ملخص
عندما اعترف المخرج الإيطالي بأن فيلمه ولد صدفة و"ربما لأنني لم أحب زير النساء هذا أبداً"
ما من مبدع في القرن 20 ضاهى المخرج السينمائي الإيطالي الراحل فدريكو فيلليني في عدد الحوارات التي أجريت معه. فهو شارك في مئات الحوارات وبنى عشرات الصحافيين والنقاد من حول حواراته عشرات الكتب التي حملت أسماءهم وكانت تجمع حوارات أجروها مع فيلليني، كما كان ظهور كل فيلم جديد له يشكل مناسبة لحوارات تبدأ ولا تنتهي. وهو كان يستمتع بتلك الحوارات كما يقول، وبصرف النظر عن أنها "كانت في بعض الأحيان تتسم بقدر مدهش من الغباء" كما كان يقول مضيفاً بمكر أنه لم يكن في أجوبته على تلك الأسئلة الغبية يتردد في توفير أجوبة غبية تماثلها. فيأخذها محاوروه على أنها تحف نادرة! غير أنه كان يحدث في مرات كثيرة أن يكون المحاور مبدعاً كبيراً "لا يقل عني أهمية" كما يقول فيلليني. وعند ذلك "كنت أتعامل مع حواري معه كعمل أدبي/ فني استثنائي" ومن ذلك ما حدث في عام 1978 ولمناسبة عرض فيلمه الجديد آنذاك "كازانوفا"، حيث جمعته مجلة "الإكسبرس" الفرنسية بالكاتب البلجيكي جورج سيمنون (الذي كان يعرف باهتمامه الفائق بحكاية زير النساء الإيطالي الأشهر) وسجلت بينهما حواراً لم يندم عليه أي من الاثنين على الإطلاق واستقبل من قبل جمهورهما استقبالاً رائعاً.
مبدعان يقاطعان الصالات
يومها بدأ سيمنون الحديث بتذكير فيلليني بأنه لا يذهب إلى السينما أبداً، فقال هذا الأخير بدوره إنه أيضاً ليس من رواد الصالات المظلمة، ثم شكر محدثه حين قال له إنه بكى عندما شاهد فيلم "كازانوفا" قبل فترة. وبعد دردشة مجاملات قصيرة سأل سيمنون فيلليني عن الكيفية التي جاءته بها فكرة تحقيق فيلم عن كازانوفا، فقال إن المسألة ابتدأت قبل خمسة أعوام حين كان المنتج دينو دي لورنتس في طريقه للهجرة إلى أميركا "فطلب مني، أن أوقع معه عقداً يستخدمه كبطاقة دخول إلى الولايات المتحدة، ففعلت بدافع حبي الشديد له. أما بالنسبة إلى كازانوفا، فلم أكن بالفعل قد قرأت شيئاً عنه اللهم إلا في الكتب المدرسية التي لم تبق لي سوى بعض الذكريات الغامضة، ولكن حين آن أوان قراءة "مذكرات كازانوفا"، قلت: يا للمصيبة! ترى، ما هو القاسم المشترك بيني وبين هذا السافل؟ كازانوفا لم يكن فناناً، وهو أبداً لم يتحدث في مذكراته عن الطبيعة أو عن الأطفال أو الكلاب... كل ما كتبه لا يشبه سوى دليل هاتف... إنه محاسب، عالم إحصاء، بلاي بوي ريفي يعتقد أنه قد عاش، مع أنه في الواقع لم يولد أبداً. إنه شخص سافل دار حول العالم متسكعاً".
لكن الفيلم ولد أخيراً
أضاف فيلليني: "شعرت باليأس. وقررت عدم إنجاز الفيلم. وقطعت كل الجسور مع دي لورنتس (...)، ولكن أخيراً في عام 1975 تمكن ألبرتو غريمالدي المنتج الذي حققت معه فيلم "ساتيركون"، من العثور على ما يكفي من المال من طريق الأميركيين... فبدأت التصوير. واخترت دونالد ساذرلاند ليلعب الدور الرئيس. وعلى الفور، بدأت الصعوبات بالتراكم". وهنا قاطع سيمنون فيلليني معلماً إياه بأنه على علم بكل الصعوبات التي يذكرها، غير أن المخرج أكمل حديثه قائلاً: "الواقع أن هذه الصعوبات أراحتني إلى حد بعيد، فقد أتت لتبرر المقاومة التي سبق لي أن أبديتها تجاه إنجاز الفيلم. فالحقيقة أنني كنت أمقت شخصية كازانوفا، وكنت أرفض التعامل معه فنياً. غير أنني كنت، على رغم مني، قد قررت صنع الفيلم: كفيلم عن الخواء الوجودي، عن شخص يعيش في تمثيل مستديم، ناسياً أن يحيا واقعه. ربما كنت أرغب، سلفاً، في تتبع الصورة السيكولوجية للفنان الذي هو بدوره يعيش تمثيلاً دائماً على مسرح الحياة، ويعيش دوار الفراغ. الأمر كان أشبه بفيلم عن لا جدوى الإبداع، وعن الصحراء الخاوية التي يجد الفنان فيها نفسه".
