Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جرائم من دون إسالة الدماء يرتكبها البشر في مسرحية "النقطة العمياء"

قصة دورينمات أخرجها أحمد فؤاد في مشهدية مصرية

من جو مسرحية "النقطة العمياء" المصرية (خدمة الفرقة)

هناك عديد من جرائم القتل، التي يرتكبها بعضهم من دون إسالة نقطة دم واحدة، وهي جرائم لا تستطيع المحاكم إدانة مرتكبيها، لعدم وجود أدلة مادية عليها. ربما لو تحررت العدالة القضائية من قوانينها الجامدة، لدانت كثير من أولئك القتلة، الذين يرتكبون جرائمهم باحترافية شديدة، تتيح لهم الإفلات من العقوبة، بل وحتى الإفلات من تأنيب ضمائرهم لهم، فهم في نظر أنفسهم أبرياء أنقياء.

تعد قصة "العطب" واحدة من أشهر القصص التي أبدعها الكاتب السويسري فريدرش دورينمات (1921- 1990)، وعالجت مثل هذه القضية. القصة ترجمها إلى العربية سمير جريس، الذي لعب دوراً مهماً في تقريب دورينمات إلى القارئ العربي بترجمته المتعددة لأعماله، وقدمت كمسرحية إذاعية في مصر، كما قدمت في حلقة تلفزيونية أعدها يسري الجندي بعنوان "ليلة القتل الأبيض" وقدمتها كذلك بعض الفرق المسرحية الخاصة.

المخرج المصري أحمد فؤاد قدم هذه المسرحية مع فرقة مسرح الغد (البيت الفني للمسرح - وزارة الثقافة) بعنوان "النقطة العميا"، وهي تلك النقطة التي يقول عنها في تقديمه لعرضه: "إنها النقطة التي يسمح العقل عندها تلقائياً، أي خطأ يحاول الضمير تسجيله، النقطة التي يخفي عندها العقل عن الضمير كل أفعالنا مهما كانت شريرة، النقطة التي لو اكتشفت فستغير سير الأحداث 180 درجة".

التحرر من القيود

في نص دورينمات تتعطل سيارة ألفريدو ترابس، تاجر الأقمشة، في إحدى المدن الصغيرة، تطلب إصلاحها وقتاً طويلاً، وكان عليه أن يبيت ليلته في تلك المدينة، انتظاراً لإصلاح السيارة. لم يجد غرفة شاغرة في فندق البلدة، فنصحه مدير الفندق بالذهاب إلى بيت القاضي المتقاعد فيرغين، فهو يرحب باستضافة الغرباء. اعتاد القاضي فيرغين، هو وبعض أصدقائه، ومنهم وكيل نيابة ومحام وجلاد، جميعهم متقاعدون، ممارسة لعبة كل ليلة، بأن يختاروا إحدى الشخصيات لمحاكمتها، سواء أكانت شخصية تاريخية، أو شخصية على قيد الحياة، تحضر المحاكمة بنفسها.

الغرض من اللعبة هو ممارسة مهنهم القديمة، بعيداً من روتين العدالة التقليدية، متحررين من كل القيود، بعد أن اكتشفوا أن هناك جرائم لا تستطيع تلك العدالة التقليدية إثباتها على مرتكبيها.

هي ليست مجرد لعبة الهدف منها انتقاد القوانين الجامدة فحسب، بل إن الهدف الرئيس من القصة هو كشف عن التدني الأخلاقي، عندما يغيب الضمير، وتنعدم الرحمة والإنسانية، كأن يصبح كل شيء مبرراً. وكذلك إدانة العصر (القصة كتبت في أوائل خمسينيات القرن المنقضي) الذي أصبح فيه التنافس شديداً وغير أخلاقي بين كبار التجار.

أسئلة متلاحقة

يرحب القاضي بضيفه ويطلب منه مشاركتهم في اللعبة، التي كادوا ينصرفون عنها تلك الليلة، نظراً إلى عدم وجود شخص يقوم بدور المتهم.

ألفريدو ترابس يؤكد لهم أن صفحته بيضاء تماماً، فهو لم يرتكب جريمة في حياته، لكن سير التحقيقات وأسئلة وكيل النيابة المتلاحقة والنافذة، تكشف له عما يخفيه عقله عن ضميره، فهو تسبب في قتل رئيسه في العمل، وخانه مع زوجته، التي استغل انشغاله عنها، وعرف كل أسراره من خلالها. بل إنه، إمعاناً في تحطيم هذا الرئيس، يطلب من أحد أصدقائه أن يخبره بخيانة زوجته له، مما أدى في النهاية إلى موت هذا الرئيس إثر أزمة قلبية. لم يحتمل قلبه خيانة زوجته، التي كان يثق في إخلاصها له، وكذلك كساد تجارته، بعد أن اتصل ألفريدو بعملائه سراً وعقد معهم الصفقات بعيداً من هذا الرئيس.

تدين المحكمة ألفريدو بتهمة القتل، بعد أن اعترف في النهاية بأنه قاتل، ويصدر الحكم عليه بالإعدام. وتنتهي القصة باستيقاظه من النوم، في بيت القاضي، ليكتشف أن الأمر كان مجرد لعبة، وأنه ما زال على قيد الحياة، ليعود لممارسة حياته، بالطريقة نفسها في التحايل والخداع، وكأن شيئاً لم يحدث خلال المحاكمة.

لهجة مصرية

أعد المخرج نص العرض باللهجة المصرية، وحذف شخصية الجلاد أو دمجها في شخصية الخادمة، التي صارت خادمة وجلاداً في الوقت نفسه. وغير في صفات القاضي ووكيل النيابة والمحامي، وجعلهم خبراء قانون، كانوا يعملون في إحدى الجامعات وتقاعدوا. ربما فعل ذلك هرباً من الرقابة التي تتحفظ، من دون مبرر، على تناول شخصيات القضاة في أعمال فنية، وأطلق عليهم أسماء عربية، وأغلق العرض على وقوف ألفريدو تحت حبل المشنقة، فلم نعرف هل نفذ حكم الإعدام بالفعل، أم أن الأمر كان معنوياً فحسب.

هذه التغييرات لم تؤثر كثيراً في الرؤية الكلية للنص الأصلي، التي حافظ المخرج عليها، وإن قدمها من زاويته الخاصة، فكرياً وجمالياً، واجتهد كثيراً في صياغتها مسرحياً. واعتمد فكرة التشويق والإثارة، التي أغنت العرض، وجعلت الجمهور منتبهاً طوال الأحداث، في انتظار ما ستسفر عنه المحاكمة.

إن هناك عديداً من الجرائم التي نرتكبها من دون أن تستطيع المحاكم إدانتنا وإصدار حكمها العادل علينا، ومن دون أن نشعر بأية لحظات ندم عليها. ذلك أن العقل يحجب عن الضمير مثل تلك الجرائم، أو ربما يتواطأ معه لحجبها، وما العطب الذي أصاب سيارة المتهم سوى العطب الذي أصاب ضميره.

اختيار اللهجة المصرية أسهم في تقريب مغزى العرض إلى الجمهور البسيط، ومنح الفرصة للممثلين بأن ينشغلوا أكثر بتجسيد شخصياتهم بعيداً من الانشغال بضبط اللغة.

قاعة صغيرة

كان المخرج واعياً إلى طبيعة قاعة مسرح الغد، سواء من حيث رسم خطوط الحركة، أو من حيث الأداء التمثيلي واستخدام كل ممثل جهازه الصوتي بما يناسب قاعة صغيرة يلتحم فيها الممثلون تقريباً بالجمهور، فجاء الأداء التمثيلي ذكياً ومدركاً طبيعة المكان.

لعب نور محمود دور تاجر الأقمشة النرجسي القاتل، الذي يصعد على جثث الآخرين، بفهم عميق لطبيعة هذه الشخصية التي بلا ضمير، ويمكنها أن تفعل أي شيء يحقق مصالحها، من دون أن تفكر، ولو للحظة واحدة، في إدانة نفسها، أو التراجع عن شرورها. هي شخصية لا علاج لها، كما يؤكد الطب النفسي، وهو ما أدركه نور محمود في تجسيده لها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هشام فياض لعب دور القاضي، كان هادئاً ووقوراً في أدائه باعتباره يجسد شخصية رئيسة مهيمنة، لكنها تؤمن بأن القوانين التقليدية الجامدة لا يمكنها تحقيق العدالة. المحامي (أحمد السلكاوي) في حركته وانفعالاته وتوتراته أحياناً، عبر بوعي عن طبيعة الشخصية التي تسعى إلى تبرئة موكلها بكل الحيل والألاعيب، ولو بالكذب.وأظهر أحمد عثمان (لعب دور وكيل النيابة) قدرته على تجسيد شخصية ممثل الادعاء، الذي ينتزع الاعترافات من المتهم باحترافية ودهاء.وكانت هايدي بركات (الخادمة والجلاد) واعية لتركيبة الشخصية في هدوئها وغموضها المحسوبين بدقة، ومعهم عمر صلاح الدين في دور الميكانيكي خفيف الظل.

اكتفى مصمم الديكور، أحمد أمين، بمنظر واقعي واحد، ثابت، في مستويين، المستوى الأول عبارة عن بهو بيت القاضي، والآخر على ارتفاع نحو مترين يمثل غرفة المحكوم عليهم بالإعدام. واستخدم النوافذ في العمق لتنفيذ بعض المشاهد وكأننا بصدد "سلويت" وأسهمت الإضاءة (أبو بكر الشريف) في إضفاء دلالة نفسية على الشخصيات، بتعدد ألوانها ومساقطها وبؤرها، فضلاً عن الجاذبية الخاصة التي أضفتها على الصورة المسرحية، وقدرتها على إبراز التفاصيل الدقيقة في العرض.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة