإعادة توطين المها العربي تؤتي ثمارها.. وأول مولود للمها يبصر النور بمحمية الملك سلمان الملكية. #لتحيا_بسلام pic.twitter.com/Z5CmaplHo2
— المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية (@NCW_center) June 6, 2022
يأتي ذلك في وقت فاز مشروع الحقل نفسه بجائزة مجلس التعاون الخليجي للتميز البيئي عام 2011 لاستخدامه تقنية التلافي التام لحرق الغاز وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي واستخلاص الانبعاثات وحماية الحياة البرية، إذ يعيش في المنطقة المحيطة بالحقل أكثر من 70 غزالاً رملياً و40 مها عربية، في واحدة من إحدى صور التكامل بين الجهات التنموية في البلاد.
وبين العوامل التي عززت حظوظ محمية عروق بني معارض أمام اليونسكو ورجحت كفتها، اتخاذ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خطوات جريئة بإعلانه تخصيص 30 في المئة من مساحة المملكة البرية والبحرية محميات، تستهدف "الاستدامة والحفاظ على البيئة"، وهي خطوة وافقت حاجة في نفس المنظمة الدولية التي فاخرت أخيراً بأن عدداً كبيراً من مواقع التراث العالمي المسجلة لديها طبيعية، تساعد في الجهود الدولية الرامية إلى إعلان حال الطوارئ لتخفيف حدة الأخطار المهددة للكوكب ودفعت إلى "تقلب المناخ" رأساً على عقب.
ماذا نعرف عن المحمية؟
ويفيد مركز الحياة الفطرية السعودي أن "المحمية الواقعة على الحافة الجنوبية الغربية للربع الخالي تبلغ مساحتها 12787 كيلومتراً، وتضم عدداُ من التشكيلات الأرضية والمواطن الفطرية الطبيعية المهمة، منها كثبان رملية مرتفعة وهضبة جيرية متقطعة، وتعتبر آخر المواطن في الجـزيرة العربيـة التي شوهد فيها المها العربي عام 1979".
ولفت المركز إلى أن النعام العربي وظبي الريم وظبي العفري والوعل كانت موجودة سابقاً في المنطقة كذلك، لهذا نفذ برنامج "إعادة توطين المها وظباء الريم والإدمي في المحمية بنجاح منذ 1995، وتأقلمت تلك الحيوانات وتكاثرت طبيعياً في بيئة المحمية وتتنامى بشكل مستمر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعود تسمية "عروق بني معارض" نحتاً من تاريخ المكان، نسبة إلى الكثبان الرملية (العروق في اللغة المحكية) التي "تعترضها" سلسلة جبال طويق خلال زحفها نحو الغرب.
وتأسست بهدف المحافظة على الأنظمة البيئية الطبيعية الممثلة لأكبر بحار الرمال في العالم "الربع الخالي" وما تحتضنه من أنواع فطرية حيوانية ونباتية ذات قيمة عالمية.
ويرى المهتمون بالمواقع الأثرية في السعودية أن "المحمية تمثل إحدى أنجح التجارب العالمية في إعادة توطين المها العربي في البرية، وهو المكان الأخير الذي سجل فيه المها في حالته الفطرية على وجه الأرض، والمكان الوحيد في وقتنا الحاضر الذي تعيش فيه قطعان المها حرة طليقة في البرية من دون أي محددات، إذ حرص القائمون على المحمية أن تكون بلا أسوار".
كما يسجل في المحمية تنوع حيواني غني يضم قطعاناً كبيرة من غزال الريم الرملي وغزال الإدمي الجبلي والحبارى الآسيوية ونسر الأوذون وثعلب الرمل وقط الرمل وأرنب الربع الخالي، وعدداً من الزواحف المستوطنة مثل أفعى الرمل وسحلية الرمل والضب صغير الحراشف وورل الصحراء.
جارة حضارة "الفاو"
وحول ما يضيف إليها موقع "الفاو" من أهمية جعلتها محط نظر اليونسكو وقبل ذلك السعوديين الذين رشحوها للتصنيف، تشير النشرة المتداولة عن المحمية إلى أن "تجاور المحمية مع موقع الفاو الأثري ذي الأهمية العالمية كمدينة تجارية قديمة تنتشر فيها وحولها المعالم والأدوات الصخرية العتيقة، يضفي عليها قيمة ثقافية، إلى جانب تمتع المنطقة بموروث ثقافي محلي غني ومتنوع يمثل نتاجاً لمئات السنين من التعايش بين الإنسان وبيئته المحيطة في واحدة من أكثر المناطق جفافاً وصعوبة للعيش على وجه البسيطة"، فضلاً عن أن المحمية نفسها، وجدت فيها آثار تاريخية قديمة، بحسب ما قال عضو سعودي في اليونسكو يؤكد استحقاقها الانضمام إلى التراث العالمي.
ويعتقد المدافعون عن التراث الطبيعي بأن أحد عناصر الأهمية المنضوية في الموقع توسطه مناطق في السعودية حيوية، بين محافظة وادي الدواسر التابعة لمنطقة الرياض، ويدمة التابعة لنجران على بعد متساوٍ بنحو 200 كيلومتراً، كما تحيط بها قرى ومدن أصغر ذات كثافة سكانية متفاوتة، تجعل الموقع مكاناً مؤهلاً لتقديم تجربة نادرة لقاصديه من السعودية والعالم.
وتعتبر الحال البيئية للمحمية بصورة عامة جيدة والحياة الفطرية النباتية والحيوانية فيها ممثلة للبيئات القاحلة، ومن أكثر النباتات شيوعاً فيها الغضى والأثموم وأشجار الطلح والبان والحرمل والطرف والعشر، لكن إضافتها إلى التراث الأممي ستمنحها نقلة نوعية أسوة ببقية مواقع التراث المادي الستة المسجلة في السعودية على قائمة التراث العالمي.
وتبذل جهات سعودية وخليجية جهوداً مضنية للحفاظ على الحيوان الثمين، المرتبط بالجزيرة العربية بيئياً وثقافياً، إذ أطلقت "محمية نيوم" أخيراً أربعة أنواع من الحيوانات البرية (المها العربي والوعل والغزال الرملي -ظبي الريم والغزال الجبلي) ضمن المرحلة الأولى من برنامج إعادة توطين الكائنات الفطرية التي تشمل إطلاق عدد من الحيوانات البرية في المحمية بالتعاون مع المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية الذي احتفل شمال البلاد بميلاد أول فرد من المها في بيئته هناك إثر محاولات إغرائه بالتكاثر وتنمية عناصره بعد تسعة عقود من الغياب عن موطنه.