Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الماضي لا يمضي والذاكرة حافز على استعادة الزمن

الفيلسوف شارل بيبان يعالج علاقة الذكريات بالحداثة في كتاب "العيش مع الماضي"

دورة الحياة للرسام إتزي (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

الفيلسوف شارل بيبان يعالج علاقة الذكريات بالحداثة في كتاب "العيش مع الماضي"

من الأسماء التي بدأ يلمع نجمها في حقل الدراسات الفلسفية في فرنسا منذ عام 2003 تاريخ نشر أول كتبه، اسم الفيلسوف والروائي شارل بيبان. وقد صدرت له عن دور نشر عريقة في باريس مثل فلاماريون وستوك وآلاري، مجموعة من الروايات والمؤلفات الفلسفية التي ترجم بعضها إلى الإنجليزية والإسبانية والإيطالية والعربية. من هذه الكتب كتابه المسمّى "فضائل الفشل"، الذي صدر عام 2016، والذي دافع فيه عن ضرورة تغيير نظرتنا إلى الفشل على ضوء النصوص الرواقية ونصوص فرويد وباشلار وسارتر، محاولاً الدفاع عن أطروحة تقول إن كل محنة تضع الإنسان في مواجهة مع الواقع أو في مواجهة مع رغباته العميقة، تجعل منه كائناً أكثر وعياً وتمتن أواصره مع الحياة متانةً. وكتابه "الثقة بالنفس" الذي صدر عام 2018، والذي عاد فيه إلى نصوص الفلسفة اليونانية القديمة والفلسفة الحديثة، كنصوص إيمرسون ونيتشه وبرغسون، وإلى كتابات علماء النفس والمحللين النفسيين أمثال بوريس سيرولنيك أو جاك لاكان، وغيرهم من الفنانين والتربويين بغية تسليط الضوء على منابع الثقة بالنفس وبقدراتها، والثقة بالآخرين وبالحياة في المجتمعات الحديثة التي لا يولد فيها المرء واثقاً بنفسه، وإنما يغدو كذلك.

فالحداثة تجعلنا بحسب بيبان كائنات حرّة مسؤولة عن مصيرها، يقع على عاتقها عبء تنفيذ مشاريعها وبناء سعادتها. وكتابه في الفلسفة العملية المعنّون "اللقاء، فلسفة"، الذي نشره عام 2021 وفيه يسترجع نصوص أفلاطون وكريستيان بوبان، وروايات ألبير كوهين، وأفلام كلينت إيستوود، حاكياً لنا من خلال مسرى حياة الفلاسفة والروائيين والسينمائيين الكبار عن قوة اللقاء ونعمه، انطلاقاً من تحليله نصوصاً تروي قصص حب أو صداقات خصبة، كتلك التي انعقدت أواصرها بين بيكاسو وإليوار، وديفيد بووي ولو ريد، وفولتير وإميلي دو شاتليه، مبرهناً أن كل لقاء حقيقي هو في الوقت عينه اكتشاف للذات وإعادة اكتشاف للعالم. وقد صدر هذان الكتابان عن المركز الثقافي العربي في ترجمة عربية وقعها مصطفى حجازي.

شارل بيبان المولود عام 1973 متخصص بالفلسفة والعلوم السياسية، وهو يدرّس في أهم المعاهد الجامعية في باريس. تعود شهرته إلى الحلقات الدراسية والبرامج الفلسفية التي ما زال يقدمها على شاشات التلفزة الفرنسية وإلى المقالات التي يوقعها شهرياً في مجلتي "بسيكولوجيا" و"فلسفة"، مجيباً من خلالها على أسئلة القراء الميتافيزيقية والأخلاقية والنفسية. آخر إصداراته كتاب بعنوان "العيش مع الماضي"، عن دار آلاري في باريس (2023).