عند ذاك، استطرد فيلليني، "فهمت مغزى الكره العميق الذي أشعر به إزاء كازانوفا. فهذا الفيلم الذي كنت أرفضه بكل قوة، كان في طريقه ليسجل حدوداً ليس لعملي الفني، بل لحياتي كلها، إذ بعد هذا الفيلم، بات ينبغي على الجانب المتغير في، على الجانب المتردد، الذي دائماً ما تغريه المساومات، على الجانب الذي لا يريد أبداً أن أصل إلى مرحلة البلوغ، بات ينبغي عليه أن يموت. وبدا هذا الفيلم بالنسبة إليّ نوعاً من الانزلاق نحو المرحلة الأخيرة...". وسكت المخرج قبل أن يضيف "إنني الآن في الـ57... والـ60 تبدو ماثلة أمام ناظري. ومن هنا وجدتني أحمل الفيلم كل آلامي، والخوف الذي أشعر الآن بعجزي عن مواجهته. لقد اغتذى الفيلم من مخاوفي... هل تراني لا أفسر جيداً ما أريد التعبير عنه؟!".
السيناريو مرحلة خطرة
أجاب سيمنون: "أبداً إنك تفسر في شكل جيد، ولكن هل كنت واعياً هذا من لحظة تجهيز السيناريو؟" "لا... فالسيناريو بالنسبة لي، وعلى الدوام مرحلة خطرة. أليس من الغباء على الفنان أن يحدد على الورق كل تلك الأشباح التي لن تتجسد إلا بعد ستة أشهر؟ ينبغي على السيناريو ألا يكون إلا لتنظيم عملية الإنتاج. غير أني أحاول دائماً أن يظل السيناريو الذي أكتبه في منتهى الغموض وعدم الدقة، بحيث لا يقوم بتحديد صياغة نصف أدبية لأفكار ستولد على شكل صور في ما بعد. إن الصور التي ستولد من السيناريو المكتوب، ستكون بالضرورة على تناقض مع تلك التي تولد من عالمنا المتخيل. فمن شأن هذا الاستباق الخطر أن يحيط كل مخيلتك بمختلف أنواع الغدر والخيانة".
هنا تساءل سيمنون: "كيف يكون احتكاكك الأول الحقيقي مع الفيلم؟" فأجاب فيلليني: "يبدأ الفيلم بالنسبة إليّ في اليوم نفسه الذي أضع فيه في الصحف إعلاناً صغيراً أعلن فيه أنني أبحث عن ناس عاديين يقومون بالأدوار، ثم أفتتح مكتباً في مكان ما، وأنتظر. وعند ذلك تبدأ عملية كبيرة، إذ يتدفق عليّ مجانين ومجنونات ووجوه وأجساد وأنوف وربطات عنق وأقدام... ربما كنت أبالغ بعض الشيء... ولكن ألا يحدث معك الشيء نفسه؟ الأمر مشابه، فأنت في رواياتك تنطلق من رائحة ما، من عنوان ما، من وصفة لصنع وجبة طعام ما"! - "أنا، يستطرد سيمنون، حين أبدأ كتابة رواية، لا أعرف كيف ستنتهي". "وأنا أيضاً لا أعرف كيف سينتهي فيلم من أفلامي. أنظر إلى الناس... وأحس أنهم يغنون داخل رأسي نشيد البشارة. أسجل ملاحظات كثيرة، وألتقط صوراً عديدة، وأقدم وعوداً للجميع. ومن هنا الأسطورة التي تصفني بالكذب. والحقيقة إنني أعد الجميع... ولكني لست قادراً على أخذ الجميع في أفلامي (...) بعد الإعلانات الصغيرة، أبدأ بوضع الرسوم، ثم فجأة أحس برغبة في البدء بالعمل. صحيح أن الفيلم غير مكتمل التجهيز بعد. والسيناريو غير منتهٍ. وأنا لم أختر كل الممثلين. ولا تصورت بعد كل الديكور، لكنني أشعر مع هذا أن عليّ أن أبدأ... وإلا فإن كل شيء سيعد بكل دقة، وأنا لا أريد هذا... مع أن المنتجين يريدونه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رحلة المتناقضات
"الأسبوعان الأولان من التصوير هما بالنسبة إليّ أشبه برحلة مليئة بالتناقضات. ولجهة مجهولة... بعد هذا يساورني انطباع بأنني لم أعد أدير الفيلم، بل الفيلم هو الذي يوجهني، الفيلم هو الذي يعرف إلى أين المسير. عند ذاك أحاول أن أحافظ على الأمور كما هي، وأن أرضى باكتشاف الرحلة. إن هذا التوازن الدقيق بين ما كنت تريد أن تفعله، وما أنت في طريقك لتفعله، هذه المحاولة لسلوك سبيل الإخلاص تجاه الاندفاعة العفوية، هذا الحنين إلى اللحظة التي تكون فيها قد أمسكت بقطعة رفيعة من كل شيء، والجهد الذي تبذله لكي تجذب الباقي إليك، هذا كله هو التعريف الوحيد الذي بإمكاني أن أعطيه لعملي. أنا حين أقرأ كتبك الأخيرة، تلك الإملاءات التي تكتب فيها بصوت عال، تماماً مثلما يتكلم الناس بصوت عال، يساورني الانطباع بأنني إنما أصغي إلى نفسي، ويراودني شعور غريب بالتواطؤ معك في ما يختص بالمسائل الإبداعية". وهنا قال سيمنون: "الفارق الوحيد هو أنني حين أكتب أكون وحدي، أما أنت فحين تخرج تكون محاطاً بـ200 شخص في الأقل... ومن هنا أشعر أن الأمر ثقيل عليك".