ملخص
أسباب التراجع التدريجي لسعر صرف الدينار الليبي لا تزال مبهمة للمتخصصين في ظل ارتفاع معدلات تصدير النفط وارتفاع أسعاره في الأسواق الدولية
عاد هاجس انهيار قيمة الدينار الليبي في السوق السوداء، بما يجره من تداعيات كارثية على المستوى الاقتصادي والمعيشي ليؤرق الليبيين من جديد، بعد ثلاث سنوات من الاستقرار الملحوظ لأسعار صرفه مقابل العملات الأجنبية، أسهمت في تحسن الحالة الاقتصادية لكثير من الفئات المتوسطة والضعيفة الدخل.
وإذا كانت مرحلة الانهيار القياسي لقيمة الدينار الليبي (0.20 دولار) بين عامي 2014 و2019، والتي لم يشهد لها مثيلاً قبل هذه الفترة الزمنية ولا بعدها نتيجة طبيعية لحالة الصراع السياسي والمسلح، فإن أسباب التراجع التدريجي لسعر صرفه حالياً تبدو مبهمة وغير مفهومة، خصوصاً في ظل ارتفاع معدلات تصدير النفط وارتفاع أسعاره في الأسواق الدولية.
سقوط تدريجي
تهاوي قيمة الدينار الليبي أمام العملات الدولية بدأت بالتدريج منذ منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ تراوح سعر صرفه بين 5.60 و5.70 دينار مقابل الدولار الواحد في السوق السوداء حتى بداية الأسبوع الجاري، الذي اقترب فيه من سقف 6 دنانير مقابل الدولار، واستقر بنهاية عمليات التداول في السوق الموازية في السادس من أكتوبر الماضي عند 5.85 دينار للدولار الأميركي، في حين يبلغ سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي في المصرف المركزي 4.85 دينار مقابل الدولار، واليورو 5.21 دينار، والجنيه الاسترليني 6 دنانير.
هذا التراجع الذي يعيشه الدينار في المرحلة الحالية، يحذر محللون اقتصاديون من أن يكون بداية فقط لما هو أسوأ، إذ يخشون من أن يصل هذا التدهور التدريجي إلى مستوى 7 دنانير للدولار الواحد في ظرف أشهر قليلة، إذا لم يتحرك المصرف المركزي الليبي بإجراءات تكبح انزلاق العملة المحلية إلى قيم أكثر تدهوراً.
مضاربات وهمية
مصادر مسؤولة في مصرف ليبيا المركزي أرجعت في تصريحات لوسائل إعلام محلية ارتفاع سعر صرف الدولار إلى "عمليات مضاربة غير حقيقية بين تجار العملة في السوق السوداء".
المصادر ذاتها توقعت ارتفاع سعر صرف الدينار في القريب العاجل لانعدام الأسباب المنطقية لانخفاضه الحالي، بخاصة أن المقاصة بين البنوك التجارية مفتوحة بشكل طبيعي، وبطاقات الأغراض الشخصية "10 آلاف دولار لكل بطاقة" مفتوحة ويتم الشحن بشكل طبيعي لكل المصارف.
سوء إدارة
المحلل الاقتصادي مختار الجديد، حمل المصرف المركزي مسؤولية تدهور قيمة الدينار الليبي، قائلاً إنه "لا توجد أزمة حقيقية مزمنة يمكن أن تفضي في الوقت القريب إلى ارتفاع مستمر في سعر الدولار بالسوق الموازية، فالنفط يتدفق وأسعاره جيدة وهناك فائض في ميزان المدفوعات خلال عامي 2022 و2023 حتى الآن".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتبر الجديد أن "أصل المشكلة يكمن في سوء إدارة بيع النقد الأجنبي من قبل المصرف المركزي، الذي أدى إلى تنامي نشاط السوق الموازية، بمعنى أن أي تاجر وهمي يمكنه أن يفتح اعتماد بكل سهولة في المصرف المركزي، ويستورد مقابله هواء ثم يبيع الدولار إلى التجار الحقيقيين المساكين الذين لا يزالون ينتظرون وعود المركزي لهم بفتح الحوالات المباشرة".
وخلص إلى أنه "كلما زاد جشع هذه العصابة وأرادت تحقيق أرباح أعلى، كلما زادت القيود التي يفرضها المصرف المركزي على بيع النقد الأجنبي بالتالي يلجأ الناس إلى السوق الموازية فيزيد بذلك الطلب ويزيد معه سعر الدولار وتزيد معه أرباح اللصوص".
ارتفاع مستمر
أما المحلل الاقتصادي ورجل الأعمال حسني بي، فيعتقد أن "سعر الدولار بالسوق الموازية يمكن أن يستمر في الارتفاع، بعد أن وصل حالياً إلى 15 في المئة وقد يصل إلى 20 في المئة، على مدار 15 يوماً منذ اندلاع الأزمة".
وأضاف أن "الارتفاع المستمر دليل على وجود خلل أو اختناقات قد تكون إجرائية بالسياسات النقدية النافذة، ولا يوجد نقص بالعرض بحسب سياسات مصرف ليبيا المركزي المعلنة، حيث يطرح 50 مليار دولار للبيع سنوياً من خلال آليات منح 5 ملايين مواطن ليبي حق شراء 10 آلاف دولار للفرد كل سنة غير الاعتمادات للتجار".
كما لفت إلى أن "الطلب على الدولار لم يتعد 12 في المئة من العرض من دون اعتمادات، أو 30 في المئة من المعروض إذا ما جمعنا الاعتمادات على الأغراض الشخصية، وهناك انخفاض بالطلب المقارن، أي أن المعروض 50 مليار دولار سنوياً والطلب لم يتعد 6 مليارات دولار لأغراض شخصية، و7 مليارات دولار اعتمادات، في حين أن الإجمالي الكلي لم يتعد 13 مليار دولار خلال 9 أشهر".
ولعل الحل الأمثل لهذه الأزمة – وفق حسني – هو "السماح للمصارف التجارية بتنفيذ جميع وسائل الدفع المسموحة قانوناً ومنها الدفع بالكروت والآجل، وبالتقسيط على مدى سنة وبرسم التحصيل والتحويل المباشر لأصحاب الحقوق ومنح خطابات الضمان مع التغطية الكاملة محلياً للوفاء".
استقرار إنتاج النفط
الأمر الأكثر إثارة للأسئلة منذ بداية هذه الأزمة التي يعيشها الدينار الليبي أنه جاء في ظل استقرار بل زيادة إنتاج النفط، للمرة الأولى في كل الأزمات المشابهة التي عرفها في السنوات الأخيرة.
وأعلنت المؤسسة الوطنية الليبية للنفط في آخر تقرير لها قبل يومين أن إنتاج الخام بلغ مليون و218 ألف برميل يومياً وبلغ إنتاج المكثفات 53 ألف برميل يومياً.
يأتي ذلك في ظل ارتفاع أسعار النفط في الأسواق الدولية بسبب الحرب في غزة، وزادت العقود الآجلة لخام برنت 41 سنتاً، بما يعادل 0.5 في المئة، إلى 85.30 دولار للبرميل، بينما بلغ خام غرب تكساس الوسيط الأميركي 81.05 دولار للبرميل، مرتفعاً 54 سنتاً، أو 0.7 في المئة.
خطر على الفئات الهشة
وكما جرت العادة فإن انخفاض قيمة التداول للدينار الليبي تشكل خطراً ومخاوف أكبر للفئات الضعيفة الدخل وحتى المتوسطة التي اتسعت رقعتها في السنوات الماضية، بحسب تقرير حديث للبنك الدولي، الأسبوع الماضي، قال فيه إن "عقداً من الصراعات العنيفة والانقسامات السياسية في ليبيا أدت إلى انخفاض دخل الفرد في البلاد بمقدار النصف منذ عام 2011 وهو ما يمثل انعكاساً صادماً بعد ما كانت أغنى المجتمعات في المنطقة".
وذكر التقرير أن "نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الدولة المنتجة للنفط في شمال أفريقيا انخفض 50 في المئة بين عامي 2011 و2020 نتيجة عدم الاستقرار ومن بينها ليبيا".
ولفت إلى أن "اعتماد ليبيا على عائدات النفط والغاز التي تشكل 97 في المئة من دخل الدولة ما تسبب بارتفاع الدين العام إلى 77 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وسجلت الحكومة الموحدة في طرابلس فائضاً مخفضاً في موازنة 2022 مع تزايد ضغوط الإنفاق".
كان البنك الدولي حذر في تقريره من أنه "من دون حل سياسي مستدام لإعادة توحيد المؤسسات الحاكمة يخشى من أن مستويات المعيشة في ليبيا ستستمر في التدهور"، موضحاً أن "الرؤية الاقتصادية الوطنية المنسقة والمالية العامة الشفافة والسياسات الاجتماعية الشاملة أمور بالغة الأهمية لتحقيق التعافي الاقتصادي للدولة".