في روايته "العروس" (مكتبة ديوان - القاهرة)، يسرد حمدي الجزار، عبر راوٍ عليم، أحداثاً وقعت، في بضع ساعات وانقلبت بمقتضاها أحوال مكان عتيق ذي بُعد رمزي، في غفلة من سيده الذي لطالما كان كلي السيطرة، إلى أن وضع ثقته في مساعدٍ له، ما لبث أن أصبح هو صاحب القرار في كل صغيرة وكبيرة، تخص المكان ومنتسبيه. لا يحدد الراوي العليم تاريخ الليلة التي تقع فيها أحداث الرواية، لكنه يعطي إشارات تدل على أنها رأس السنة التي شهدت إنهاء حكم حسني مبارك تحت ضغط حراك شعبي عارم، ضمن ما يُطلق عليه "الربيع العربي". في تلك الليلة بالذات ينفذ "عمر عبد الظاهر"، ما يبدو أنه قد خطّط له جيداً بتواطؤ من جانب المحامي "باهر العقدة"، بغرض الاستيلاء على مطعم "العروس"، الذي يقع في وسط القاهرة.
يزور "عمر عبد الظاهر" أوراقاً ممهورة بتوقيع "الحاج مرزوق عشم الله"، تضمّنت منحَه منصب رئيس مجلس إدارة المطعم، على ألا يكون له نصيب في أسهم ملكيته. وبمقتضى التزوير بات يمتلك أكثر من 50 في المئة من أسهم "العروس"، وبالتالي سلب أسهم أحد أقدام الملاك وهو "الحاج فتحي أبو درقة"، وأخرجه خالي الوفاض ليموت بحسرته بعد ساعات قليلة من طلوع النهار. "مرزوق عشم الله"، يكاد يكون رمزاً أكثر منه شخصاً حقيقياً، على غرار "الجبلاوي" في رواية نجيب محفوظ "أولاد حارتنا". ومثلما تدور أحداث "أولاد حارتنا" في حارة شعبية في القاهرة، تدور غالبية أحداث "العروس" في ذلك المطعم الذي يخبرنا الراوي العليم بأنه تأسس قبل نحو سيعين عاماً على استيلاء "عمر عبد الظاهر" عليه. هو رجل غامض هكذا تصفه "نانيس واصف عزيز" التي ورثت أسهم أبيها الموسيقي المعروف في ملكية "العروس". وتقول للنحّات "إبراهيم مطر" وهو من زبائن المطعم، وتربطه بها علاقة عاطفية، تتحدى انتماء أحدهما إلى دين يختلف عن دين الآخر، ما يعقد مسألة زواجهما: "لا أحد يدري من أين أتى وكيف صار مديراً لـ "العروس" ثم رئيساً لمجلس إدارتها يقسم أرباحها كما يشتهي". قالت "نانيس" في ختام تلك الليلة العاصفة التي تخللها عشاء جمع أعضاء مجلس الإدارة وتلاه اجتماع نصّب خلاله "عمر عبد الظاهر" نفسه رئيسا لهذا المجلس، عقب استيلائه على الأسهم التي تضمن له السيطرة بلا منازع، إنها باتت على يقين من أن "العروس" في طريقها لأن تتحول إلى "ماخور".
صراع على "العروس"
كبير الندل خالد عبد الباري بدأ عمله في "العروس" وهو في الصف الأول الثانوي، وتركه بعدما تخطى الأربعين عاماً من عمره، علماً أنه قد ورثه عن والده "عبده الساقي"، ليزامل قدامى العاملين في هذا المطعم، الذي ليس مستبعداً أن يكون معادلاً لمصر الحديثة، بما شهدته من تحولات دراماتيكية، بلغت ذروة فاصلة عشية 25 يناير / كانون الثاني 2011. يضع الجزار نهاية مفتوحة على مستقبل غامض لـ "العروس" بعدما شاع خبر موت مؤسسه في بداية النهار التالي لليلة رأس السنة تلك، وظهور بوادر تمرد بين العاملين في المكان وبعض ملاكه الذين لا يزيد عددهم عن عدد أصابع اليد الواحدة، على نزوع "عمر عبد الظاهر" إلى قلب هويته رأساً على عقب، طمعاً في مضاعفة أرباحه حتى ولو جاءت من أنشطة غير قانونية.
ليلة رأس السنة التي شهدت الأحداث الأساسية في الرواية، كانت في الوقت نفسه هي الليلة التي قرر فيها "الحاج فتحي أبو درقة" المزواج أن يقترن بعروس جديدة. هو من قدامى مالكي أسهم مطعم "العروس" لكن "عمر عبد الظاهر" قرر أن يستولي على نصيبه بعدما جمعه وإياه ومعهما الملاك الآخرون "عشاء أخير". جلس عمر عبد الظاهر على رأس المائدة، عن يمينه "ثروت بك"، وإلى يساره "باهر العقدة"، وفي الطرف المقابل جلس "الحاج أبو درقة" و"نانيس". هؤلاء هم ملاك "العروس". عشاء تلاه اجتماع عاصف لمجلس الإدارة الذي يتألف من هؤلاء الخمسة، أربعة رجال وامرأة واحدة. انتهى الاجتماع بأن أبلغ "عمر" شركاءه بأنه أصبح مالكاً لأكثر من خمسين في المئة من أسهم "العروس"، وأن "فتحي أبو درقة" أصبح نصيبه صفرا وقال لهم إن هذا تم بناء على رغبة "الحاج مرزوق". مع أن الحقيقة هي أنه زوّر توقيع "الحاج" على الأوراق التي تفيد أنه راغب في إقصاء "فتحي" وتعلية أسهم "عمر".
وفي تلك الأثناء كانت "سماهر" ترقص للزبائن. هي حاصلة على ليسانس آداب قسم اجتماع، وكانت تلك هي الليلة الأولى والأخيرة لها في "العروس"، فقد فرت من المكان عائدة إلى بيت أهلها في نزلة السمان، بعدما أخبرها خالد عبد الباري أن "عمر عبد الظاهر" يريد أن يضمها إلى محظياته. "نانيس" أيضاً قررت عدم العودة إلى "العروس" بعدما أقرب مساعدي عمر عبد الظاهر ويدعى أسعد نديم بأنه قد تفقد أسهمها فيه إذا أصرت على رفض الزواج منه. قالت له قبل أن تغادر المكان في نهاية تلك الليلة العاصفة: "انت عايز أسهمي في "العروس" وورثي من بابا وجسمي فوق البيعة" صـ 214.
بناء كلاسيكي
هذا الهاجس كان له ما يؤكده عند "عمر عبد الظاهر" الذي وضع لائحة جديدة لأسعار المأكولات والمشروبات في "العروس"، قاصدا تحويله إلى نادٍ "للخاصة والكبار جداً فقط"، وفرض رئيسا جديدا للطهاة، واستأجر شخصا لقتل كبير الندل خالد عبد الباري لأنه تجرأ وقدم استقالته، رافضا أن يسهل له أمر اتخاذ الراقصة "سماهر" عشيقة. ينقل "خالد عبد الباري" الذي يهوى نظم الشِعر، إلى المستشفى بين الحياة والموت، لكن الرواية تنتهي بنجاح الأطباء في إنقاذ حياته. إذن نحن بصدد رواية ذات بناء كلاسيكي، يذكّر بروايات عدة لنجيب محفوظ، مثل "زقاق المدق"، و"ميرامار"، وأيضا "قلب الليل"، و"أولاد حارتنا"، وهذا لا يعيب الجزار، بما أنه أضفى على عمله الكثير من السمات التي تميز مشروعه الروائي الذي بدأ برواية "سحر أسود" عام 2005، والتي نالت جائزة ساويرس الثقافية فئة شباب الكتاب، ثم روايته "لذّات سرية" عام 2008، والروايتان تمت ترجمتهما إلى الإنجليزية، وروايته "الحريم" الصادرة عام 2014.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمكن اعتبار "العروس" نقلة نوعية في هذا المشروع، بما ذخرت به من أبعاد معرفية، ذات صلة بالتصوف وبالموسيقى وبالفن التشكيلي والنحت، وبالطعام والشراب، والأجواء الشعبية والأرستقراطية على حد سواء. وكذلك بما اتسمت به من لغة سردية سلسة، وبراعة في وصف الأماكن في وسط القاهرة وفي حي السيدة زينب الشعبي وحي جاردن سيتي الراقي، وحي نزلة السمان المتاخم لأهرامات الجيزة، وحي المقطّم على أطراف العاصمة شرقاً، حيث يقع قصر "مرزوق عشم الله" ذو الأسوار العالية والبوابات التي لا تفتح للعامة إلا لساعة واحدة عصر يوم الجمعة من كل أسبوع؛ ليتناولوا طعام "رجل البر والإحسان"، من دون أن تتاح لهم فرصة رؤية صاحبه، فيكتفون بالدعاء له بطول العمر.
نجح الجزار في سرد روايته بتقنية أقرب إلى التقطيع السينمائي، متنقلاً من مشهد إلى آخر، في تدفق متوازن. ونجح في رسم ملامح كل شخصية من شخصيات العمل، ذي النَفَس الملحمي، سواء كانت رئيسية أو ثانوية. ونجح كذلك في إضفاء طابع أسطوري على الحيز المركزي للأحداث التي انطوت في سياق حبكة روائية شديدة الإحكام على الرغم من محدودية ذلك الحيز، وكذلك محدودية المدى الزمني الممتد لنحو 16 ساعة متصلة تخللتها استعادة لتاريخ المكان وشخوصه الرئيسية على مدى نحو سبعة عقود.