مرّت سبعة عقود على صدور كتاب "أحلام قايين" Los sueños de Caín 1953 للشاعر التشيلي محفوظ مصيص (1916-1990) الفلسطيني الأب واللبناني الأم. اختار مصيص شخصية قايين، الذي ذكر في سفر التكوين باعتباره أول حدّاد على الأرض، كنايةً عن وظيفة الشاعر الذي لا يني يطرق الحديد منبّهاً العالم إلى فظاعاته. ثم إن الشاعر حدّاد كلمات، يُعمِل فيها مطارقه على الدوام علّها تتحول إلى أوعية لأفكاره وأحلامه.
عاش محفوظ مصّيص شاعر التشيلي الأشهر، على الأقل في أميركا اللاتينية، حياة المهجر بكلّ ما يحتدم فيها من مشاعر. وعبر نصوصه الشعرية سعى إلى أن يذكّرنا بأن الأريج الذي يملأ البساتين اللاتينية له أصل، وأصله فلسطين. ما يمكن أن يصدر في بيان يلخّص تاريخ المهاجرين الفلسطينيين في بلاد بابلو نيرودا وغابرييلا مسترال يقوله مصيص في هذه الأسطر الشعرية: "على قدم سلسلة الجبال/ هذه، غير الرحيمة والبيضاء/ أنا محفوظ مصيص/ أريج فلسطين في القارة الأميركية/ مواطن من العالم الثالث/ من العين الثالثة/ لهذا القمر الفارغ/ أطلق صوتي مثل مهرة إزاء الظّلمة الصّلدة".
إنه صوت الحنين الأبدي إلى الأصل، الصوت، سواء العالي أو المكتوم، الذي يعتمل باستمرار في الأرجاء الداخلية وينداح ويصير أكثر شساعة مع التقدم في العمر. ثم إن اختيار المهرة للتعبير عن هذا الصوت هو اختيار بالغ الشعرية، كأنما يحاول الشاعر أن يضع الحنين في خانةٍ أنثوية دلالةً على هشاشة الكائن الذي يحنّ.
نحيب الناي
إن صوت المهرة في الظلمة شبيه بنحيب الناي ونشيجه، بسبب اشتياقه إلى غابة القصب التي فصلوه عن شجرة من أشجارها، كما صوّر ذلك جلال الدين الرومي في نصه الصوفي "أنين الناي": "اِستمع إلى صوت الناي كيف يبثّ آلام الحنين. يقول: مُذْ قُطعتُ من الغاب وأنا أحنُّ إلى أصلي". وإذا كان الحنين إلى الأصل عند الرومي حنيناً أرضياً إلى السماء، فإن حنين محفوظ مصيص يتجرد من البعد الميتافيزيقي ليصير حنيناً إلى الأرض الأولى.
تغلّف الرغبة في العودة إلى الأصل قصائدَ محفوظ مصّيص وتبطّنها، غير أنها ليست رغبة محكومة بالعامل الجغرافي في الضرورة، بل ثمة عوامل وجدانية وروحية هي التي تقف بالأساس وراء هذه الرغبة. هناك نقطة بالغة الأهمية في حياة هذا الشاعر الذي كان يلقّب ب "قنّاص الشعر التشيلي". فقد قام بتغيير اسمه اللاتيني إلى اسم عربي ذي دلالة عميقة: "لقد سمّاني والدي الفلسطيني وأمّي اللبنانية في تشيلي "أنطونيو"، لكن أريج فلسطين الذي يسكن روحي أعاد تسميتي فأبدلت أنطونيو بـمحفوظ". فعل ذلك من أجل أن يردم تلك الهوة بينه وبين كلماته، وكي يكون منسجماً معها أكثر، ولئلا يبقى الحنين مجرد فكرة في كتاب، أو صورة بلاغية تجمّل سطراً شعرياً.
ثمة أشياء كثيرة إذاً أراد مصيص أن تبقى محفوظة في ذاكرته، وفي الذاكرة الجمعية أيضاً: أصله الفلسطيني وانتماؤه العربي وتاريخ أجداده وثقافة البلاد، وكلّ تلك الأشياء الملموسة والمحسوسة التي تربطه بفلسطين. إنه ينبش باستمرار بحثاً عن تلك الهوية الضائعة محاولاً استعادتها: "مثل إله شمسيٍّ صغير وشاحب/ أمشي الآن في العالم بعينيّ اللتين لكلب،/ أنبش التراب، بين ديدانٍ وشقائقَ نعمانٍ متعفنة،/ أبحث عن رأس عزيز/ طيفٍ ضائع منذ زمنٍ بعيد".
يبحث الشاعر عن الرأس، وعن مسقطه، عن الطيف الذي يفصله عنه عامل زمنيّ. ثمة تلميح إلى الوجوه التي تحوّلت من حالتها النضِرة إلى حالة شبحية، وهي تغادر بلادها باتجاه بلاد أخرى بعيدة وغريبة. ويستعيد قارئ مصّيص ذلك التدفق التاريخي للفلسطينيين باتجاه أميركا اللاتينية منذ أواسط القرن التاسع عشر، بحثاً عن أفق أرحب للعيش، وانفلاتاً من ضغط المرحلة العثمانية في فلسطين.
الإنجذاب الروحي
هذا الانجذاب الروحي إلى فلسطين، عند صاحب "أساطير المسيح الأسود"، يرعاه الموتى الذين يصلون من حين لآخر من أرض الأجداد إلى أرض الشاعر الجديدة كما لو أنهم استحالوا يداً واحدة، تربّت على كتف الشاعر لتخفّف من حزنه: "ثمّة موتى يحيونني، أتوا/ من فلسطين،/ يسألون كيف ولِمَ أنتحب؟"
يتساءل الموتى عن سبب حزن الشاعر، غير أنه لن يتأخر في الردّ على سؤالهم: "كل ليلة ألقي بنفسي إلى النشيج في بيّارة الليمون،/ أو أُكثِر من التردد إلى البيت،/ الذي ملأه الوثنيون بدماء، وباحتدام مديد".
لم يولد محفوظ مصيص في فلسطين ولم يعش فيها، غير أنه يحنّ إليها، ويعبّر عن ذلك في قصائد متفرقة زمنياً. ويبدو هذا الشعور مثيراً ليس للدهشة فحسب، بل للتعاطف أكثر مع حامله. يقول الكاتب الإيطالي أليساندرو باريكو: "ألمٌ غريبٌ أن تموت من الحنين لشيء لم تعشه أبدا".
في مجموعته الشعرية "نحيب المنفى" يخاطب والده بمشاعر يتداخل فيها العتاب بالتعاطف والحيرة بالرغبة المؤجلة أو المستحيلة: "أنا / الذي خرج من صلبك/ الأول في المنفى الفقير هذا،/ أبداً ما فهمتكَ، كنتَ تسأل/ لماذا نحن هنا. كم هي بعيدة فلسطين! وأنا فقط/ من كان يريد البكاء./ أرغب، إن كان بالإمكان،/ تصفية هذا الدين بقطع الذراعين/ هذا اللسان الهائل،/ أو إقلاعي وإلى الأبد عن النوم./ أن أقول لك: لنمْشِ معاً إلى فلسطين/ لكنها لم تعد موجودة/ وأنا وأنت نمضي في شتات".
لا تنحو الجملة الشعرية هنا منحى أفقياً، ففلسطين موجودة، لكنّ أشياء أخرى مرتبطة بفلسطين هي التي لم تعد موجودة. ينحاز الشاعر إلى المجاز لينقل لنا هذا اليأس الذي يستبدّ به، وهو يفكر في أصله، كأنما يريد أن يقول لنا: "فلسطين التي كانت لم تعد كما كانت".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليس الحنين إذاً عند صاحب "دواب العزاء" و"كتاب النجوم المطفأة" حنيناً مبهجاً، بل هو حنين مؤلم. ربما لهذا السبب قال محمود درويش: "الحنين ندبةٌ في القلب، وبصمة بلد على جسد". إنه حنين لا يخفت مع مرور الزمن، بل يتضاعف ويصير حملاً ثقيلاً على صاحبه. هذا ما يصفه فرناندو بيسوا في المقطع التالي: "بعد النهار يأتي الليل/ بعد الليل يأتي النهار/ وبعد الحنين يأتي/ الحنين المستبدّ بنا". في مجموعته الشعرية "سوناتات الديك الأسود" يرفع محفوظ مصيص صوت الحنين عالياً: "وعند الغروب، أيقظت الذروة بصرخة طويلة ومصابة بالحنين".
استبداد الحنين
يتجلى استبداد الحنين أكثر حين يعيش الشاعر تجربة المنفى بعد انقلاب 1973، حين تم إبلاغه بأنه غير مرغوب فيه في التشيلي، ويعفى من منصبه كلمحق ثقافي في فنزويلا، التي يمكث فيها مجبراً وممنوعاً من العودة إلى بلده إلى نهاية حياته، فيموت منفياً في العاصمة كاراكاس في ربيع 1990.
حضور تيمة الحنين في قصائد مصيص جعل الناقد التشيلي ناين نوميز يصفه ب "شاعر الذكريات الحزينة"، مؤكداً أن كتاباته تنطلق من جذور وجودية، وتتميز بالعنف البلاغي. ويمكن القارئ بالفعل أن يتلمس ذلك عبر تلك الصور الشعرية الوحشية والعنيفة التي تشكّل قصائد مصيص: عصافير سود، دلو متعفن، رائحة الجيفة، رجل مشنوق في مزبلة، الأمير الذي أكلته نباتات اللبلاب، الجلاد الذي يجلد ذاته ويبصق على نفسه، الغريب المتوحش في الأرض، الرجل الذي يتبول دماً على الجنود، القاتل المسمّر على الباب، الطفل المشنوق، الدم الأسود المتدفق من القلب، الضّباع التي تأكل من لحم الشاعر، وأبناء آوى التي تأكل عينيه. يقول الشاعر: "كنت رجل يافا في العائلة/ آكل في مقلاة،/ نائماً/ مثل متوحش فوق الحصير/ لا أحد قرأ في قلبي المدينة المدفونة".
إنها دعوة لقراءة المدينة المدفونة في قلب الشاعر "المسيح الأسود"، والعودة إلى تجربته وإلى تجارب شعراء أميركا اللاتينية ذوي الأصول العربية، والاقتراب أكثر من منجزهم، عبر ترجمتهم إلى اللغة العربية وتقريبهم إلى القارئ الذي يوجد في بلدانهم الأولى التي ظلت، على الدوام، رافداً للكتابة لديهم. ويحسب للشاعر الفلسطيني الراحل أحمد يعقوب انفتاحه على الشعراء اللاتينيين من أصول عربية، عبر تقديمه لثمانية شعراء تشيليين من أصل فلسطيني في كتابه اللافت "مهجريون جدد" الذي اخترنا منه نصوص محفوظ مصيص المتضمنة في هذا المقال، والمترجمة على نحوٍ يجعل نصوص الشاعر متوهجة في لغة أرضه الأولى مثلما توهجت في المغترب.