عيش الماضي

في هذا الكتاب يعالج بيبان موضوعاً ما زال يشغل بال العلماء والمفكرين، هو موضوع التعامل مع الماضي وذكرياته من خلال العودة إلى الطفولة وزمن المدرسة فالجامعة والذكريات السعيدة أو المؤلمة، ليقول لنا إن الماضي لا يمضي أبداً، بل يبقى دوماً حاضراً ومحفوراً في الذاكرة. لكن إقامة علاقة سليمة ومثمرة معه أمرٌ متروكٌ لإرادتنا. ذلك أن الذاكرة ليست مخزناً تُلقى فيه الذكريات بطريقة جامدة لا تتغير بعد أن انقطعت بينها وبيننا رابطة الزمن. هذا ما بيّنته الأبحاث والدراسات في علم الأعصاب والعلوم المعرفية والعلاجات الجديدة والحِكَم الفلسفية والأدبية القديمة التي استند المفكر إليها. وهو يخبرنا أن الذاكرة، على عكس ما يعتقد البعض، دينامية ومتحركة والذكريات ليست قابعة فيها تتأهب للانبثاق كلما أراد المرء أن يسترجعها وفق آليات تستحضرها كما هي من دون زيادةٍ أو نقصان. ولئن شدّد، وهو على مشارف الخمسين من عمره، على أن سعادة الإنسان تعتمد بالضبط على قدرته على العيش مع ماضيه بشكل جيد، فإنه تساءل في الوقت عينه عن كيفية مواجهة الإنسان لهذا الماضي والتعامل مع ذكرياته التي تنمو باضطراد، فلا يجتّر ما مر به حدّ الغرق في التفكير في ما حدث ونسيان الحاضر الذي يصبح في كثيرٍ من الأحيان أليماً.

هذه الإشكالية التي يتطارحها الكتاب تحذّر من إفراطين، طالما عاش الإنسان متأرجحاً بينهما، إفراط اجترار الماضي أو إفراط تجاهله. وبين هذين الإفراطين، ثمة سبيل وسط بحسب بيبان ينسل بحكمة في ثنايا النفس راسماً المسافة الصحيحة الواجب على الإنسان اتباعها في التعامل مع ماضيه، بحيث يستطيع مساءلته وإعادة تأويله بغية إقامة علاقة حرّة وخلاّقة معه. هذا بالضبط ما سبق وأشار إليه أيضاً بول ريكور (1913-2005) في كتابه المرجع "الذاكرة والتاريخ والنسيان" يوم حذّر من حضور الذاكرة الدائم ومن غيابها، دارساً حاضر الماضي ووساطة سرده الذي تعرف به الذات ذاتها. لكن جِدّة كتاب بيبان لا تكمن في الدعوة إلى قبول الماضي والترحيب به فحسب، وهذا ما شدد عليه قبله فلاسفة عظام من أمثال سبينوزا ونيتشه وعلماء نفس كبار مثل فرويد، بل في استفادته في مقاربته للموضوع من التقدم العلمي الهائل الذي حققته الأبحاثُ السريرية في حقل دراسات علم الأعصاب المتعلقة بتعيين طبيعة الذكريات. هذا ما جعله يدرك أن الطريقة التي تعاملت بها بعض الفلسفات مع الماضي عفا عنها الزمن. لذا نراه يشدد على ضرورة قبول الإنسان لماضيه على ثقله وألمه، معالجاً هذه الإشكالية على ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة.

على عكس ما قادنا إليه التحليل النفسي عندما دعا كل واحد منا إلى قبول ذكريات ماضيه كما هي، يحثنا الفيلسوف الفرنسي على ضرورة إعادة معالجة هذا الماضي وذكرياته والعمل على فهمها وتفسيرها بطريقة مختلفة. وهذا بالضبط ما توصلت إليه الأبحاث العلمية والممارسات العلاجية الجديدة التي تفرض على المشتغلين بالفلسفة إعادة التفكير في إشكاليات الماضي وذكرياته. وبما أن الفلسفة تترافق دوماً مع العلم، فليس لها إذاً أن تتجاهل من الآن وصاعداً ما توصلت إليه هذه الاكتشافات العلمية، لتعيد تصويب خطابها على ضوء هذه الاكتشافات.

النقص والهذيان

يلفت انتباه القارئ في هذا الكتاب تشديد المؤلف على أن السبب الذي يمنع شخصاً ما من عيش حاضره، ليس مثلاً غياب الأم أو تسلّط الأب في مرحلة الطفولة، بل اعتقاده أنه لا يستحق أن يكون محبوباً. وهذا بالضبط ما يخلق في نفسه نقصاً عاطفياً، فيعيش حياته في حال من الهذيان والقلق. غير أنه يتجاهل أن بمقدوره تخطي هذا الاعتقاد وهذه "الحقيقة" العاطفية، من دون أن يتخلى عن ذكرياته التي لا يمكن بأي حال من الأحوال محوها. يقول بيبان إنه ثمة اليوم مروحة من العلاجات النفسية، كتلك التي تعمل على إعادة تقوية الذاكرة أو تلك التي تتدخل في الذكريات عن طريق تعديل الانفعال المرتبط بتفسيرها. فالمسألة ليست إذاً من منظوره نكران الماضي، بقدر ما هي تغيير نظرتنا إلى أحداثه وتأويلها بحيث تؤثر على انفعالاتنا ومشاعرنا بطريقة إيجابية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا ما حاول أن يوضحه الفيلسوف عندما بيّن لقرائه أن دماغ الإنسان بما فيه من خلايا عصبية لا يميّز فعلياً بين تجربة عاشها شخص منذ أربعين سنة وتجربة يستعيدها الآن بالمخيلة والذاكرة، وأن جلسات العلاجات النفسانية قادرة بمساعدة المعالج والأشخاص الذين نحبهم التدخل بشكل إيجابي في تأويل ذكرياتنا، بحيث تصبح كمشهد نستطيع التبصّر في أحداثه وتفسيرها بطريقة مختلفة.

هذه هي الأطروحة الأساسية التي يدافع عنها شارل بيبان على تتالي صفحات كتابه الراسي على قاعدةٍ من العلوم والمعارفِ، لا سيّما تلك المتعلقة بنصوص الحكمة الرواقية وروايات مارسيل بروست والدراسات الحديثة في علم الأعصاب في كتابة ذي أسلوبٍ شديدِ التَمَيُّز. وها هو ذا يتبنى مقولة رواقية قديمة قوامها أن الإنسان حين يستعيد من ماضيه صورة صعبة أو أليمة، أو ذكريات الإخفاقات التي مرت به، ولو من سنوات طويلة، كالاكتئاب وغيره من الحالات العاطفية، من الأفضل له ألا يحاول الهروب منها. بل على العكس من ذلك عليه أن يعوّد ذاكرته على استعادتها حتى يتخلص بمعنى ما من سمومها. فالتعود يبدّد على طريقته الشعور بالضيق والقلق في حال كانت هذه الذكريات أليمة. أما إذا كانت الذكريات جميلة، فيكفي من منظور بيبان أن نُحييها لتغدو حاضرة، فينتفي الحنين إليها. على أن الانتباه إلى الذكريات الجميلة مسألة معرفية. هذا ما نبهنا إليه بروست في "البحث عن الزمن الضائع" حين أخبرنا أنه بإمكان أي إنسان منا أن يجد نفسه سعيداً في الحاضر، كما كان سعيداً في الماضي. جلّ ما عليه فعله هو إجادة قراءة ماضيه ليعرف كيف يسيّر حاضره ويبني المستقبل.

إن ماهية الإنسان كما يعيّنها شارل بيبان في كتابه الجديد هذا تعني في ما تعنيه، أن الإنسان كائن يتذكر ويستدعي ماضيه. وهذا ما وضّحه لنا قبله برغسون عندما كتب قائلاً ليس من إدراكٍ أو تصوّر إلا وكان غارقاً بالذاكرة. وهاجس الماضي والذاكرة إنما مرتبط بالنفس التي تتقبله وترعاه. ولعله من هذا القبيل يتجنّح ليسبغ على الماضي الأليم نوراً يضيء على خفوته ظلمة النفس البشرية وأفعالها المعرفية التي تربط بين تصوّر راهن وبين تصوّر آخر كان راهناً في الماضي، باحثةً في الانطباعات السلبية عن بعض الومضات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة