Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حرب الشعارات... الواقع أقوى من هتاف الحناجر

صياغة الكلمات بالسجع والجناس اللغوي للتعبير عن الاعتراض أو التأييد أو دغدغة المشاعر بينما الأحداث الفعلية تسير وفق رؤى مغايرة

تظاهرة تونسية ترفع شعارات رفض الانتخابات الرئاسية الأخيرة (أ ف ب)

ملخص

في كل الأحوال تلعب الحناجر دوراً رئيساً في الهتافات التي ترج أركان الدول وتهز مشاعر الشعوب، وربما تحرك شيئاً ما في عقول المسؤولين، لكنها دائماً تطرح تساؤلات حول أصلها وأثرها، وأسباب هيمنتها في ثقافات أكثر من غيرها، لدرجة تحولها أسلوب حياة أحياناً.

هؤلاء يهتفون من قلوبهم بينما ترتعد أوصالهم "الموت للدولة المعادية"، وفي الجانب الآخر تهتز الحناجر وتنفر العروق بينما تصيح الجموع "الهلاك الهلاك لهؤلاء"، فيسارع هؤلاء بقدح زناد أفكارهم والخروج بهتاف يبث الرعب في قلوب أبناء الدولة المعادية "صوبكم قادمون، شهداء بالملايين" وهلم جرا.

هذه المجموعة تصرخ "ارحل ارحل يا زعيم"، وتلك المجموعة تصدح "بالروح بالدم نفديك يا زعيم".

هنا، يقولون بعلو الصوت "يحيا الهلال مع الصليب"، وهناك يدوي الصراخ "قول للأنبا قول للقسيس، دم المسلم مش رخيص"، وحيناً يخرج الهتاف "الشرطة والشعب ايد واحدة"، وحيناً آخر يسلك مسلك "الشرطة قتلة".

خروج الغاضبين

ودائماً يخرج الغاضبون وأيضاً الفرحون، وكذلك المعارضون، وبالطبع المؤيدون، بهتافات وشعارات سياسية يصرخون بها غضباً أو سعادة، تنديداً أو تأييداً، إما بكل جوارحهم، أو تحت ضغط ما، أو درءاً لخطر، أو مقاومة لعدوان، أو في مقابل مكسب أو وجبة أو خدمة أو ورقة بنكنوت مقسومة نصفين، الأول قبل الهتاف والثاني بعد اهتزاز الحناجر، وحبذا احتقانها.

في كل الأحوال تلعب الحناجر دوراً رئيساً في الهتافات التي ترج أركان الدول وتهز مشاعر الشعوب، وربما تحرك شيئاً ما في عقول المسؤولين، لكنها دائماً تطرح تساؤلات حول أصلها وأثرها، وأسباب هيمنتها في ثقافات أكثر من غيرها، لدرجة تحولها أسلوب حياة أحياناً.

هتافات وشعارات وحناجر ومطالب ومظالم وحناجر، إنها سمة من سمات الغضب والاعتراض، وإلى حد ما الفرح والتأييد.

 تحتشد الجموع، يهتف قائد الجمع، يقول ويرددون خلفه، يكرر ولا يفكرون قبل التكرار، يكفي أن كلاً من الحاضرين يحتمي بمن حوله، ويشعر وكأنه اكتسب قوة عضلية مستمدة من الحناجر المدوية، بما فيها حنجرته، وإن خانته أحبالها.

الأعداد الكبيرة

يصف متخصص الطب النفسي محمد المهدي سيكولوجية الحشود والهتافات بقوله إن البشر حين يتجمعون بأعداد كبيرة يتصرفون بطريقة تختلف عن سلوكهم في الحالات الفردية، ويقول "تأخذ الحشود أبعاداً نفسية تتجاوز مجموع اتجاهات وآراء الحشد حين يكونوا أفراداً، وكأن تغيراً نوعياً يطرأ على الجميع، فيساعد على خروج أفكار ومشاعر لم تكن متاحة لوعي الفرد في حالته الفردية".

وهذا مربط الاختلاف، ومكمن القوة، وأحياناً مصدر الخطر في سلوك الحشود، لا سيما حين ينخرط الحشد في هتاف مدروس، مردداً شعارات تم ابتكارها وجرى تحريرها ومراجعتها بدقة متناهية، لتضمن أكبر قدر ممكن من التفاعل والانفعال.

التفاعل الجماهيري الكبير الذي يحدث في كل موجة من موجات اندلاع صراعات منطقة الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر اشتعالاً وسخونة، والأوفر حظاً من حيث الشعارات والانفعالات، يدين بجزء ولو صغير منه للهتافات والشعارات التي تصدح بها أصوات الجماهير، وذلك بغرض التضامن والتآزر، أو بهدف الإبقاء على الصراع مشتعلاً على وقع صوت الجماهير.

أثر الشعارات

يندر أن تتكفل أغنية بشرح أثر الشعارات ومفعول الهتافات في ثقافات وشعوب بعينها، لكن ما دام الحديث عن الشعار والهتاف والمنطقة العربية، فإن "صوت الجماهير" يفرض نفسه فرضاً، ويطرح كلماته ضوءاً لفهم ما تفعله الشعارات الوطنية والهتافات القومية والتفافات الملايين حول حناجر قوية تصدر أصواتاً هادرة تزلزل الكيان وتدغدغ الشعور، وأحياناً تفرط في أداء مهامها، فتتحول غاية لا وسيلة وهدفاً أكثر منها مغزى أو رمزاً.

 

 

حين خرجت أغنية "صوت الجماهير" في عام 1960 في خضم المشاعر الثورية والميول التحررية والمشاعر الوطنية والقومية العربية في أوجها، تحولت في خلال أيام عدة إلى هتاف وطني عابر للحدود العربية، يردده ملايين العرب.

حين كتب الشاعر حسين السيد كلمات "صوت الجماهير" لم يقصد على الأرجح الصوت الصادر عن الحناجر فقط، بل قصد الهمة والعزيمة والعمل والإصرار على نيل الحقوق ونبذ الظلم وتحقيق المطالب عبر العمل الجماعي ومساندة الوطن، لكن جانباً معتبراً من المتلقين، منذ إذاعتها للمرة الأولى قبل أكثر من ستة عقود، وحتى اليوم يتعامل مع "الصوت" باعتباره الهتاف والصياح.

"صوت الجماهير هو اللي بيصحي الأجيال، هو اللي بيتكلم وبيتحكم، هو البطل وراء كل نضال، الشعب دايماً كان صوته عالي، والنصر دايماً كان للشعوب في تاريخ كل نضال، بيبتدي من همسات بترج آهات الظلم في كل ضمير، وانطلقت صيحات تفضل تكبر، تفضل تعلا لحد اللي اتبقى (ما تبقى) صوت الجماهير"، وفق الشاعر.

ينتاب البعض شعور بين الحين والآخر، لا سيما في أوقات الأزمات، مثل الحروب والصراعات دائمة الاندلاع في المنطقة العربية، أن لهيمنة الشعارات دوراً ما في إزكاء العنف أو تهويل الأثر أو تنويم الجموع مغناطيسياً، أو تخديرها وإيهامها بأن الشعار يحرر ويقوي ويعين، والأهم إنه يبث الرعب في قلوب العدو لدرجة قدرته على تحقيق النصر وإحراز المرجو وإعلان الأعلى صوتاً في الهتاف بطلاً مغواراً وشجاعاً صنديداً.

يشير تاريخ الاحتجاج إلى ارتباطه شرطياً بالصوت، وكلما علا الصوت احتد الاحتجاج، وأكسب المحتجين زخماً إضافياً وشعوراً حقيقياً أو كاذباً بالقوة والقدرة على تحقيق المطالب.

الغضب الصوتي

وبينما تعمد بعض الدول والثقافات إلى استخدام أسلحة تصدر أصواتاً صارخة، ولا تضر بالضرورة لمواجهة أصوات المحتجين العالية المرددة للهتافات والشعارات، وذلك بهدف إسكات أو إخفات أصوات الاحتجاجات، يلجأ آخرون إلى ترك، بل مباركة ظاهرة الغضب الصوتي بهدف توقف الغضب عند الحناجر، ومنع وصوله لما هو أكثر من ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"الموت لأميركا"، "الموت للفلسطينيين"، "الموت لإسرائيل"، "الموت للعرب" وغيرها من الشعارات الرنانة والهتافات الصادحة تدغدغ مشاعر الجموع، كل بحسب توجهه وأحلامه وأمنياته، وهل هناك حلم أكثر عمومية من تمني الموت لشعب بأكمله، أو تصور فناء ثقافة من جذورها، أو أن يستيقظ المحتج الذي التهبت حنجرته ذات صباح فيجد شعاره القائم على تحقيق مأربه عبر برق ضرب عدوه، أو بركان ابتلع المحتل، أو زلزال دمر الطاغي وخرب بناه التحتية والفوقية؟

