Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البصل المصري... أزمة طعام وسخرية شعب

ارتفاع الأسعار وتضارب القرارات يزيدان من غضب المواطنين ويفتحان باب التهكم و"النكتة"

لم يجد المصريون ما يسعف أوضاع البصل (أ ف ب)

ملخص

المصريون يرفعون شعار "خروف المحب بصلة"

يتفكه المصريون بأن "بصلة المحب لم تعد خروفاً"، بل كاد الخروف أن يكون بصلة المحب، فقد جن جنون البصل، وهدأت فورة الخروف وأقرانه من البهائم، وذلك في تطور هو أقرب ما يكون إلى الخيال، فالمصري الأصيل يعتبرها ومعها رغيفاً من الخبز الحد الأدنى الملاصق للكفاف لا يسعفه لفهم ما أصاب بصلته التي لم يحدث يوماً أن فارقت مائدته، سواء كانت "طبلية" متناهية التواضع في قرية مصنفة الأفقر أو سفرة بالغة الوجاهة في تجمع سكني مغلق يقولون إنه حكر على الصفوة.

تقديس البصل

اصطفى المصريون القدماء البصل ليكون ضمن قائمة حصرية لنباتات قرروا أن يقدسوها إيماناً منهم، وبعد تجارب عملية، أثبتت أن لهذه الثمرة قدرة على الوقاية وتقوية المناعة وتحقيق الشفاء في بعض الأمراض وعلات البدن.

وكان البدن حين تخور قواه، ويفقد صاحبه الوعي فيقع مغشياً عليه، يعود إلى الحياة بشمة بصلة "يدشها" (يكسرها) أولاد الحلال على سبيل الإسعاف.

وعلى مدار الأسابيع القليلة الماضية، لم يجد المصريون ما يسعف أوضاع البصل، عصب الخضروات، وشريان الفول والطعمية (الفلافل)، وقلب السلطة النابض، وسيد المخللات وما آلت إليه من شطوح هو أقرب إلى الجنون سوى اللجوء إلى سلاح السخرية الأبدي.

مكانة في التاريخ والمعدة

في تاريخ المصريين وجغرافيتهم وأجهزتهم الهضمية على مدار آلاف السنين يحتل البصل مكانة مرموقة جعلت التعامل مع القفزة الجنونية التي حققها كيلوغرام واحد ليصل إلى 30 جنيهاً مصرياً (0.97 دولار) بعد ما كان سعره لا يتجاوز 15 جنيهاً مصرياً (0.5 دولار) حتى شهر أغسطس (آب) الماضي أمراً بالغ الصعوبة.

 اختلال "طبخة" الخضروات الرئيسة أو اضطراب قوام "الطعمية" أو اعتلال مذاق الكشري بسبب نقصان البصل بغية الترشيد يبدو أمراً بسيطاً لا يستحق التهويل للوهلة الأولى، لكن البعض يقول إن الوجبة البسيطة أو الأكلة السريعة التي تتناولها قاعدة عريضة من المصريين في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة صارت مسألة أمن قومي، مثلها مثل سعر الوقود ودعم رغيف العيش ومكانة "عمود النيكوتين" (السيجارة)، تفاصيل تبدو صغيرة أو تافهة أو بديهية، لكنها أعمدة رئيسة تضمن رضا القاعدة أو حنقها.

غضب التشويش

رد الفعل السلبي الناجم عن أحوال البصل ليس غضباً بالمعنى المعروف، بل خليط من الدهشة والتشوش والالتباس مع قدر من السخرية والتنكيت، فالبصل الذي كان حتى الأمس القريب من مسَلَمات الحياة والأمور المفروغ منها وتحصيل حاصل كل الموائد صار اليوم ولو موقتاً عصياً على الشراء.

 

 

كثيرون يعرفون أن أزمة سعر البصل موقتة، فالمؤشرات تقول إن كل قفزة جنونية في سعر سلعة غذائية غالباً ما تهبط أو تخفت بعد فترة، يعايش المصريون ذلك في الفاصوليا والبامية والطماطم والليمون وغيرها، لكن بقي البصل على حاله.

 تبادل اللوم

العوامل والأسباب تظل مجهولة، المواطن يلوم تاجر التجزئة، وتاجر التجزئة يلوم تاجر الجملة، وتاجر الجملة يلوم المورد، والمورد يلوم صاحب الأرض، وصاحب الأرض يلوم الحكومة التي لا تراقب الأسعار أو تضبط الأسواق، أما الحكومة فتكتفي بالتدخل لتفكيك لغم الأزمة في مراحله ما قبل الأخيرة، وآخر ما وصلت له أنها أصدرت قراراً رسمياً بوقف تصدير البصل لمدة ثلاثة أشهر، وذلك لسد الاحتياج المحلي، وقبل نهاية الأسبوع تراجعت عن تنفيذ القرار السابق لتترك جدلاً حول القرار.

وزادت الأزمة بسويعات بدت كالسنوات والجميع هائم على وجهه في أغوار الـ "سوشيال ميديا" بين اجتهادات المجتهدين وتسفيرات المفسرين وأغلبهم لا ناقة له أو جمل في شؤون البصل أو غير البصل، وزاد الطين بلة الفيديوهات غير الموثقة لسيارات نقل تحمل أجولة من ثمار لا تتضح معالمها، يتم استخدامها مرة في أزمات البطاطا وأخرى في شدائد الطماطم وحالياً في ضائقة البصل، تتبعها تروسيكلات يقوم قائدوها بشقها وسرقة ما بداخلها وينضم لها صبية يجمعون ما تيسر جمعه من الطريق.

الطريق لفهم ما يجري في "أجولة" البصل يمر عادة عبر عناوين الصحف وفقرات البرامج الإخبارية والحوارية، لكن هذه المرة، زادت العناوين المتضاربة من حجم التشويش وفاقمت مقدار الحيرة، انخفاض أو ارتفاع الأسعار في سوق العبور (الجملة) واستثناء البصل من التصدير ثم التراجع عن القرار وهكذا.

ففي خضم أمواج تفسيرات الـ "سوشيال ميديا" العاتية، وفروق زمنية بين قرارات الحكومة القصيرة في عمر الزمن الطويلة في عمر الشعوب، خرج تفسير مفاده أنه لم يتم إلغاء موافقة مجلس الوزراء على حظر تصدير البصل، فقط إرجاء بدء العمل به حتى مطلع الشهر المقبل للانتهاء من تسليم الصفقات المتفق عليها مسبقاً مع المصدرين.

أرقام التصدير والإنتاج المصرية تقول إن مصر تنتج ما يزيد على ثلاثة ملايين طن بصل سنوياً، وأن يكفي احتياجاتها ويفيض، إذ يتم استهلاك نحو مليوني طن فقط.

إنتاج مصر

وجرى العرف أن يفخر المصريون ببصلهم المتاح في سلاسل محلات كبرى في دول عدة، ويتداولون صور أكياس بصلهم المعروضة في هولندا والسعودية والأردن وبريطانيا، وكذلك ليبيا ولبنان والعراق والإمارات، إضافة إلى إيطاليا وإسبانيا والأردن وسوريا وروسيا، لا سيما وأن مصر تحتل المرتبة الثالثة في النصف الأول من العام الحالي على قائمة أكثر محاصيل مصر الزراعية تصديراً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تسييس الأزمات بات سمة من سمات العصر، فهو يسير في الاتجاهين ذهاب وإياب، الذاهبون والماضون قدماً في الدفاع عن السياسة المصرية وكل من يمثلها يشيرون إلى أن تهويل أزمة البصل والنفخ في أثر ارتفاع سعره الموقت والمبالغة في تصوير الموقف وكأن المصريين يستنشقون نيتروجيناً وأكسجيناً وآرغوناً وبصلاً.

مؤيدون ومعارضون

أصوات المؤيدين والمدافعين تطالب المصريين بقليل من الصبر وتذكرهم بكثير من السلع الغذائية التي يجن جنونها وترتفع أسعارها وتصبح في متناول يد "تجار المخدرات" فقط على سبيل الدعابة، وذلك في دلالة على الغلاء الشديد، ولا تخلو هذه الأصوات من تلميحات غير مباشرة تارة واتهامات موجهة تارة أخرى بأن من يشعل فتيل الأسعار هم محترفو وهواة الصيد في المياه العكرة من أعضاء ومنتسبي ومحبي جماعة الإخوان المسلمين وأبناء عمومها عبر أذرعتها العنكبوتية في الداخل وأياديها الإعلامية في الخارج.

من كل بستان زهرة

أما أصوات المعارضين ففيها من كل بستان زهرة، فيها غاضبون من الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وقلقون من مآل نسب التضخم التي تمضي قدماً دون ملامح ضبط أو أمارات ربط، ومستاؤون من أسلوب إدارة الاقتصاد وطريقة علاج المشكلات، وكذلك متوجسون من مصير طبيخهم وسلاطاتهم ومكونهم المحوري الذي عرفوا قيمته حين عزت أسعاره، بالإضافة بالطبع للمكون الثابت في جبهة المعارضة ألا وهي "ألتراس" جماعة الإخوان وأبناء عمومها.

الطريف والمتوقع في آن أن البعض ربط بين التعامل مع أزمة البصل وبين أجواء الانتخابات الرئاسية التي تهمين على الجميع، فكل لفتة أو قرار أو إجراء سيخضع للتسييس الانتخابي منذ اللحظة وحتى إعلان النتائج.

في سياق منفصل عن الانتخابات الرئاسية، لكنه متصل بالبصل، قال مدير معهد بحوث المحاصيل الحقلية في وزارة الزراعة علي خليل في لقاء تلفزيوني أن الارتفاع الجنوني في الأسعار سببه التجار الذين "يعطشون" السوق.

ظاهرة ربحية

المصريون يعرفون جيداً منظومة "التعطيش"، إذ إن التاجر أو المقاول أو المورد يمنع عرض سلعة أو منتج ليصطنع أزمة، ويخلق حالة من القلق، ثم يطرح كميات قليلة باهظة الثمن ينكب على شرائها المستهلكون ظناً منهم إنها إلى زوال أو اختفاء، ويحقق التاجر ربحاً وفيراً في وقت قليل، ويطمئن قلب المواطن المستهلك بعض الشيء لاقتنائه السلعة أو المنتج المهدد بالاختفاء.

ظاهرة يعرفها المصريون منذ عقود، وفي كل مرة يجري تعطيش السوق من السكر أو الشاي أو الليمون أو اللحوم أو حتى الدواء أو الرز وغيرها، في حين أن كمال دورة التعطيش يطرح أسئلة مزمنة حول دور الحكومات المختلفة في الأزمنة السياسية المتوالية، وعلى مدى عقود طويلة التدخلات الحكومية في مسألة الرقابة على الأسواق تفرض نفسها.

يتساءل الناس وكذلك الاختصاصيين "أين الرقابة الحكومية لضبط السوق أو تنظيم الأسعار؟" سؤال متكرر وفي الوقت نفسه مزمن، وتكراره أمر طبيعي يحدث في كل دول العالم لأسباب مختلفة، ومزمن لأن أحداً لم يصل يوماً إلى إجابة مقنعة للسؤال، حتى مع انقشاع الأزمة وعودة السلعة وانخفاض السعر.

خطوة غير متوقعة

وفي خطوة غير متوقعة هدأت من غضب البعض وحازت إعجاب البعض واعتبرها الجميع أشبه بالأقراص المهدئة، تقدم عضو مجلس النواب ضياء الدين داوود بسؤال برلماني إلى رئيس المجلس حنفي جبالي وهو موجه إلى الحكومة في شأن تأجيل تطبيق قرار حظر تصدير البصل حتى أول الشهر المقبل، وجاء في نص السؤال "انتبهت الحكومة متأخرة كعادتها لأزمة ارتفاع أسعار البصل بالأسواق، وتوقعنا انخفاض الأسعار وهو ما لم يحدث"، لافتاً إلى أن إرجاء القرار يتضح معه التردد وتراجع مصلحة الشعب أمام الحكومة وتقديم المصالح الضيقة للمصدرين، وحيث أن البرلمان في غير دور الانعقاد العادي، فلا يتاح للنائب من وسائل الرقابة سوى السؤال البرلماني طبقاً للدستور واللائحة".

 

 

صفق الكثيرون رمزياً في الشارع، وابتهج آخرون لمجرد أن صوتاً ما يتحدث باسم الباحثين عن البصل، واطمأنت بعض القلوب القلقة من أجواء الالتباس وملامح الضبابية والتي تحول دون فهم ما يجري، هذه الفئة الأخيرة تمثل الأقلية التي لا يعنيها فقط حل أزمة البصل، بل يهمها فهم الأسباب.

أسباب معروفة لكن مطموسة

الأسباب المتراوحة بين التضخم الذي بلغ نسباً غير مسبوقة (37.4 في المئة الشهر الماضي)، وانخفاض قيمة الجنيه المصري انخفاضاً غير مسبوق أيضاً، والزيادة المهولة في أسعار السلع الغذائية (نحو 71.4 في المئة) وضعف قدرة الحكومة على ضبط السوق، وكذلك سطوة التجار الملموسة والقادرة على التحكم في الأسعار، والاكتفاء بتخفيف آلام المواطنين الاستهلاكية لا علاج الجذور المتسببة في الأمراض  ومعاودة الآلام، يشير إليها خبراء اقتصاد على استحياء فتظل مطموسة، لا سيما أن جانباً من الأزمة يعود إلى عوامل عالمية لا يمكن التحكم فيها محلياً.

فبين أزمة صادرات الهند إحدى أكبر دول العالم المصدرة للبصل هذا العام بسبب تلف المحصول تحت وطأة الظروف الجوية، وما نجم عنه من زيادة الطلب العالمي على البصل المصري، مؤدياً بدوره إلى تقليل المعروض المحلي لمصلحة التصدير الذي يضمن الدولار العزيز على قلب وعقل وجيب كل مصري، وغيرها من تقلبات العالم السياسية وتحولات الكوكب المناخية ومشكلات يتأثر الجميع، مرة بأزمة طماطم في بريطانيا وأخرى بأزمة بطاطا في بيرو، وثالثة بأزمة بصل في مصر والأزمات لم ولن تنتهي.

أسعار خام برنت والبصل

ما لم ولن ينتهي أيضاً هو لجوء المصريين للسخرية من مشكلاتهم، ومشكلة البصل ليست استثناء، فبين صورة رجل الأعمال الجالس في سيارته الفارهة متجهاً إلى مكتبه وهو يتصفح أسعار خام برنت والذهب والبصل، والعريس المتوجه مع أسرته إلى منزل خطيبته حاملاً كعكة و"فحل بصل"، وكذلك قائمة الأثاث والأجهزة التي تحررها بعض الأسر لضمان حق الزوجة في ممتلكات عش الزوجية باتت تتسع للبصل، وتصور صدور قرار بأن تكون خطبة الجمعة عن "أضرار أكل البصل"، إلى جانب موضوع الإذاعة المدرسية عن ضرورة تجنب الشبهات والموبقات وأبرزها أكل البصل، يمضي المصريون قدماً في حياتهم اليومية وهم يأكلون "الطعمية" ببصل أقل ويتناولون وجبة الخضروات بمسحوق البصل المجفف، ويشتكون ويمتعضون ولكن أغلبهم يعرف أن الأزمة إلى زوال، وأن البصل له الديمومة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات