ملخص
هل ستنجح محاولات أميركا وحلفائها في إزالة الأخطار المتصاعدة بعد هجمات الحوثيين بالبحر الأحمر؟
تمر من قناة السويس 12 في المئة من حركة التجارة العالمية و30 في المئة من شحن الحاويات بينما يمر من قناة بنما نحو خمسة في المئة من حجم التجارة العالمي، لكن منذ بدء الحوثيين هجماتهم على سفن الشحن التجارية يواجه العالم أخطاراً متزايدة على سلاسل الإمداد الدولية، مما ينذر بارتفاع الكلف ويهدد الاقتصاد العالمي الذي كان قد بدأ في التعافي من تداعيات التضخم وحرب أوكرانيا ووباء كورونا.
إذاً فما الأخطار التي تصاعدت بعد هجمات الحوثيين على السفن التجارية عند باب المندب؟ وهل ستنجح محاولات أميركا وحلفائها في إزالة هذه الأخطار؟
مرحلة جديدة وخطرة
عندما هاجم الحوثيون سفينة "غالاكسي ليدر" التجارية المرتبطة برجل أعمال إسرائيلي في الـ19 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، كان من الواضح أن الشحن البحري العالمي دخل مرحلة جديدة وخطرة، إذ لم تنجح فقط ميليشيات الحوثي في الاستيلاء على ناقلة كبيرة تبحر في البحر الأحمر واحتجاز طاقمها كرهائن، بل صورت أيضاً العملية التي حظيت باهتمام دولي هائل.
ببساطة كانت الرسالة التي أراد الحوثيون إيصالها إلى العالم أنهم يستطيعون استهداف أي سفينة يريدونها، ومنذ ذلك الحين تسارعت الهجمات بمعدل غير عادي لدرجة أن أكبر شركات الشحن في العالم لم تعد تبحر عبر البحر الأحمر.
وكان هذا نتيجة طبيعية بعدما تبين أن الهجمات تطاول جميع أنواع السفن التي تعبر باب المندب بالصواريخ أو الطائرات المسيرة أو محاولات الاستيلاء عليها. وعلى سبيل المثال، أطلق الحوثيون صاروخاً في الـ12 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري على الناقلة النرويجية "ستريندا"، زاعمين أنها كانت متجهة إلى إسرائيل بينما كانت في الواقع في طريقها إلى إيطاليا.
وبعد ذلك بيومين، استهدفوا ناقلة مملوكة لخط الشحن الدنماركي "موللر ميرسك"، وفي اليوم التالي، استهدفوا سفينة حاويات مملوكة لشرك "هاباغ لويد" الألمانية، وفي الـ18 من ديسمبر أصيبت ثلاث سفن أخرى في البحر الأحمر، بما في ذلك ناقلة المواد الكيماوية "سوان أتلانتيك" التي ترفع علم جزر كايمان.
مساعدة خجولة
وعلى رغم محاولات السفن الحربية الغربية بقيادة الولايات المتحدة مساعدة السفن التجارية وحمايتها عندما أسقطت مدمرة الصواريخ الأميركية "كارني" 14 طائرة مسيرة أطلقت من اليمن على سفن تجارية عدة، وأسقطت المدمرة البريطانية "دايموند" صاروخاً حوثياً أطلق على ناقلة نفط، واعتراض الفرقاطة "لانغودو" التابعة للبحرية الفرنسية طائرة مسيرة حوثية أخرى، فإن هذه المساعدة لم تهدئ من حدة القلق المتزايد بسرعة بين خطوط الشحن العالمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومنتصف الشهر الجاري، أعلنت شركتا "ميرسك" و"هاباغ لويد" تحويل سفنهما بعيداً من البحر الأحمر. وبعد ذلك بيومين، دخلت شركة "سي أم أي سي جي أم" الفرنسية، والشركة السويسرية العملاقة "أم أس سي"، والصينية "يانغ مينغ" و"بريتيش بتروليوم" البريطانية، التي تمثل جميعاً أكثر من 60 في المئة من الشحن البحري العالمي، في هجرة جماعية بعيداً من الشريط المائي الشهير الذي يربط البحر المتوسط عبر قناة السويس بمضيق باب المندب والمحيط الهندي.
قناة السويس
وبسبب أهمية هذا الشريان الذي تشكل مع افتتاح قناة السويس عام 1869 بما أتاح مرور البضائع والبترول من آسيا والشرق الأوسط إلى أوروبا والولايات المتحدة، خاضت بريطانيا وقوى عالمية أخرى حروباً وانخرطت في مؤامرات جيوسياسية للسيطرة على القناة التي أممتها مصر قبل نحو 70 عاماً، ولم تتوقف القناة عن تقديم خدماتها الحيوية للعالم سوى ثماني سنوات فقط في الفترة التي أعقبت حرب يونيو (حزيران) 1967 وحتى إعادة افتتاحها عام 1975.
لكن مع تزايد حجم التجارة الدولية وتشابك المصالح وتعدد منافذ الإنتاج والتوزيع في العقود الأخيرة تزايدت أهمية القناة، إذ تمر بها يومياً نحو 50 سفينة تنقل ما قيمته 3 إلى 9 مليارات دولار من البضائع.
وقبل ما يزيد على عامين كانت قناة السويس مصدر ذعر لسلاسل التوريد العالمية بحسب وصف صحيفة "نيويورك تايمز"، حينما ظلت إحدى أكبر سفن الحاويات التي تم بناؤها في العالم "إيفر غيفن" عالقة لأيام عدة في القناة، مما منع السفن الأخرى من استخدام هذا الممر الحيوي في وقت كانت فيه سلاسل التوريد غارقة في الطلب الهائل على الأجهزة المنزلية والإلكترونيات والسلع الأخرى خلال وباء كورونا.
قناة بنما
ولا تعد قناة السويس وباب المندب ممر الشحن العالمي الوحيد الواقع تحت الضغط، إذ اضطر مشغلو قناة بنما حالياً وهي حلقة مهمة أخرى في سلاسل التوريد العالمية، إلى خفض عدد السفن التي يمكنها استخدام هذا الممر المائي بسبب خفض منسوب المياه الناجم عن الجفاف.
وعلى عكس قناة السويس، تستخدم قناة بنما وسائل أخرى ترفع السفن لأعلى ولأسفل أثناء عبورها من المحيط الهادئ إلى الأطلسي أو العكس، لكن نقص الأمطار أدى إلى خفض كمية المياه المتاحة لملء الأهوسة، ودفع تباطؤ مرور السفن في قناة بنما بعض شركات الشحن التي تنقل البضائع من آسيا إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة إلى إرسال السفن عبر قناة السويس بدلاً من ذلك، لكن المشكلات في البحر الأحمر يمكن أن تجبرهم الآن على الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، مما يؤدي إلى إطالة تلك الرحلات بشكل أكبر.
وعلى رغم أن قناة بنما تراجعت في وقت سابق هذا الشهر عن تخفيض عدد السفن المسموح لها بالعبور وهو 20 سفينة يومياً، لتقول إنها زادت العدد بدلاً من ذلك ليكون 24، فإن مشكلة الجفاف ليس لها حل قريب، كما أنها لا يمكن أن تسهم في حل الأزمة في البحر الأحمر، ولم تشهد أي زيادة منذ بدأ الحوثيون مهاجمة السفن.
كلفة إضافية
ويعني تحول البضائع والنفط عبر طريق الرجاء الصالح الذي يستغرق من 10 أيام إضافية إلى 14 يوماً بحسب سرعة السفينة وميناء الوصول، زيادة كبيرة على المستهلك النهائي في دول العالم، ذلك أن هذا الطريق يمكن أن يضيف ما يقارب مليون دولار، أو نحو ثلث الكلفة لكل سفينة خلال رحلتي الذهاب والإياب من آسيا إلى أوروبا، وفقاً لكبير المحللين في شركة "زينيتا" بيتر ساند الذي أوضح أن بعض أسعار الشحن ارتفعت بنسبة 20 في المئة في الأيام الأخيرة.
وأدت الهجمات إلى ارتفاع أسعار النفط بنسبة محدودة بسبب خفض الطلب حالياً، بينما قفزت أسعار الغاز الطبيعي لأوروبا بنسبة سبعة في المئة بعد أنباء عن تعليق شركة "بريتيش بتروليوم" شحناتها من الغاز الطبيعي المسال إلى البحر الأحمر.
وتشير محللة الطاقة والاقتصاد في مركز الأمن الأميركي الجديد، راشيل زيمبا، إلى أن الاضطراب الحالي يأتي في وقت اضطرت فيه عديد من الاقتصادات الأوروبية إلى زيادة اعتمادها على النفط والغاز الطبيعي المنقول بالسفن، ومعظمه من الشرق الأوسط في محاولة لإبعاد أنفسهم عن خطوط الأنابيب الروسية، وفي الوقت نفسه زادت روسيا صادراتها النفطية إلى الهند والصين وأسواق أخرى في آسيا، إذ ينتقل جزء كبير من هذا النفط من طريق السفن عبر البحر الأحمر أيضاً مما يعني اعتماداً أكبر على الشحن.
ويعد الإبحار من آسيا إلى أوروبا عبر رأس الرجاء الصالح بدلاً من قناة السويس تحويلاً من شأنه أن يطيل الرحلة من سنغافورة إلى روتردام في هولندا بمقدار 3300 ميل، أو ما يقارب 40 في المئة، أما السفن التي تواصل طريقها المعتاد عبر البحر الأحمر وقناة السويس، فأدى استهداف الشحن بشكل مباشر إلى ارتفاع أقساط التأمين، وارتفعت بالفعل للسفن التي تعبر البحر الأحمر من 0.07 في المئة إلى معدلات تصل إلى 0.7 في المئة من قيمة حمولة السفينة، وفقاً للمدير التنفيذي المسؤول عن الشحن في شركة وساطة التأمين العالمية، الذي اعتبر أنه معدل مرتفع للغاية يقل قليلاً عن أعلى معدلات أخطار حرب أوكرانيا التي وصلت في موانئ روسيا وأوكرانيا إلى نحو واحد في المئة.
ويعني ذلك أن السفينة التي تحمل بضائع بقيمة مليون دولار عبر البحر الأحمر تدفع 70 ألف دولار تأميناً ضد أخطار الحرب وحدها، وسيمرر أصحاب السفن هذه الكلفة إلى المستهلك النهائي.
اضطراب لوجيستي واقتصادي
وتعني الطرق الأطول أيضاً حدوث اضطراب لوجيستي في سلاسل التوريد العالمية التي يبدو أنها تدخل إلى المنطقة نفسها التي كانت عليها أثناء جائحة كورونا وبعد أزمة السفينة "إيفر غيفن"، وهي أخبار ليست سارة للاقتصاد العالمي، إذ سيتعين على الناس الانتظار لفترة أطول للحصول على بضائعهم.
ومن شأن انقطاع الشحن في البحر الأحمر أن يخلق رياحاً معاكسة قوية للاقتصاد العالمي الذي لا يزال يتعافى من الصدمات المختلفة منذ عام 2020، مثل جائحة كورونا، والحرب الروسية - الأوكرانية، والتشديد النقدي الكبير من قبل البنوك المركزية الكبرى.
وقد يسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز الإبقاء على التضخم الإجمالي مرتفعاً، بما يعقد جهود البنوك المركزية للتحول إلى التيسير النقدي، كما ستكون المناطق المستوردة للطاقة هي الأكثر معاناة، ولا سيما البلدان المنخفضة الدخل ودول أوروبا التي تتأرجح على حافة الركود.
الخاسر الأكبر
إضافة إلى الاضطراب في خطوط الشحن فإن هناك خاسراً واضحاً من حرب الناقلات وهي مصر بحسب إليزابيث براو في مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي"، خصوصاً أن هيئة قناة السويس توفر أحد أهم مصادر الدخل وأكثرها استقراراً في البلاد، الذي وصل إلى 9.4 مليار دولار سنوياً حتى يونيو الماضي، عبر حصيلة إيرادات القناة من 25887 سفينة، ارتفاعاً من 23800 خلال السنة المالية السابقة.
ولهذا ليس من المستغرب أن يبذل رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع قصارى جهده لبث الطمأنينة لشركات الشحن بأن الأخطار التي تواجه السفن في قناة السويس يمكن التحكم فيها، لكن السؤال هو كيف سترد القاهرة على المأزق الذي يشكله صراع الناقلات والضرر الذي يسببه للبلاد، بخاصة أن البعض يخشى من أن يؤدي خطر انفجار حرب الناقلات إلى ضرر أكبر وأوسع انتشاراً؟ وفقاً لـ"فورين بوليس".
وفيما زاد التأثير الاقتصادي من الضغوط على الولايات المتحدة وحلفائها لوقف هجمات الحوثيين، اعتبر مسؤولون تنفيذيون في مجال الشحن أن تشكيل قوة العمل البحرية بقيادة أميركا ضمن عملية "حارس الازدهار" يمكن أن يسهم في تحقيق استقرار للوضع في البحر الأحمر.
هل تزول الأخطار؟
خلال اليومين الماضيين، توقعت وسائل إعلام أميركية شن هجمات ضد مواقع الحوثيين من قوة العمل البحرية المشكلة حديثاً ضمن عملية "حارس الازدهار"، غير أنها معلومات لم يؤكدها أي مسؤول أميركي أو غربي.
بعض المراقبين اعتبروا أن مهمة حماية الشحن في البحر الأحمر لن تكون قادرة على استعادة الهدوء بشكل كامل في المياه المتلاطمة، إذ يتعين على السفن البحرية المشاركة في العملية أن تتصرف بضبط النفس خشية أن تؤدي من طريق الخطأ إلى صراع مع الحوثيين، وإذا استخدموا القوة ضدهم من طريق إطلاق صواريخ انتقامية مثلما حدث عام 2016 في نهاية عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، فإن ذلك لا يزال يترك السفن التجارية عرضة لأي رد يقرر الحوثيون القيام به.
ووفقاً لموقع "فوكس"، أظهرت بعض هجمات الحوثيين قدرات تقنية جديدة، بما في ذلك ما قد يكون أول استخدام قتالي على الإطلاق لصاروخ باليستي مضاد للسفن من قبل أي جيش، وهي صواريخ تنتقل على ارتفاعات أعلى بكثير وبسرعات أكبر من صواريخ كروز، مما يوسع بشكل كبير النطاق الذي يمكن أن تضرب به السفن وتجعل عديداً من الدفاعات الحالية قديمة، على رغم أن النماذج التي تستخدمها تلك الميليشيات أقل تطوراً من تلك التي اختبرتها دول مثل الصين.
ووفقاً للباحث في المجلس الأطلسي، المدير التنفيذي السابق في معهد التمويل الدولي هونغ تران، فإنه من الصعب أن تحمي عملية "حارس الازدهار" السفن التجارية بشكل كامل من الهجمات الصاروخية أو التهديد بها، لأنه لا توجد قوة بحرية كبيرة بما يكفي لتوفير مرافقة لجميع السفن التجارية التي قد تحتاج إليها، كما أن قصف مواقع صواريخ الحوثيين على الأراضي اليمنية من شأنه أن يوسع نطاق الصراع، ومن المحتمل أن يتسبب في سقوط ضحايا من المدنيين، مما يزيد من تأجيج الرأي العام الدولي وانقسامه.
وفي حين تعاونت القوات البحرية الأميركية والصينية في المنطقة من قبل، بما في ذلك في الجهود المبذولة لمكافحة القرصنة الصومالية قبل عقد من الزمن، فإن التوترات الجيوسياسية بين البلدين لا تزال أعلى بكثير الآن، وهو ما يعوق انضمام الصين إلى العملية العسكرية على رغم أن لديها قاعدة عسكرية في جيبوتي المجاورة وتعتمد بشكل كبير على استيراد نفط الشرق الأوسط وتصدير السلع الاستهلاكية إلى أوروبا عبر السفن.
وعلاوة على ذلك، ظلت الولايات المتحدة التي دعمت عملية السلام في اليمن مترددة في أن تكون سبباً في انهيار وقف إطلاق النار الهش بين الحكومة اليمينة المعترف بها دولياً والحوثيين من خلال شن عملية عسكرية في هذا البلد العربي.
المشكلة الكبرى
لكن المشكلة الكبرى الآن تبدو في أن تلهم حملة الحوثيين في البحر الأحمر أطرافاً أخرى تسعى إلى الشهرة والنفوذ من خلال شن هجمات على سفن الشحن البحري، التي تعد هدفاً جذاباً للغاية في مياه الشرق الأوسط المضطربة من الناحية الجيوسياسية.
وكلما طال أمد الحرب في غزة استمرت أخطار انقطاعات الشحن الناجمة عن الهجمات الصاروخية في البحر الأحمر لفترة أطول، ويكمن الخطر في أن يؤدي اتساع نطاق الصراع مع إصرار الحوثيين على استكمال استهدافهم سفن الشحن إلى زيادة زعزعة الاستقرار، ومن ثم يمتد إلى الاقتصاد العالمي.
ومهما تم حل الوضع فقد تكون له تداعيات دائمة تتجاوز نطاق البحر الأحمر، إذ لا يزال الاقتصاد العالمي يعتمد على الشحن البحري كما كان دائماً، فهو يمثل نحو 80 في المئة من التجارة العالمية.
وبين انقطاع شحن الحبوب عبر البحر الأسود نتيجة الحصار البحري الذي فرضته روسيا على أوكرانيا وعمليات الحوثيين في البحر الأحمر، قدمت السنوات الأخيرة دليلاً واضحاً على الكيفية التي يمكن بها للصراع المسلح أن يعطل التجارة الدولية بينما تعاني دول العالم تداعياتها الخطرة.