وهل هناك ما يدغدغ المشاعر أكثر من شعار رنان يخبر الحشود أن سبب نكبتهم هو تقاعس طرف ثالث، أو أن استمرار الاحتلال مرده رفض جيش دولة ما عن القيام بمهام التحرير نيابة عنهم، أو "ينتهي الغلاء" أو "ينقشع الوباء" "حين تتحجب النساء"؟

إثارة المشاعر المُقَنَعة

تشير دراسة عنوانها "استخدام الشعارات في الخطاب السياسي" أن الشعارات تعمم الفكرة المعنية، وتقوم على إثارة المشاعر المقنعة، وعلى أن يغض الناس الطرف عن الحقائق المحيطة بالقضية، والكثير منها أفيون الضمير، ونقتل هذا لأن الغاية السامية لن تتحقق إلا بذلك، ونتمنى الموت لشعب بأكمله لأننا لن نصل إلى الهدف الأرقى إلا بموتهم، ويهدف الشعار أحياناً إلى إقناع رافعيه بمنطق خال من المنطق.

يضرب مؤلف الدراسة الباحث في "كلية جورجيا أند ستايت يونيفرستي" كايل نيوسم مثالاً على شعار "تذكروا بيرل هاربور" كمبرر لقصف هيروشيما وناغازاكي، إذ يقول إن اعتماد الشعار وترديده يكون بمثابة البديل لتقدير الجوانب الأخلاقية في القرارات السياسية.

وتشير الدراسة إلى ما ورد في موضوع نشر في "إيكونوميست" تحت عنوان "إساءة الجناس" 1994 من أن الجناس شديد الإتقان في صياغة الشعارات غالباً يعكس غياب المحتوى، وكلما كانت الفكرة أقل تحديداً، كلما كانت المفردات أكبر وأضخم، ويمضي صناع الشعارات الوقت ويبذلون الجهد من أجل العثور على الحرف الساكن المطابق والوزن المناسب، وكذاك السجع المبهر والجناس المذهل.

القول والفعل

هناك من يرى أن نجاح الشعارات شعبوياً يرتبط بكم السجع والجناس فيها، أما في ما يتعلق بنجاحها من حيث القدرة على الانتقال من القول إلى الفعل، فالأمر يختلف.

وعلى رغم أن كتاب "أصوات أميركا: قصة الوطن في الشعارات والأمثال والأغنيات" 1976 يدرس أثر الشعارات في الولايات المتحدة، فإنها دراسة قابلة للتعميم، حيث يشير المؤلفان توماس بايلي وستيفن بوبز إلى أن العبارات الجذابة عدوة للتفكير الرصين، وهذه العبارات تبث شعوراً مريحاً، لكن وهمي في الغالب.

الكلمة أو الشعار الجذاب والأخاذ قادر على عرقلة التحليل العقلاني لمدة 50 عاماً، وكثيرون يفضلون الموت على التفكير الواقعي، والبعض منهم يموت بالفعل فداء للشعار الأخاذ الذي في الأغلب لا يعكس سوى جانب واحد حتى لو كان هناك مئات الجوانب الأخرى، وغالباً تغيب تماماً أية مساحات للبحث عن حجج أو براهين تثبت أو تنفي ما يرد في الشعار، وغالباً يحتوي على كذب أو على الأقل أنصاف حقائق، وتهدف الشعارات عادة إلى دفع الحشود لتغض الطرف عن الحقائق التي تحيط بالقضية الرئيسية.

اختصار المقصد

كتب وزير الإعلام الكويتي السابق سعد بن طفلة العجمي في "اندبندنت عربية" مقالاً عنوانه "شعارات الموت" أشار فيه إلى أن "للعالم جميعاً شعاراته، سواء كان هذا العالم غرباً أو شرقاً، ديموقراطياً أو شمولياً، مسلماً أو كافراً، فالشعار يحاول اختصار المقصد والهدف بأقل قدر من الكلمات والعبارات، وكل منتج مادي أو أيديولوجي له شعاراته".

ويضيف أن "للشعار السياسي الأيديولوجي أهدافاً تختلف عن الشعارات المادية، فهو يسعى للتعبئة والأدلجة والتوجيه الجماهيري، وقد يكون له تأثير السحر والمخدر على الجماهير التي يحركها الشعار والهتاف دونما التفكير بمعناه، أو الغوص في مفاهيمه ومقاصده، فتندفع بحناجر ملتهبة، وصرخات لوزية (من اللوز) تردد من دون تفكير، وتهذر من دون تدبير".

ويتساءل العجمي "بعقلانية مفقودة في عالمنا العربي العنيد، كيف يكون الموت لأميركا؟ وكيف يكون الموت لإسرائيل؟ معروف أن الدول يمكن أن تفشل وتصبح أثراً بعد عين، ولنا باليمن والعراق وسوريا ولبنان خير مثال، لكن البشر بها ما زالوا يعيشون عيشةً ضنكاً، وهم بشر يستحقون الحياة مثل بقية البشر، ولا أعرف كيف يمكن لمثل هذه الشعارات والهتافات أن تعين البشر بهذه الدول المنكوبة على تحسين حياتهم المعيشية".

في الشعار حياة وبقاء؟

في المقابل، هناك من يرى أن في الشعارات حياة، وفي الهتاف بقاء، وما زال هناك البعض يؤمن بأن الشعارات هي الطريق الوحيد لاستهداف الجماهير وحضها على تغيير الواقع الصعب، وما زال هناك من يتمسك بتلابيب الأحلام طريقاً ربما وحيداً، لتحقيق الصعب والمستحيل من دون شرط عقلانية التخطيط أو واقعية التكفير.

 

 

وما زال هناك من يخبر الجموع والحشود أنه لتحقيق الأهداف، ومنها مثلاً تحرير فلسطين ووقف العدوان في غزة، يحتاج العالم العربي إلى حركات لها جماهير تهتف بالشعارات بأعلى الصوت، هؤلاء يؤمنون أن الجانب العاطفي هو الأصل من أجل تمكين الحركات الشعبية من تغيير التاريخ.

هم يقولون إن الحشد العاطفي عبر الهتاف بالشعار هو سلاح رئيسي في المعركة، وهذا الفريق يناصب من ينتقدون الاكتفاء بالشعارات، واعتبار الهتافات الصاخبة طريقاً للتحرير ووسيلة للخلاص، من دون النظر إلى مدى دقة أو واقعية أو حقيقة ما ينص عليه الشعار، كل العداء.

الهتافات محطة أم مقصد؟

ترديد الهتافات والصياح بالشعارات من قبل الحشود قديم قدم الأيديولوجيا والحرب والصراع وسلب الحقوق والمطالبة باستردادها، والبعض يعتبرها محطة في الطريق إلى العمل، والبعض الآخر يكتفي بها لأنها مقصد، أو يلتحف بها هرباً من مسؤولية، ومن الشعوب والثقافات من تضع منظومة الهتاف والشعار في خانة العوامل الثانوية أو المؤثرات التنويمية أو المواد التخديرية أو مكوناً من مكونات الراحة النفسية، ومنها حشود تضعها في القلب وتدافع عنها بالروح والدم، وتعتبرها ساحة الأمان ومنصة الاطمئنان. 

يقول متخصص الطب النفسي محمد المهدي أن الفرد يشعر بالأمان وسط الحشد، إذ يصبح جزءاً من كيان ضخم يصعب عقابه أو مساءلته، ويتمركز الشخص حول هذا الكيان الضخم أكثر من تمركزه حول ذاته، ويضعف التزامه بالقيود السياسية أو الاجتماعية أو الأمنية أو الأخلاقية، ويتوحد مع الجموع الهائجة في حركة أقرب ما تكون إلى حركة القطيع، وتصبح العواطف الملتهبة هي سيدة الموقف فتتحرك الجموع بمشاعر الحرمان أو الرغبة أو الظلم أو القمع أو الإحباط أو الغضب.

ويضيف المهدي "يمكن تفسير سلوك الحشد على أنه خروج للمشاعر المكبوتة بعد إزالة عوامل الكبت والقمع مع الإحساس بالأمان في وسط المجموع، ومع هدير أصوات الشعارات الجماعية، وبتيسير من قائد يعرف ما يعمل بطبقات الوعي الأعمق للجماهير فيناديها ويحركها، وييسر خروج مشاعر مكبوتة لديهم ويوجهها إلى حيث يريد بموافقة الجماهير نفسها".

إنه عالم الشعارات وجو الهتافات الذي يسجن البعض فيه أنفسهم باعتباره هدفاً وغاية، ويتحرر منه آخرون فينبذونه لأنه تغييب للقلوب وغسل للعقول، ويراه فريق ثالث داعماً معنوياً وسنداً عاطفياً شرط أن يكون مصحوباً بفكرة حقيقية وخطة عملية وارتباط ما بأرض الواقع.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات