ملخص
هو تحدي إسرائيل الاستراتيجي ومصدر إرباك للهدوء والاستقرار
رقعة صغيرة لا تتجاوز مساحتها نصف كيلو متر مربع باتت الشغل الشاغل للباحثين والمحللين، وصداع دائم لصناع القرار في الدوائر الأمنية الإسرائيلية، فما حدث ويحدث داخل مخيم جنين وثورته التي لا تهدأ خلق حالاً استثنائية استوجبت من المستوى العسكري الإسرائيلي التعامل معها منذ عقدين.
وهو أيضاً "الرقم الصعب" في الضفة الغربية، فالمخيم الذي تخفق السلطة الفلسطينية حتى اليوم في السيطرة عليه تحول إلى أيقونة وحاضنة لكل المقاتلين من جميع الفصائل الفلسطينية، واستأثر بمكانة خاصة على خريطة العمل الفلسطيني المسلح، مما جعله عرضه للعمليات العسكرية والاقتحامات اليومية بهدف اجتثاث المسلحين واعتقال مطلوبين، وترسخ ذلك أكثر بعد إعادة إسرائيل السيطرة على الضفة الغربية عام 2002.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقع المخيم الذي ينحدر أغلب سكانه من منطقة الكرمل في حيفا وجبال الكرمل، التي تم تهجير سكانها خلال نكبة عام 1948، غرب مدينة جنين بمحاذاة "مرج بني عامر" أحد أخصب وأكبر سهول فلسطين، حيث قامت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) ببنائه عام 1953 على مساحة 372 ألف متر مربع، اتسعت في ما بعد إلى نحو 473 ألف متر مربع.
ووفقاً لتقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد بلغ عدد سكان المخيم في منتصف عام 2023 نحو 11674 لاجئاً، ويعد ثاني أكبر مخيم في الضفة الغربية بعد مخيم بلاطة، إذ توجد فيه خمس مدارس ومركز صحي واحد، إضافة إلى مركز شبابي اجتماعي، لكنه يعاني كما غيره من المخيمات الفلسطينية من بنى تحتية منهكة وشبكات صحية مدمرة وشوارع ضيقة وارتفاعاً سنوياً في نسب الفقر والبطالة بين فئة الشباب، إذ لا تقل معدلات البطالة عن 20 في المئة، وقد تتفاقم المشكلة لتصل إلى ما يزيد على 40 في المئة، وزادت المعاناة بعد تقليص "أونروا" خدماتها المقدمة للاجئين الفلسطينيين، فالنسبة الأكبر من العائلات كانت تعتمد بشكل شبه كلي على المعونات والمواد التموينية التي تقدم إليهم شهرياً.
السور الواقي
كبقية الأراضي الفلسطينية شهد المخيم خلال الانتفاضتين الفلسطينيتين، الأولى عام 1987، والثانية عام 2000، كثيراً من المعارك الضارية، ولربما كان الحدث الأبرز في أبريل (نيسان) عام 2002، عندما شنت القوات الإسرائيلية اجتياحاً شاملاً على المخيم، مستخدمة المروحيات العسكرية و60 دبابة وعشرات الجرافات التي عملت لتوسيع الطرق وهدم المنازل وتدمير البنية التحتية، وفق ما ورد في تقرير الأمم المتحدة الصادر في مايو (أيار) 2002.
وإلى جانب مقتل ما لا يقل عن 52 مسلحاً ومدنياً فلسطينياً و23 جندياً إسرائيلياً، دمرت العملية التي أطلقت عليها إسرائيل عملية "السور الواقي" واستمرت 10 أيام متواصلة، 10 في المئة من المخيم تدميراً كاملاً، وسوي أكثر من 100 مبنى بالأرض، وتضرر نحو 800 مبنى تضرراً جزئياً، وشرد نحو أربعة آلاف شخص آنذاك.
وأوضح تقرير المنظمة الأممية، أن القوات الإسرائيلية قامت بعمليات قتل غير مشروعة داخل مخيم جنين، واستخدمت المدنيين دروعاً بشرية ومنعت أية جهة من دخوله، بما في ذلك سيارات الإسعاف والصليب الأحمر والعاملون بالقطاعين الإنساني والطبي.
وبعد انتهاء العملية التي سخرت إسرائيل خلالها كل قواها العسكرية والأمنية لاجتثاث المسلحين الفلسطينيين، واصل أهل المخيم ترميم أنفسهم على رغم الدمار، وأعادوا بمساعدات عربية ودولية بناء المخيم مرة أخرى، وتمكنت مدينة جنين من أن تطور من نفسها اقتصادياً، لكن ذلك لم يصرف شباب المخيم عن امتلاك بنادق هجومية وتصنيع وتطوير عبوات ناسفة ثقيلة وقاتلة.
كتيبة جنين
بعد سلسلة عمليات نوعية نفذها فلسطينيون في إسرائيل والضفة الغربية عام 2021، عاد مخيم جنين إلى الواجهة من جديد نظراً إلى تنفيذ أبنائه عدداً كبيراً من تلك العمليات، ووضعت إسرائيل تدمير بنيته المسلحة كأحد الأهداف الأساسية لعملية "كاسر الأمواج" التي أطلقتها في بداية أبريل (نيسان) 2022، كمحاولة لوقف هجمات الفلسطينيين ومنع حدوث المواجهات وقمعها.
وأدى ظهور "كتيبة جنين" التي يقول مراقبون إنها تضم عناصر من تنظيمات "الجهاد الإسلامي" وحركتي "حماس" و"فتح"، إضافة إلى عناصر لا تنتمي إلى أي تنظيمات سياسية، إلى تصعيد خطر في الساحة الفلسطينية، فمع "تزايد روح الثورة بين الفلسطينيين" التي يقول تقييم استراتيجي لمعهد دراسات "الأمن القومي" الإسرائيلي إنها شكلت أبرز التهديدات لإسرائيل خلال 2023 والأكثر قابلية للانفجار، شهد المخيم اجتياحاً في الثالث والرابع من يوليو (تموز) الماضي، ذكر الفلسطينيين والعالم باجتياح عام 2002، حيث استعان الجيش الإسرائيلي ضمن عمليته التي أطلق عليها "البيت والحديقة" بأكثر من 1600 جندي، وعدد من المدرعات والدبابات وطائرات الأباتشي والصواريخ وأسراب كاملة من المسيرات العسكرية ومنظومة استخبارات هائلة، بهدف "توجيه ضربة لكبار مقاتلي "كتائب جنين"، و"إنهاء دور جنين بوصفها ملاذاً للإرهاب"، و"تمهيد الطريق لعودة السلطة الفلسطينية إلى المخيم" الذي طالما وصفته إسرائيل بأنه "عش الدبابير".
وعلى رغم أن الاقتحام استمر 40 ساعة فقط، فإنه أسفر عن مقتل 12 فلسطينياً وجرح 100 آخرين، مع تدمير كبير في البنى التحتية والمنازل وتشريد ما يقارب أربعة آلاف من سكان المخيم أغلبهم من النساء والأطفال والمرضى، في مشهد أعاد إلى الأذهان مأساة النكبة عام 1948.
يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العربية الأميركية جمال حويل، وهو صاحب كتاب "معركة مخيم جنين الكبرى 2002.. التاريخ الحي"، الذي تناول معركة المخيم، إن "تجربة مخيم جنين مختلفة، فهي تعيش ظروف الوحدة والمواجهة والمقاومة وترفض التنكر لها، وتجابه مشاريع الاحتواء كلها وحملات التشكيك في جدوى المقاومة المسلحة، وتقف سداً في وجه تهديد الوحدة المجتمعية الوطنية. وفي هذا السياق أوجدت المقاومة نوعاً من الردع، وأثبتت أن غياب الأفق السياسي لن يحقق الأمن لإسرائيل".
تدمير مستمر
وفقاً لتوثيقات وزارة الأشغال الفلسطينية، تسببت العمليات العسكرية الأخيرة في المخيم بتدمير 300 منزلاً بشكل كلي، ونحو 500 بشكل جزئي، وتضرر نحو 80 في المئة من المباني، في ما أشارت بلدية جنين إلى أن الخسائر الاقتصادية الأولية جراء العملية على المدينة ومخيمها في مختلف القطاعات لا تقل عن 40 مليون دولار، وحسب معطيات رسمية، دمرت الاقتحامات لجنين ومخيمها نحو ستة كيلو مترات من خطوط المياه الرئيسة و30 في المئة من شبكات المياه الفرعية، وبينت البلدية أن أكثر من 10 محولات كهربائية دمرها الجيش كلياً، إضافة إلى تخريب خطوط كهرباء أرضية على طول ما يقارب ثمانية كيلو مترات، إلى جانب تدمير شبكة الهواتف الأرضية والصرف الصحي بشكل جسيم.
وذكرت منظمة الصحة العالمية في الأراضي الفلسطينية، أن مئات العائلات الفلسطينية في المخيم اضطرت لمغادرة منازلها جراء الدمار. مؤكدة أن قطاع الصحة في المدينة يعمل في ظروف هشة واستثنائية. ووفقاً لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، فإن الوضع القائم في جنين "يستدعي الذهاب لتنفيذ هذه العمليات والاقتحامات من وقت لآخر، وإحباط محاولات إعادة إرساء المقاومة في المخيم والحيلولة دون امتلاك الفلسطينيين هناك سلاحاً يكسر المعادلة، مثل إطلاق طائرات من دون طيار وتفجيرها في الجنود".
وقالت صحيفة "إسرائيل اليوم" في وقت سابق، إن الجيش كرر تهديداته بالهجوم على مخيم جنين ممن دون هوادة، بسبب ما قال إنه" فشل السلطة الفلسطينية وأجهزتها في السيطرة على المكان، ورفضها العمل فيه ببعض الأحيان"، ونقلت الصحيفة عن أوساط داخل الجيش أنه "مقابل كل مئة هجوم يتم إحباطه، هناك هجوم واحد ينجح، وكان العدوان الأخير في جنين مقدمة لسلسلة من العمليات التي ينبغي تنفيذها في الميدان".
ويرى الأمين العام لحزب "المبادرة الوطنية" مصطفى البرغوثي، أن "التوسع الاستيطاني المسعور، وإعلان نتنياهو نيته اجتثاث فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، عززت القناعة لدى الغالبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني بأن لا سبيل سوى المقاومة والكفاح بديلاً لنهج المفاوضات الفاشلة واتفاق أوسلو البائس، والمراهنة على أطراف خارجية".
وأضاف البرغوثي، "أدى العدوان الإسرائيلي على مخيم جنين إلى صعود جيل شاب فلسطيني أكثر عزماً وتصميماً وجرأة ومهارة والتزاماً بالمقاومة، من أي جيل مضى".
حال فريدة
ويشهد المخيم الواقع شمال الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، اقتحامات يومية تركز بشكل أساسي وكبير على تدمير البنى التحتية في جنين ومخيمها، والتي يسعى الجيش الإسرائيلي من خلالها، بحسب قوله، إلى "تقويض حال المقاومة المتصاعدة داخل مخيم جنين ومنع انتشارها إلى بقية أنحاء الضفة الغربية".
ويؤكد معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة "تل أبيب" أن ظاهرة المقاومة الفردية تتعلق بـ"وعي نضالي يتسع ويتغذى عند الفلسطينيين من ارتفاع مستوى الاحتكاك العنيف مع قوات الجيش، ومن الفراغ السلطوي للسلطة الفلسطينية".
وبرأي كثير من الباحثين والمحللين، ما زال مخيم جنين بعد مرور 20 سنة على عملية "السور الواقي"، يمثل تحدياً استراتيجياً لإسرائيل ومنظومتها الأمنية، وحال تمرد فريدة قابلة للانتشار، ونموذجاً يهدد بتقويض جميع الترتيبات السياسية، التي من الممكن أن تؤمن وضعية الهدوء والاستقرار في الضفة الغربية.