Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الصالون المذهّب" وأسرار الغرفة المغلقة في مصر

بدأ انتشاره مطلع القرن الـ 20 وشهد تحولات اجتماعية إذ بدأت دمياط بتصديره إلى أوروبا

المصريون استوردوا من الغرب ثقافة الصالونات ثم صدروها لأوروبا مصنعة (اندبندنت عربية)

ملخص

من أوروبا استورد المصريون ثقافة الصالونات في منازلهم ثم باتت حرفة رئيسة في عدة مدن قبل إعادة تصديرها كأثاث إلى القارة العجوز.

بين كرم الضيافة المصري والوضع الاجتماعي "غرفة" شبه مغلقة لا تخطوها الأرجل إلا على وقع كلمات "اتفضل في الصالون"، وسواء كنت شخصاً عاش في "المحروسة" أو حتى مررت عليها في زيارة عابرة، فمن المؤكد أنك سمعت الجملة السابقة.

الصالون، وبخاصة المذهّب، شكّل على مدى أكثر من قرن من الزمان جزءاً رئيساً من بيوت المصريين، وكثيراً ما كانت تخصص له غرفة مغلقة لا يدخلها أفراد المنزل ولا يقترب منها الأطفال، وإنما تبقي فيها المقاعد مصانة لحين قدوم الضيوف في زيارات عادية مثل الأقارب والأصدقاء، أو في زيارات غير عادية تحتاج إلى إجراءات استثنائية مثل استقبال ضيف مهم أو قدوم عريس لخطبة إحدى بنات الأسرة.

وهنا كان الأمر يتطلب إجراءات غير عادية من تجهيز وتنظيف للغرفة التي ستصبح واجهة العائلة ودليلاً على مكانتها ووضعها الاجتماعي.

وبينما تتوجه غالبية الطبقة المتوسطة لمعارض الأثاث على اختلاف مستوياتها لشراء الصالون المذهّب بناء على عدة عوامل من بينها السعر والجودة والموديل المرغوب الذي شاهدوه في منزل أحد معارفهم أو في واحدة من الورش، وربما في واحد من المسلسلات التلفزيونية، فإن هناك عائلات من الطبقة الراقية تعرف موديلات وأنواع الصالونات بخاصة الفرنسية باعتبارها الأشهر، فتحدد رغبتها في اقتناء صالون "لوي سيز" نسبة للويس الـ 16 أو صالون "لوي كانز" نسبة للويس الـ15 أو غيرها من الموديلات التي يعرفها المتخصصون ويختلف كل منها في شكل الأرجل ومساند الذراع، ليبقي الموديل معروفاً باسمه في جميع أنحاء العالم.

رسالة دكتوراه

الصالون المذهّب وعلاقته بالمصريين شكلا اهتماماً لدى شابة مصرية جعلته موضوعاً لرسالتها في الدكتوراه يجري إعدادها حالياً بقسم تاريخ الفنون بجامعة تورنتو في كندا، تحت عنوان "صالون مذهب... صناعات حرفية وصراعات معمارية وسياسات منزلية".

وعن تاريخ الصالون المذهّب في مصر تقول الباحثة لينة الشامي في حديثها إلى "اندبندنت عربية" إنه "منذ أوائل القرن الـ 20 بدأ المصريون اقتناء الصالونات المذهّبة كوسيلة لتحقيق المكانة الاجتماعية، وتبني أسلوب الحياة الذي كان شائعاً بين الخواجات والطبقة الحاكمة آنذاك، إذ عرف ولع أسرة محمد على بأوروبا وبخاصة فرنسا، وما يجعل دراسة هذه السلعة مثيراً بالنسبة إلي هو أن ما يسمى بتغريب الأثاث في أوائل القرن الـ 20 لم يكن مجرد ظاهرة استهلاكية، ولكنها أيضاً مرتبطة جداً بالإنتاج المحلي".

ومضت في سردها أنه "منذ أوائل القرن الـ 20 تدرب الحرفيون المصريون في ورش الأثاث المملوكة للأوروبيين، وبعد التأميم في منتصف القرن استمرت هذه الورش تحت قيادة ملاك مصريين جدد، وأصبحت البلاد مركزاً رئيساً لتصنيع الأثاث ودعم الاقتصاد المحلي".

 

 

وتابعت، "كان شائعاً منذ منتصف القرن الـ 20 شراء الأثاث من دمياط، أما بالنسبة إلى الطبقات العليا فبحثاً عن التميز عن الطبقات المتوسطة فضلت استيراد أثاثها من أوروبا التي اعتبروا أثاثها أصلياً وأكثر أصالة في مقابل النسخة المهجنة المصرية من وجهة نظرهم، لكن اليوم ومع تبدل الأحوال صار الطريق إلى التغريب أو الحداثة هو التخلص من الصالون تماماً واعتماد الأثاث المودرن".

وقالت، "الصالون ليس فقط غير مستخدم بل يجب أيضاً أن يظل كما هو بغض النظر عن مرور الوقت، وبالتالي يتطلب أنماطاً لصيانته والحفاظ عليه مثل إبعاد الأطفال منه واستخدام أغطية لحفظة وهي ما يطلق عليها المصريون (البياضات)، وهذه إحدى الأسباب الجوهرية التي تجعل علاقة الناس به علاقة متوترة فهو نادر الاستخدام وكثير الصيانة".

دمياط معقل الصالون

الأثاث المذهّب في مصر ليس وليد بدايات القرن الـ 20 مع الاتجاه نحو نمط الأثاث الغربي بعد أن كانت غالبية المنازل تعتمد طرازاً شرقياً عربياً، وإنما يعود تاريخه لحضارة مصر القديمة، ويمكن أن يكون المثال الأبرز هو عرش توت عنخ أمون من الذهب الخالص، وكثير من القطع الأثاث المذهّبة التي وجدت في عدد من مقابر ملوك مصر القديمة تنتظر الاستخدام في العالم الآخر، في صورة لا تختلف كثيراً عن حال الصالون المذهّب في كثير من بيوت المصريين.

وصناعة الأثاث المذهّب في مصر قائمة وموجودة منذ عصور طويلة، ولكنها شهدت صحوة كبيرة خلال القرن الـ 20 لتتميز بها مناطق ومدن معينة، أبرزها على الإطلاق مدينة دمياط التي تعتبر معقل صناعة الأثاث في مصر ومن بينه الصالون المذهّب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهنا ذكرت الشامي أن "حرفيي الأثاث المصري وبخاصة نحات الخشب (الأويمجي) يعتبرون من أمهر الحرفيين في العالم، والأثاث الذي يتم إنتاجه في دمياط لا مثيل له في العالم كله، ففي رحلاتي الميدانية إلى كثير من الورش في دمياط والقاهرة وبخاصة المناصرة وعابدين والإسكندرية (العطارين)، أخبرني كثيرون أن هذا الأثاث الكلاسيكي يتم تصديره إلى أوروبا وتحديداً إيطاليا وروسيا إضافة إلى دول الخليج".

وتحكي، "المفارقة هنا أنه على رغم كون الصالون المذهّب الكلاسيكي يحظى بسمعة أنه في الأصل مستورد من الغرب كنمط جمالي، فإن مصر اليوم واحدة من الرواد في صناعته ثم تصديره إلى القارة العجوز، ويعني ذلك أن الأيدي العاملة المصرية تساعد أوروبا في تزويد نفسها بشكل غربي".

وتضيف، "من الناحية الأنثروبولوجية يمثل هذا الأثاث الثقيل في البيوت المصرية تجسيداً لمفهوم الاستقرار، فكما لاحظ الدكتور الراحل عبدالوهاب المسيري أنه في ما يتعلق بالحداثة يعد الأثاث الذي يمكن استبداله بسهولة جزءاً من إطار أكبر لما يطلق عليه علمنة المنزل، إذ تصبح علاقة الفرد بمنزله تعاقدية، لأن المقعد الخشبي الثقيل الذي يصعب تحريكه يمكن أن يمثل إنسانية راسخة".

الصالون مركز المنزل

وعلى مدى عشرات الأعوام كان الصالون هو الغرفة المركزية في المنزل التي على رغم الاهتمام الكبير بها إلا أنها الأقل استخداماً، فهي المنطقة التي يتم فيها استقبال ضيف مفاجئ أو زيارة أهل قادمين من سفر من محافظة أخرى، كما كان شائعاً خلال هذه الفترة التي كان الترابط الأسري سائداً والزيارات العائلية شيء أساس في حياة الناس، حتى إن واحداً من الأسماء التي أطلقها المصريون على الصالون المغلق هو "غرفة المسافرين".

وربما يتذكر محبو الأفلام المصرية القديمة كثيراً من المشاهد التي جرى فيها إعداد غرفة الصالون لاستقبال ضيف جاء فجأة، ويمكن أن يكون أبرزها على الإطلاق مشهد فيلم ’هذا هو الحب‘ الذي قدمت فيه ماري منيب دورها الأشهر كحماة تفحص العروس المنتظرة لابنها، ففي بداية المشهد تهرع الفتاة الصغيرة لإزالة الأغطية عن الصالون وإعداده لاستقباله الضيفة المهمة التي أتت على حين غفلة، ليجسد بواقعية شديدة علاقة المصريين من الطبقة المتوسطة بغرفة الصالون.

وتقول الباحثة لينة، "تؤدي مركزية غرفة الصالون في البيت إلى شعور سكان البيت بالغربة عن منزلهم، لأنه يبدو أنه يعطي الأولوية للضيوف أو لثقافة لا تلائم حاجاتهم، فكثير من الأشخاص الذين تحدثت إليهم عبروا عن مشاعرهم وعلى رأسها الاغتراب تجاه غرف الصالون الخاصة بهم، معبرين عن كراهيتهم لكونها غرفة مغلقة تفتح فقط للغرباء، ومع ذلك تشغل قدراً كبيراً من المساحة التي يمكن إعادة استخدامها لأغراض أكثر فائدة، مثل غرفة معيشة أكبر أو غرفة ألعاب للأطفال".

 

 

وتروي، "بينما أوضح بعضهم تعلقهم وتقديرهم للصالون ومفروشاته الجميلة، أخبرني رجل في منتصف العمر بأنه ليس لديه أي مشاعر تجاه الصالون على الإطلاق، لأن هذه الغرفة ليست له فهي ملك للضيوف".

وتضيف، "هنا اقترحت في بحثي ما أطلقت عليه ’استعمار المساحات المنزلية‘ بحيث تكون المنازل مثل الشوارع والأماكن العامة مغلقة ومعادية للسكان المحليين وأكثر ترحيباً بالأجانب والسياح والمستثمرين، وربطت هذه المشاعر بما كان يحدث خارج المنزل، ففي كثير من الأحيان يتم تطويق أو إغلاق الأماكن العامة للسياح أو الأشخاص المهمين أو المسؤولين عند مرورهم للحفاظ على صورة مثالية معينة لما يفترض أن تبدو عليه المساحة، على حساب حقيقة الاستخدامات المحلية أو اليومية".

وتشير الباحثة إلى أن درسها لغرفة الصالون بكل أشكالها ليس سوى خطوة واحدة نحو استكشاف العلاقة بين الاجتماعيات والمساحات وما تفعله المساحات بعلاقاتنا، وكيف تشكل أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية مساحاتنا، فدرس أي مساحة من منظور أنثروبولوجي وتجاوز كل الرسومات المعمارية والخرائط التي تفترض وجود مشاهد ومصمم بعيد، يعد أحد التحديات الرئيسة بالنسبة إليها.

انحسار ملحوظ

شكل الصالون المذهّب أهمية كبرى في اتفاقات الزواج في مصر على مدار عشرات الأعوام، فكان يمثل أهمية كبيرة لدرجة أنه يمكن ألا تتم الخطبة بناء على خلاف حوله، فمن سيشتري الصالون؟ وهل سيتم شراؤه من محال الأثاث الفاخرة أم من الورش الشعبية؟ وكم سيكون ثمنه؟ ومن سيختاره؟ وربما يعد فيلم ’الطقم المذهّب‘ عام 1990 من بطولة ليلى طاهر وأبو بكر عزت وفايزة كمال تجسيداً لحال المجتمع وقتها من حيث إصرار أم العروس على شراء الصالون المذهّب الذي كان بطل الأحداث والمفارقات.

ومع تغير الأحوال فإنه من الملاحظ خلال العقدين الأخيرين حدوث انحسار كبير لفكرة الصالون المذهّب مع اعتماد الشباب على الأثاث المودرن وصغر حجم المنازل، إضافة إلى الظروف الاقتصادية التي غالبا لا تسمح بشراء صالون فخم بمبالغ مالية ضخمة، وهنا تقول الباحثة إن "التفكك الاجتماعي أدى إلى تخلي كثير من الأجيال الجديدة تماماً عن فكرة وجود غرف منفصلة للضيوف من الأساس وليس فقط طراز الصالون المذهّب، ولكن في رأيي هذا ليس فقط نتيجة اختيارهم الشخصي، فمع الرأسمالية واستغلال المساحة نادراً ما يبني مطورو العقارات منازل كبيرة بما يكفي لتشمل منطقتين منفصلتين للجلوس، بعكس بيوت الأجيال القديمة".

وتابعت، "وعلى رغم ذلك أصر بعضهم على وضع صالونات الضيوف في غرفة الاستقبال التي تشغل الجزء الأكثر إضاءة وتهوية، وتخصيص غرفة ثانوية أصغر حجماً غالباً كغرفة معيشة، ويحدث كل هذا في حين أن المساحات الاجتماعية خارج المنزل أصبحت تتلاشى بصورة متزايدة لارتفاع كلفتها بدرجة كبيرة بعيدة من متناول معظم المصريين".

وتضيف، "في ظل الرأسمالية المفرطة لا يزال بعض الشباب يرون قيمة في وجود منزل واسع بالقدر الكافي ويحوي غرفة ضيوف ويضمن الخصوصية ويجعل من السهل مقابلة الأصدقاء والعائلة، ففي وجود شعور عام بالغربة تكبر الحاجة إلى امتلاك مساحات منزلية أكبر، لذلك فمن السهل أن نرى لماذا يمثل امتلاك صالون للضيوف أهمية أكثر بالنسبة إلى الطبقة المتوسطة أو العاملة، حتى لو لم يعد الأمر كذلك بالنسبة إلى النخبة التي تستطيع تحمل كلف العيش في مجمعات سكنية مغلقة، أو الحصول على عضوية في النوادي الاجتماعية ذات المساحات الخارجية لغرض المقابلات الاجتماعية".

الساكن ضيف في بيته

وعلى مدى 100 عام في مصر حدثت تحولات كبري في شكل وطبيعة المنازل، فمع مطلع القرن الـ 20 بدأ انتشار البنايات الكبيرة ذات الطابع الأوروبي في القاهرة والمدن الكبرى، وكانت تضم شققاً ذات مساحات واسعة وشرفات كبيرة وغرفاً عدة تسمح بتخصيص غرفة للضيوف يوضع فيها طقم الصالون المذهّب، وكان السائد وقتها استئجار المنازل وليس تملكها مع سهولة ذلك، بحيث يمكن تغيير المنزل مع كبر الأسرة وزيادة عدد أفرادها.

وعلى مدى الأعوام أخذت المدن تكبر والمنازل تصغر حتى وصلنا حالياً إلى أن السائد هو تجمعات سكنية كبيرة ذات مساحات محدودة جداً، والغالب عليها هو التملك وليس الإيجار، مما يتطلب مبالغ طائلة لشراء مسكن محدود المساحة، وبالتالي أصبحت غرفة الصالون أزمة في هذا الطابع الجديد من البناء.

وفي المقابل ظهرت ثقافة جديدة وهي التجمعات السكنية المغلقة أو ما يطلق عليه الـ "كمباوند"، والتي أصبحت توفر فيلات وشققاً واسعة إلى جانب المساكن الصغيرة في المساحة المرتفعة جداً في الكلفة، مما شكل ثقافة جديدة في العموم أخذت في الانتشار في المجتمع المصري، وترتبط بفكرة الضيافة وقيمة غرفة الصالون.

 

 

تقول لينة، "تتوسع العائلات والأطفال يريدون التجول والأجداد يحتاجون إلى لرعاية والانضمام إلى السكن العائلي، وهذه الترتيبات العائلية الموسعة والممتدة وكذلك القيم المحلية لخصوصية الأسرة، والفصل بين الجنسين، ليست ترتيبات تأخذها الهندسة المعمارية السكنية الحديثة في الاعتبار، فيقلد مطورو المجمعات السكنية الجديدة والمسورة النموذج الغربي لمنزل الأسرة الواحدة، وحينما منحت حرية البناء شيد كثير من المصريين من الطبقة المتوسطة مبنى متعدد الأسر، وهو ما يطلق عليه بيت العائلة، كما يحدث في الأرياف والأقاليم وكما نرى في مناطق عدة في القاهرة الجديدة، ومن هنا أعتقد أنه من المهم اليوم إعادة التفكير في كيفية بناء منازلنا وليس مدننا فقط".

وأوضحت الباحثة أن "الصالون ليس مجرد غرفة غير مريحة في البيت، بل يعكس أيضاً تغيرات كثيرة شهدها المجتمع المصري على مدى العقود الماضية في ما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية، فمن الضيافة إلى الاستهلاك، ومن الاجتماعية إلى العزلة، فغرفة الضيوف ببساطة تتناقض مع المدن الحديثة المصممة لقطع أو تجاهل الروابط الاجتماعية وزيادة المسافات بين المنزل والعمل ومكان الإنتاج ونقطة البيع، وبالتالي منازل أفراد الأسرة الممتدة، ففي المنزل الحديث تقتصر وظائف البيت على مجرد الراحة بعد تعب التنقلات وساعات العمل الطويلة، في حين كان ربات البيوت يتقابلن في بيوتهن في الوقت الذي يذهب الأزواج إلى العمل، والآن عمل المرأة خارج البيت جعل من عملية الضيافة عبئاً ثقيلاً، ففي المدينة الحديثة يصبح الساكن نفسه ضيفاً في بيته".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات