ربما يفسر الهجوم العنيف من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترمب على سياسة البنك المركزي الأميركي بشأن خفض معدلات الفائدة أو إضعاف قوة الدولار في سبيل تجاوز الركود المتوقع في السوق الأميركية، جزءاً من الأزمة التي تعانيها البنوك العاملة في منطقة اليورو، مع استمرارها في فرض سياسة معدلات الفوائد المنخفضة والسلبية.
وخفض الفائدة بنسب كبيرة غالباً ما تلجأ إليه البنوك المركزية كأحد الإجراءات المهمة في احتواء التضخم الكبير، إضافة إلى امتصاص السيولة من السوق، لكنه في المقابل يعمل على نشر حالة من الركود وتوقف بعض الشركات عن توسعاتها الاستثمارية، وتكون المشكلة أكبر في المناطق والدول التي تعاني من عدم الاستقرار، وبالتالي يلجأ أصحاب الفوائض المالية إلى البنوك التي هي الأخرى تخشى من المغامرة في الاستثمار خوفاً من خسائر متوقعة، وبالتالي لا يكون هناك أي مجال لاستمرار البنوك الصغيرة والمتوسطة بالعمل في ظل هذه الظروف التي قد تدفع بعضها إلى الإفلاس.
لكن ماذا تعني الفائدة السلبية أو الصفرية؟
من المعروف، ومنذ القدم أن من يقترضون الأموال من الأفراد والشركات يقومون بسداد ديونهم عند حلول أجل السداد، بالإضافة لنسبة فائدة متفق عليها مسبقاً، وعندما تقوم بإيداع أموالك لدى بنك سيقوم البنك بمنحك فائدة سنوية على إيداعك.
ولكن هذا الأمر سينعكس في البلدان التي أصبحت تلجأ للعمل بأسعار فائدة سلبية في أنظمتها المالية، ويتم تطبيق هذه الفائدة السلبية على التعاملات المالية التي تتم بين البنوك التجارية فيما بينها، والتعاملات التي تتم بين البنوك التجارية مع البنك المركزي، بحيث إن البنوك التي تقترض أموالاً لن تقوم بدفع الفائدة للمؤسسة المقرضة، وإنما ستحصل هي على الفائدة، وهو الأمر الذي يبدو غريباً نوعاً ما.
في المقابل ستضطر البنوك التي تقوم بإيداع أموالها سواء لدى البنوك التجارية الأخرى أو لدى البنك المركزي إلى دفع نسبة الفائدة. ويتم تطبيق الفائدة السلبية في التعاملات التي تتم بين البنوك التجارية فيما بينها، أو بين البنك المركزي، في حين لا يتم تطبيق هذه الفائدة على تعاملات البنوك مع الأفراد، حيث لا يتم دفع أي فائدة عند الإيداع للبنك، ولكن أيضا لن تحصل على عائد من البنك.
وعلى الرغم من أن بعض البنوك التجارية بدأت في فرض فائدة سلبية على الأفراد في ألمانيا عندما يتجاوز مبلغ الإيداع عتبة محددة، ولكن الأمر يتعلق ببعض الحالات المنفردة، لأنه من الناحية العملية لن يقوم أي فرد بدفع فائدة مقابل إيداع أمواله لأنه يمكن الاستغناء عن البنوك ما دام حجم رؤوس الأموال صغيرة نسبياً، في حين لا تستطيع البنوك التجارية تفادي هذا الأمر لأنها تتعامل برؤوس أموال ضخمة.
ومنذ الأزمة المالية العالمية في 2008 خفض عدد كبير من البنوك المركزية نسب الفائدة إلى ما دون الصفر بعد سلسلة من التخفيضات المتتالية التي لم تكن كافية لتحفيز النمو وزيادة معدلات التضخم، وتعتبر اليابان آخر دولة تلجأ إلى سياسة الفائدة السلبية بعد أن قام البنك المركزي بهذه الخطوة سنة 2014، بالإضافة إلى عدة دول أخرى أوروبية كسويسرا والسويد والنرويج.
وتعتبر الفائدة السلبية من بين الأدوات غير التقليدية للسياسة النقدية التي لجأت إليها هذه الدول بعد أن فشلت الحلول الأخرى، وبخاصة دول الاتحاد الأوروبي التي تعاني من نسب نمو ضعيفة، وانخفاض في معدلات الاستهلاك. وتسعى هذه الدول من خلال تطبيق أسعار فائدة سلبية إلى إرغام البنوك التجارية على عدم الاحتفاظ برؤوس الأموال وضخها في النظام الاقتصادي لتخفيض كلفة الاقتراض وتشجيع الشركات والأفراد على الاستثمار والاستهلاك.
سياسة تصفير الفائدة في منطقة اليورو
ويقرر البنك المركزي الأوروبي السياسة النقدية للدول الـ19 الأعضاء في منطقة اليورو، وتحديدا مستوى سعر الفائدة الرئيس. فيما تؤثر هذه المعدلات على تكلفة البنوك من حيث الاقتراض وعوائد الادخار.
ومنذ مارس (آذار) من العام 2016، خفض البنك الأوروبي معدل الفائدة الرئيسة إلى صفر في المئة، ما يسمح للبنوك باقتراض النقد مجانا لمدة أسبوع واحد. لكن منذ صيف عام 2014، قرر البنك المركزي الأوروبي أن تدفع البنوك عندما تضع فائض السيولة على المدى القصير لديها، ويبلغ معدل الفائدة على الودائع حاليا -0.40%.
ويتعين على المصارف الاحتفاظ بأموال لدى البنك المركزي الأوروبي من أجل التعامل مع عمليات سحب يقوم بها العملاء. ومع ذلك، فإنها تودع عموما أكثر بكثير من المبلغ الإلزامي.
وبالتالي، فإن أسعار الفائدة تشكل أداة حاسمة، ويعتزم البنك المركزي تحفيز النشاط الاقتصادي عبر خفض تكلفة الائتمان وإرغام المصارف التي تخزن الودائع بدلاً من إقراضها على دفع أموال.
لكن المشكلة تكمن فيما تواجهه المصارف "منذ إدخال الفوائد السلبية على الودائع، فإن الأمر أصبح مكلفا بالنسبة إليها"، كما قال إريك دور، مدير الدراسات الاقتصادية في كلية الإدارة في المدرسة العليا للتجارة، في تصريحات لـ"أ.ف.ب".
وأضاف "تفيد التقديرات أن الفائدة الحالية على السيولة الزائدة، تكلف المصارف في منطقة اليورو ما لا يقل عن 7.5 مليار يورو سنويا".
هكذا تتآكل ربحية البنوك وأموال المودعين
وعلى نطاق أوسع، تؤثر هذه السياسة بشكل مباشر على ربحية البنوك في أعمال الإقراض عن طريق تقليل الهامش في كل مرة بين معدل الفائدة الذي تقرضه وذلك الذي تعيد تمويل نفسها بواسطته، وفي الوقت نفسه فإنها تؤثر بشكل كبير على أموال المودعين التي تتآكل نتيجة خصم سعر الفائدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومنذ أواخر يوليو (تموز) الماضي، بدت آفاق القطاع المصرفي الأوروبي قاتمة في ظل توقعات بمزيد من الانخفاض في معدلات الفائدة لدى البنك المركزي الأوروبي في منتصف سبتمبر (أيلول).
يقول نيكولا مالاتير، مسؤول القطاع المصرفي في فرنسا لدى وكالة التصنيف "ستاندرد آند بورز غلوبال رايتنغس"، إنه "في بداية العام توقعت الأسواق ارتفاعا في معدلات الفائدة في النصف الثاني، لكن الاحتمالات الآن هي معدلات أدنى ولفترة أطول".
وأوضح أن "ربحية البنوك في منطقة اليورو، وهي عرضة للضغوط، قد تصبح مشكلة هيكلية".
نتيجة لذلك، يجب على البنوك إقناع المستثمرين بقدرتها على مواجهة معدلات سلبية مستدامة، مع الالتزام بالمتطلبات التنظيمية التي ترغمهم على تخصيص رأس مال إضافي لمواجهة صدمات مالية محتملة.
البنوك تلجأ للعمل في الخدمات المالية والتأمين
المصارف التي تعتمد إيراداتها بشكل رئيس على نشاط الإقراض والودائع، على غرار البنوك الإقليمية الألمانية، تعاني أكثر من غيرها من البنوك التي تنوع خدماتها المالية أو تعمل في التأمين أو الأعمال والاستثمارات، كما هو حال المؤسسات الفرنسية.
وحتى الآن، يمكن فقط للعملاء من رجال الأعمال وضع ودائع كبيرة لدى أحد البنوك، ولكن استطلاعا أجري في ألمانيا في يوليو (تموز) الماضي، أظهر أن نحو ثلاثين مصرفا في البلاد قرروا الاستفادة من أغنى عملائها مع ودائع تصل إلى مئة ألف يورو في الأقل.
ومع ذلك، فإن ذلك يبقى أمرا نادرا في منطقة اليورو، حيث المنافسة شرسة بين البنوك التي يتعين عليها جذب المزيد من العملاء للتعويض عن فقدان الهامش.
وهكذا، أصبح الرهن العقاري ذو الفوائد التنافسية "الطُعم" الرئيس الذي يستفيد منه المقترضون الجدد الذين يظهرون على أنهم الرابحون الأكبر في استراتيجية البنك المركزي الأوروبي.
من جهة أخرى، يبدو أن المدخرين هم الخاسرون بسبب تراجع عوائد منتجات الادخار تزامنا مع انخفاض المعدلات. ويشكل ذلك مسألة حساسة بشكل خاص في ألمانيا، حيث يعتمد الكثير من المتقاعدين على مدخراتهم المالية. حيث تؤدي معدلات الفائدة السلبية إلى فقدان الاستثمارات المالية آمنة الجاذبية.
ويقول إريك دور في هذا السياق، إن ذلك يؤدي إلى "تحفيز المخاطرة المفرطة، سواء من قبل الأفراد أو صناديق الاستثمار التي تبحث عن عوائد بأي ثمن والتوجه إلى منتجات أكثر خطورة، إنه أمر خطر".
تضرر المصارف الصغيرة والمتوسطة بمنطقة اليورو
في ألمانيا، أشارت تقديرات رسمية حديثة، إلى أن الأسعار المتدنية للفائدة تضر في المقام الأول بالمصارف الصغيرة والمتوسطة في منطقة اليورو.
وجاء في رد من الحكومة على استجواب من قبل الحزب الديمقراطي الحر القول إن "وضع الأرباح في المصارف الصغيرة والمتوسطة في ألمانيا لا يزال متأثرا بقوة".
واستندت الحكومة في هذا الرد إلى استطلاع عن تدني أسعار الفائدة في 2017 أجراه البنك المركزي وجهاز الرقابة المالية (بافين). ولا يستبعد البنك المركزي الأوروبي رفع أسعار الفائدة في موعد أقصاه منتصف عام 2020 نظرا لتنامي المخاطر الاقتصادية.
تجدر الإشارة إلى أن سعر الفائدة الرئيس في منطقة اليورو لا يزال متوقفا في الوقت الراهن عند أدنى مستوى له (0%).
وقال فرانك شيفلر، عضو البرلمان عن الحزب الديمقراطي الحر "إذا واصل البنك المركزي الأوروبي سياسته المالية السلسة، فإنه سينقذ في المقام الأول بنوك الزومبي في جنوب أوروبا، لكنه سيضر بشكل كبير بنوك الادخار مثل (شباركاسه) و(فولكسبنك)".
الفوائد العقابية مصدر قلق كبير
وتمثل الفوائد العقابية مصدر قلق للبنوك، وحسب الحكومة الألمانية فقد دفعت المصارف الموجودة في ألمانيا خلال العام الماضي فوائد إجمالية بقيمة نحو 2.4 مليار يورو (2.16 مليار دولار) على إيداعاتها لدى البنك المركزي، ووصلت هذه القيمة بالنسبة إلى البنوك على مستوى أوروبا إلى 7.5 مليار يورو (6.75 مليار دولار)، فيما لا تحصل البنوك في المقابل على عوائد من الفائدة بنفس القيمة نظرا لتدني أسعار الفائدة على الأموال السائلة التي تتلقاها هذه البنوك.
وتجدر الإشارة إلى أن البنوك ملزمة بدفع فائدة عقابية بنسبة 0.4 بالمئة على الودائع التي تضعها في البنك المركزي الأوروبي.
وأضافت الحكومة الألمانية، في بيان لها، أن البنوك الأوروبية كانت قد زادت بشكل واضح من قدرتها على مجابهة الأزمات وذلك منذ وقوع الأزمة المالية قبل 10 سنوات، وقالت إنها تثبتت في الوقت نفسه من أن مخاطر الاستقرار المالي بالنسبة إلى أوروبا ارتفعت أخيرا في ظل البيئة الاقتصادية الحالية التي تشهد تدنيا لأسعار الفائدة وارتفاعا للديون واضطرابات جيوسياسية.
وحسب تقديرات لجنة الاستقرار المالي فإن المرحلة الطويلة من النمو الاقتصادي وتدني أسعار الفائدة شهدت تكونا بطيئا لكنه مستمر لنقاط ضعف في النظام المالي في ألمانيا.