Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تحية عبد الناصر تتناول كتابة الذات في معركة الحرية

دراسة بالإنجليزية تعيد قراءة سير ذاتية عربية من وجهة النضال القومي

كتابة السيرة الذاتية عمل إشكالي (محترف الكتابة)

على رغم انشغال الأدب العالمي بكتابة الذات منذ وقت متقدم، فإن مصطلح "السيرة الذاتية" لم يذكر إلا في أواخر القرن الثامن عشر، عندما استهجنه الناقد ويليام تايلور في إحدى مقالاته، لتركيبته المتحذلقة. غير أن هذا الاستهجان كان بمثابة شرارة البدء لاستخدامه على النحو الحالي. أما ما سبق من أعمال، فتم تداولها تحت مسمى اعتذار أو تبرير، نظراً إلى ما قدمته من شرح أو تعليل لأفعال كاتبها، وليس استكشافاً لمراحل من حياته أو عرضاً ليومياته. ويبدو استخدام القديس أوغسطين  لمفردة "اعترافات" كعنوان لسيرته الذاتية، وكذلك جان جاك روسو ومن حذا حذوهما من كتاب السيرة، مثيراً حقاً لفضول القارئ، وإن كان يؤدي غرضاً وحيداً لكاتبه يتمثل في الخلاص من ثقل ما، بإزاحته عن كاهله.

وكما تأخر المصطلح، وتعذر وضع تعريف محدد لهذا النوع المرن، تأخر الاعتراف أيضاً بهذه الكتابة كنوع أدبي حتى الربع الأخير من القرن العشرين، ولم يعرها النقد انتباهه إلا في السنوات الأخيرة، لا سيما السيرة الذاتية العربية التي وصلت حد التهميش في الدراسات الاستشراقية الإنجليزية، لولا أن اجترأ دوايت رينولدز على مناوشة النوع المهمل والمحظور في كتابه "تفسير الذات: السيرة الذاتية في التقليد الأدبي العربي" (2001). ومن ثم توالت الدراسات، ومنها كتاب "السيرة الذاتية الأدبية والنضالات الوطنية العربية" الصادر حديثاً عن مطبعة جامعة إدنبره، للباحثة تحية عبد الناصر، أستاذة الأدب المقارن ومديرة الدراسات العليا في قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة الأميركية بالقاهرة، ومحررة كتاب "ناصر زوجي"، هي حفيدة الرئيس جمال عبد الناصر. كتاب مهم وشامل ورصين بمنهجيته وتعدد مراجعه ومصادره.

من العزلة إلى التلصص

تأثرت السيرة العربية خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين، بتجربة الاستعمار والاستقلال على حد سواء، وترصد ناصر ملامح هذا التأثر في اللغة والأسلوب والنزعة الأيديولوجية الغالبة، سواء في النصوص المكتوبة بالعربية الأم أو الفرنكوفونية أو الإنجليزية، لعدد من المؤلفين من مصر والجزائر وفلسطين والعراق، لتقديم قراءة جديدة لأعمال السيرة الذاتية في الأدب العربي ضمن مناقشات ما بعد الاستعمار.

تبدأ رحلة البحث بحوار بين سيرتين يفصل بينهما حوالى قرن من الزمان، "الأيام" 1929 لعميد الأدب العربي طه حسين، و"التلصص" لصنع الله إبراهيم 2007، باعتبارهما نموذجين لرواية التكوين التي تروي حياة البطل صبياً وشاباً، في بلد يمر بمرحلة انتقالية من المجاهدة المريرة للتخلص من الاستعمار إلى الالتزام القومي المعاصر. وبينما تطرح "الأيام" نموذجاً لسيرة كتبها رجل أعمى في عزلته المطبقة، تكشف سيرة صنع الله إبراهيم عن بانوراما مشهدية من خلال عيني الطفل البصيرتين، كنافذتين للتجسس على العالم. تستكشف ناصر من خلال هذا الحوار الطرق التي سلكها كلا الكاتبين لطمس الحدود التقليدية بين الرواية والسيرة الذاتية وكيف أعادا صياغة النموذج من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين، بالتوازي مع التطورات الوطنية.

أغنية فلسطين والعزلة الثورية

 في الفصلين الثالث والرابع، تقدم عبد الناصر قراءة للذات الفلسطينية التي لم تفلح محاولات التمزيق الممنهجة، في النيل من وحدتها عبر الحدود الوطنية واللغوية. تستعرض فيها أربعة نصوص باللغة العربية لفحص أثر ما خبرته من سلب ونفي وتهجير، في التعبير عن نفسها بأسلوب غلبت عليه الغنائية كما في "ذاكرة للنسيان" لمحمود درويش 1986 عن الحصار الإسرائيلي لبيروت، و"جدارية" ملحمته الصادرة عام 1999، إلى جانب "رأيت رام الله" 1997، و"ولدت هناك ولدت هنا" لمريد البرغوثي. ومن خلال السير الأربع تقبض ناصر على لحظة التوتر بين عزلة الشاعر ودوره العام، لتصل في الفصل الرابع "عزلة ثورية" إلى انقسام الذات مع انفصالها عن الثقافة الأصلية والانخراط في ثقافة جديدة في السير المكتوبة باللغة الإنجليزية، مثلما في مذكرات إدوارد سعيد "خارج المكان: مذكرات" (1999) التي تروي رحلته الثقافية والأدبية من فلسطين ولبنان ومصر إلى دراسته وتعليمه في الولايات المتحدة.

 يجري في هذا الفصل حوار لابد منه بينه وبين ابنته نجلاء سعيد من خلال مذكراتها "أبحث عن فلسطين: نشأتي المرتبكة في عائلة عربية أميركية" 2013. وهو ما استجلب المقارنة بين شباب إدوارد سعيد في العالم العربي وخلفية ابنته العربية الأميركية، واختيار الأب الهجرة، في مقابل قرار الابنة بالعودة إلى جذورها، مما يفتح دعوة إلى إعادة التفكير في رحلة النوع عبر اللغات والثقافات.

سيرة ذاتية أم ثورة نسائية

 يتألف الكتاب من ستة فصول، ثلاثة منها تخص المرأة العربية. تبدأ بمذكرات لطيفة الزيات "حملة تفتيش: أوراق شخصية" الصادرة عام 1992 في تقابل مع "الحب والفانتازيا" 1993، و"لا مكان في منزل أبي"، 2008"، للكاتبة الجزائرية آسيا جبار. وبينما تتحدى جبار التأريخ الفرنسي لحرب الاستقلال الجزائرية بالفرنكوفونية، تعيد الزيات فحص الثقافة الوطنية وتاريخ الحركة الطلابية في الأربعينيات في مذكراتها المكتوبة بالعربية. وهي أعمال في مجملها تكشف عن ثورية نسائية أفرزت أشكالاً فنية جديدة وطرائق مغايرة للتعبير، تصلح كنماذج لتكييف هذا النوع الأدبي في الثقافات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية.

في الفصل المعنون بـ"مذكرات ميدان التحرير"، ساحة الثورة ومصدر شرعيتها في مصر المعاصرة تتناول رضوى عاشور في "أثقل من رضوى: أجزاء من سيرة ذاتية" و"الصرخة"، وكذلك منى برنس "اسمي ثورة"، وتتوقف عند مشاركتهما في ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، بما يكشف عن مدى تأثير الثورات العربية في القرن الحادي والعشرين في كتابة الذات، كأن تتشابك الكتابة والنشاط والدور المحوري للحرم الجامعي، وميدان التحرير لإنتاج نوع جديد من السيرة الذاتية. وفي فصل بعنوان "الحلم بالعزلة"، تظهر أشكال مغايرة من السير قوامها تجارب العزلة والعنف والتعذيب والصدمة في السجون العراقية، كما في مذكرات هيفاء زنكنة "الحلم ببغداد" (1990) التي تقدم أشكالاً جديدة لاستكشاف ذاتية النساء الثوريات العراقيات من خلال إدراك هشاشة الذاكرة وتحدي المحظورات على الشهادة، في حين تستكشف عالية ممدوح  في كتابها "الأجنبية" (2013) مسار العراقيات في مجتمعات الشتات، مع التركيز على آثار العنف وانتهاك المحرمات.

مقارنة الجنوب بالجنوب

علاوة على نطاق البحث المؤلف من نصوص لم يتم جمعها معاً من قبل، وتخصيص مساحة كبيرة لكتابة المرأة لم يسبق أن نالتها، حرصت الباحثة في كل فصل على الاستعانة بنصوص عدة من عصور مختلفة لتوسيع دائرة الحوار وصولاً إلى النصوص الكنسية. وحرصت أيضاً على دحض المقاربات الأوروبية كافة، بالرجوع إلى مصادر ومقتطفات من التراجم والسير والطبقات، كدليل وبرهان على الطابع المحلي لهذا النوع الذي أشار بعض علماء الاجتماع وعلماء النفس إلى مدى قدرته على إعادة اختراع التاريخ. ونأت كذلك بنفسها عن الاندياح في إشكالية الشرق والغرب المهيمنة على دراسات ما بعد الاستعمار، لفتح أفق على روابط أكثر قرابة في كتابة الذات، بين دول الجنوب من العالم كافة، لا سيما أميركا اللاتينية، مشيرة إلى بابلو نيرودا وغابرييل غارسيا ماركيز وغيرهما من الكتاب البارزين. وهذا الإطار المقارن لربط الأدب العربي بأدب الجنوب العالمي، من شأنه كما ترى الناقدة هيام شرفة، "أن يفتح آفاقاً نقدية للتحقيقات المقارنة في فترة ما بعد الاستعمار في الأدب العربي، وظهور مسارات نقدية جديدة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ينتهي الكتاب بخاتمة تتقصى تأثيرات الترجمة وكتابة السير في لغات أخرى، على عالمية الآداب الوطنية وكذلك على دراسة الأدب العالمي. وتتناول النظريات الحالية لقراءة السيرة الذاتية العربية ضمن النظم الأدبية الجديدة.

غير أن العنوان الذي اختارته الدراسة "النضالات القومية العربية" قد لا ينطبق على كل السير الذاتية المدرجة في نطاق البحث، كما تذهب الناقدة إيميلي درومستا قائلة: "بالنسبة لجبار، الزيات، درويش، والبرغوثي، فإن هذا الإطار يبدو منطقياً. لقد كتب كل هؤلاء في سياقات النضال الوطني المناهض للاستعمار، وتمحورت حركات الاستقلال التي ينتمون إليها (مصرية وفلسطينية) حول التضامن العربي. ومع ذلك، فإن فكرة أن المؤلفين المنتمين إلى الشيوعية، مثل العراقية هيفاء زنكنة (التي تم تناولها في الفصل الخامس)، كانوا جزءاً من "النضالات القومية العربية"، تبدو في غير محلها إلى حد ما". وكذلك الأمر بالنسبة إلى رضوى عاشور، "التي يوصف دعمها لحركات التحرر في العالم الثالث، بما في ذلك النضالات الأميركية- الأفريقية وأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي والأفريقية والفلسطينية من أجل العدالة تحت راية واحدة في شكل غير دقيق على أنه وطني".

 ومن ناحية أخرى، تأمل أن تبدأ أعمال الزيات المهملة في الظهور بشكل أكبر في المناهج الدراسية في "أدب ما بعد الاستعمار" أو "الكتابة النسوية ما بعد الاستعمارية" بفضل البحث الذي قامت به تحية عبد الناصر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة