ملخص
سيحظى التقارب بين اليمين المتطرف واليسار الأوروبي في شأن المهاجرين واللاجئين خلال العام الحالي بقدرة أكبر على المجاهرة والبوح بما كان حبيس الصدور وسجين الغرف المغلقة لتحقيق سياسة "صفر لاجئين"
خفتت أخبار المراكب الغارقة في المتوسط بحمولتها من المهاجرين الهاربين من أتون الحروب أو أنياب الفقر أو كليهما، ربما تحت وطأة ثقل حرب القطاع وتبعاتها من الجبهات التي انفتحت على مصاريعها بين الحوثيين في اليمن و"حزب الله" في لبنان "متطوعة" في العراق وسوريا، لكن "حمولة" المهاجرين الحاليين والمستقبليين لم تخفت. لعلها توارت بفعل الأضواء المسلطة على الحرب في غزة، لكنها موجودة وراسخة، بل مرشحة للزيادة والخضوع لـ"نيو لوك".
استمرار المسار
مسار الهجرة واللجوء المستمر عبر المتوسط، إضافة إلى توقعات بأن تحل "المراكب الصغيرة" محل الكبيرة في 2024، يقابله مسار يتجه بثقة وسرعة صوب اليمين المتشدد في الدول الأوروبية، لا سيما تلك التي كانت الأكثر استقبالاً للاجئين والمهاجرين على مدى العقود القليلة الماضية لا سيما عقد ما بعد "الربيع العربي".
قبل أسابيع ترددت أنباء عن أن حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتشدد (الشعبوي) يجري اجتماعات مع حزب نمسوي يميني، إضافة إلى "نازيين جدد" ورجال أعمال، لبحث سبل تفعيل "الهجرة العكسية"، أي إعادة أعداد ضخمة من طالبي اللجوء، وكذلك الحاصلون على الجنسية الألمانية ممن لم يندمجوا في المجتمع الألماني إلى حيث أتوا.
وبعد تناقل الأنباء وظهور أصوات منددة ورافضة لتوجه "طرد الأجانب"، قال حزب "البديل من أجل ألمانيا" إنه بالفعل يناقش مسألة "الهجرة العكسية"، لكن ليس الطرد الجماعي للأجانب.
وفق وكالة الأنباء الفرنسية كان على رأس الحضور المؤسس المشارك لـ"حركة الهوية النمسوية" مارتن سيلنر، الذي قال إنه قدم في هذا الاجتماع كتابه ورؤيته لـ"هوية إعادة التهجير"، وهو المصطلح الذي تستخدمه الجماعات المعادية للأجانب في الدول الأوروبية.
بعدها بأيام، وافق البرلمان الفرنسي على مشروع قانون للهجرة يعزز قدرة فرنسا على ترحيل الأشخاص "غير المرغوب فيهم"، وهو المشروع الذي باركه ودعمه اليمين المتطرف الفرنسي.
عقب صدوره، تم توجيه اتهامات من قبل اليسار لحزب "النهضة" الوسطي الذي يتزعمه رئيس الوزراء إيمانويل ماكرون بتقديم تنازلات لليمين المتطرف. وبالطبع رحب "حزب التجمع الوطني" اليميني بزعامة مارين لوبن بالخطوة التضييقية الجديدة.
خطوات للتضييق
خطوات التضييق في القارة الأوروبية كثيرة ومتوقع لها الزيادة في هذا العام. فقبل فرنسا، عملت بريطانيا على مدى أشهر طويلة لتضييق الخناق على وصول المهاجرين واللاجئين إليها، تارة عبر اتفاقات مع فرنسا لمكافحة الهجرة غير النظامية، لا سيما أن مسار الهجرة إليها عبر فرنسا هو الأكثر شعبية، وأخرى بتبادل الاتهامات معها حول المتسبب في استمرار التدفق، وثالثة عبر اللجوء لدولة ثالثة هي رواندا لإبعاد اللاجئين إليها.
ووسط الانشغال الدولي في حرب القطاع خطا مشروع قانون يتيح للحكومة ترحيل المهاجرين القادمين إلى بريطانيا بشكل غير نظامي إلى رواندا أولى العقبات القانونية بعد ما تم إقراره الشهر الماضي، "لوضع حد لقوارب المهاجرين الوافدين عبر بحر المانش"، بحسب ما غرد رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك.
إجازة ترحيل طالبي الهجرة واللجوء من بريطانيا إلى رواندا انتصار جديد للتيارات اليمينية، لكنه ليس الوحيد. الدنمارك سارت في الطريق نفسه محاولة الوصول إلى شكل ما يمكنها من ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا أيضاً.
صفر لاجئين
وعلى رغم توقف هذا الاتجاه العام الماضي، فإن الهدف المعلن من قبل الحكومة الدنماركية الحالية ما زال الوصول إلى مرحلة "صفر لاجئين" أو "صفر لجوء"، أي عدم أو تقليص دخول لاجئين جدد إلى البلاد، وتشجيع اللاجئين الذين يغادرون أراضيها طوعاً بالبقاء أينما ذهبوا عبر تقديم دعم مالي لهم.
وفي هولندا فاز حزب "الحرية" اليميني المتطرف في الانتخابات التشريعية قبل أسابيع. ويعتقد أن خطاب زعيم الحزب خيرت فيلدرز المعروف قبل الانتخابات والمعادي للمهاجرين لقي هوى في قلوب كثير من الناخبين الهولنديين.
وسبقهم إلى اختيار اليمين المتشدد الناخبون الإيطاليون الذين رجحوا كفة اليمين المتطرف في كراهيته ومعاداة اللجوء والهجرة. فوز رئيسة حزب "إخوان إيطاليا" جورجيا ميلوني في الانتخابات التشريعية عام 2022 شكل مفاجأة سعيدة للبعض الرافض لموجات الهجرة واستقبال طالبي اللجوء، وشكل صدمة مفجعة للمرحبين بهم.
صدمات مشابهة في سطوع نجم التيارات اليمينية تشهدها دول أخرى بدرجات متفاوتة، بينها فنلندا والسويد واليونان وإسبانيا.
صدمات ووجهات
وبعيداً من الصدمات، فإن ما يجري في عديد من الدول الأوروبية، "وجهة" المهاجرين واللاجئين منذ سنوات، وضيق صدر واقتصاد كثير من هذه الدول بموجات الهجرة الراغبة في القدوم إليها إضافة إلى ترجيح كفة قادمين جدد تحديداً من أوكرانيا أكثر من غيرهم، مع تفاقم الصراعات والأوضاع في الدول المصدرة للراغبين في النجاة بأنفسهم وأسرهم، أو بحثاً عن حياة أفضل أو كليهما، كل هذا وغيره ساعد في سطوع نجم أحزاب وتيارات اليمين المتطرف على حساب اليسار والوسط.
وسط هذه الأوضاع المستمرة والمتفاقمة خفت الحديث والاهتمام بملف الهجرة غير النظامية واللجوء من الجنوب صوب الشمال، وتحديداً مسار البحر المتوسط المصنف ضمن أخطر وأزحم مسارات الهجرة غير النظامية، المسماة إعلامياً "غير الشرعية".
إنه المسار المتعدد والمتشعب. نحو 90 في المئة ممن يحاولون الوصول إلى أوروبا عبر شرق وغرب ووسط المتوسط يأتون من 10 دول هي، من الأكثر للأقل عدداً، سوريا وأفغانستان وإريتريا ونيجيريا وباكستان والعراق والصومال والسودان وغامبيا وبنغلاديش.
لم يحدث في هذه الدول وغيرها من الدول المصدرة للمهاجرين وطالبي اللجوء تغيرات تنبئ بتوقف أو تقليص الأعداد المتوجهة من الجنوب صوب الشمال في عام 2024. ما يحدث فقط هو تصاعد جهود الدول الأوروبية لوقف طوفان اللجوء والهجرة مع اتخاذ خطوات "قانونية" ودبلوماسية ومادية لضمان التفعيل، إضافة إلى دور لا يمكن إنكاره أو التقليل من شأنه لتيارات اليمين المتشدد في إغلاق "صنبور" الهجرة في 2024.
اليمين مكون فاعل
ويكفي أن اليمين بات مكوناً فاعلاً في مختلف أنواع الانتخابات الأوروبية، سواء الوطنية أو على مستوى الاتحاد الأوروبي، وفي القلب منه "وعود" تقليص الهجرة. ولعل ما قالته زعيمة حزب التجمع الوطني المنتمي إلى اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبن، التي وصفت مشروع قانون الهجرة الفرنسي الجديد بـ"النصر الأيديولوجي الذي لا يمكن إنكاره" يلخص جزءاً كبيراً من مشهد الهجرة واليمين في 2024.
انشغلت دوائر التحليل السياسي خلال العام الماضي بمناقشة، هل أدت موجات الهجرة عبر المتوسط إلى بزوغ نجم اليمين المتطرف في أوروبا؟ أم أن اليمين المتطرف كسب أرضية وشعبية بعدما استخدم موجات الهجرة سلاحاً وأداة؟
وسواء هذا أو ذاك، المؤكد هو العلاقة الوثيقة بينهما. والمؤكد أيضاً أن فائدة سياسية كبرى تتحقق لليمين بفضل ملف الهجرة واللجوء.
يشير الكاتب غيديون راتشمان في مقال منشور في "فايننشال تايمز" تحت عنوان "اليمين المتطرف ينتقل إلى التيار الرئيس في أوروبا" نشر في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى مفارقة مثيرة للاهتمام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الآراء والمواقف الشديدة العداء للإسلام والمهاجرين التي يجاهر بها السياسي الهولندي خيرت فيلدرز دفعته إلى العيش في "منازل آمنة" محاطاً بحراس شخصيين لنحو عقدين من الزمان خوفاً على حياته. اليوم يقفز فيلدرز إلى واجهة ومقدمة المشهد السياسي الهولندي ويتصدر حزبه اليميني المتطرف المشهد، وربما يصبح رئيساً للوزراء.
ويرى راشتمان أن هذا التحول يشكل جزءاً من نمط واضح في أوروبا كلها. "الجماعات السياسية التي تم استبعادها ذات يوم باعتبارها يمينية هامشية متشددة هامشية تكتسب مساحات شعبية كبيرة، ووصل بعضها إلى السلطة".
وعلى رغم أن الكاتب لا يرى في هذا الصعود ما يشكل خطراً حقيقياً على الديمقراطية الأوروبية، فإنه يرى قدرة صعود اليمين الواضحة على جذب الحراك السياسي إلى صالحها، وذلك على أرضية العداء للمهاجرين، لا سيما المسلمين. ويرى الكاتب أن الظروف الحالية من زيادة في أعداد الهجرة غير النظامية (غير القانونية) إلى أوروبا مما دفع بعديد من السياسيين الأوروبيين من غير المنتمين لليمين المتطرف إلى الانضمام للأصوات المطالبة بتخفيضات حادة في الأعداد التي يتم استقبالها.
تآلف المختلفين
يبدو أن هذا التآلف أو الاندماج أو التقارب بين اليمين من جهة، والوسط وربما اليسار إلى حد ما مع اليمين المتطرف سيكون نمطاً خلال العام الحالي. ويتوقع كذلك أن يحظى هذا النمط بقدرة أكبر على المجاهرة والبوح بما كان حتى سنوات قليلة مضت حبيس الصدور وسجين الغرف المغلقة، خوفاً من الوصم بانعدام الصوابية السياسية والاتهامات بالعنصرية و"الزينوفوبيا" أي كراهية الأجانب والغرباء.
الغريب واللافت أن المجاهرة بالحديث "السياسي" حالياً عن "مزاعم" الآثار الاقتصادية السلبية في هذه الدول بسبب موجات الهجرة واللجوء، واقتناص فرص العمل من قبل القادمين الجدد على حساب المواطنين، وكذلك تقلص فرص السكن وتدهور خدمات الصحة والرعاية الاجتماعية وغيرها بسبب مزاحمة المهاجرين واللاجئين المواطنين للحصول عليها، إضافة إلى "ادعاءات" زيادة نسب الجرائم وحوادث العنف المنزلي لا سيما الموجه ضد النساء "لأسباب ثقافية ودينية" وغيرها بات يلقى قدراً أوفر من القبول، وهامشاً أقل من الاعتراض والتنديد.
وداعاً لكرنفال الاستقبال
التنديد الحالي سواء اليميني أو من قبل البعض من المواطنين العاديين في الدول الأوروبية بأعداد اللاجئين وعاداتهم وثقافاتهم وغيرها لا يتطرق كثيراً إلى أجواء استقبالهم الكرنفالية قبل أقل من عقد، لا سيما في ألمانيا.
"ماما ميركل" كما لقبها الملايين من اللاجئين والمهاجرين والمعجبين بسياسة فتح الأذرع لهم من قبل المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، التي تم في عصرها قبول ما يزيد على مليون لاجئ معظمهم من سوريا خلال عامي 2015 و2016 فقط، قالت إن أكثر القرارات "العاطفية" التي اتخذتها كان قرار قبول هذه الأعداد. لكن على الضفة المقابلة للعاطفة حقيقة مفادها أن نسبة كبيرة من اللاجئين السوريين ممن تم قبولهم أطباء وصيادلة أسهموا في تضييق الفجوات الطبية في النظام الصحي الألماني.
ولت هذه الأجواء الترحيبية ودبرت الاحتفاءات الإنسانية بالمهاجرين غير النظاميين وطالبي اللجوء، براً وبحراً. وتلوح في الأفق بصورة واضحة أمارات تمدد شعبية اليمين المتشدد في عديد من الدول الأوروبية بين الأصغر سناً، وذلك في تغير جذري بعد عقود طويلة من هيمنة نموذج المواطن الأوروبي الذكر الأبيض الأربعيني والخمسيني والستيني.
مخاطبة الشباب
تقارير عدة تشير إلى قدرة التيارات اليمينية المتشددة الفائقة في مخاطبة الأعمار الأصغر سناً عبر المنصات الرقمية. في جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2022، حازت مارين لوبن على 39 في المئة من أصوات الفرنسيين في الفئة العمرية بين 18 و24 سنة، و49 في المئة من أصوات الناخبين في الفئة العمرية بين 25 و34 سنة.
يشار كذلك إلى أن حزب "إخوان إيطاليا" اليميني كان قبل انتخابات سبتمبر (أيلول) عام 2022 هو الأعلى شعبية بين الشباب تحت سن 35 سنة بنسبة 22 في المئة.
وكذلك الحال في هولندا حيث حاز اليميني المتطرف فيلدرز على نسبة غير قليلة من أصوات الشباب، لا ميلاً منهم للسياسات المعادية للأجانب أو الكارهة للاجئين، ولكن حسب تقارير صحافية بسبب الإحباط من أزمة السكن والصحة والكثافة المرتفعة في الفصول التعليمية.
من جهة أخرى، وهي الجهة التي قلما يتطرق إليها ملف الهجرة واللجوء من الجنوب إلى الشمال، فإن نسبة غير قليلة من المهاجرين وطالبي اللجوء واللاجئين تتخذ قرار عدم الاندماج في المجتمعات الجديدة، وليس فشل جهود الدمج أو إهمالها.
قرار الانعزال
هذا الرفض، أو قرار الانعزال وتكوين مجتمعات متناهية الصغر داخل المجتمع المستضيف يؤدي إلى اتساع الفجوة بينهم وبين المواطنين. كما يقوي شوكة الحجة التي يستخدمها المعادون للهجرة والمهاجرين من أن القادمين الجدد يغيرون من طبيعة المكان وثقافته ويعملون على تفتيتها.
البعض يبالغ في مخاوفه فيخشى من تغيير ديموغرافية المكان برمتها، لا سيما في المناطق التي يعمد فيها المهاجرون إلى كثرة الإنجاب لأسباب دينية وثقافية واجتماعية مختلفة. ووصل الأمر لدرجة التخوف من أن تفوق أعداد المهاجرين واللاجئين التعداد الأصلي.
ويلاحظ أن ما كان يتم التعبير عنه سراً أو على استحياء أو خلف الأبواب المغلقة مرشح لأن يكون على الملأ، وبشكل متصاعد في الفترة المقبلة.
وعلى رغم الأصوات العديدة المحذرة من الربط بين الإرهاب والعمليات الإرهابية التي يتم شنها في دول أوروبية من جهة، والمهاجرين واللاجئين في هذه الدول من جهة أخرى، فإنه في كل مرة تحدث عملية "إرهابية" في مدينة أوروبية يكون وراءها اسم من أصول عربية أو إسلامية يتم الربط بين المهاجرين وخطر التعرض للإرهاب.
"إرهاب" المهاجرين
على مدى عقود طويلة، تؤدي العمليات "الإرهابية" في المدن الأوروبية إلى تصاعد النبرة المعادية للمهاجرين واللاجئين، لا سيما العرب والمسلمين. دراسات وتقارير عديدة خرجت بنتائج مفادها أنه لا صلة حقيقية أو مثبتة لعلاقة طردية بين الهجرة والإرهاب. لكن يتوقع أن دق اليمين المتشدد على وتر المهاجرين واللاجئين، وتحميلهم مغبات الاقتصاد وفرص العمل والسلم الاجتماعي وتدني الخدمات الصحية والتعليمية والسكن وغيرها، لن يستثني وتر الإرهاب والتشدد الديني في الفترة المقبلة.
عام 2024 سيشهد استمرار محاولات الهجرة غير النظامية واللجوء من دول الجنوب، وسيشهد تصاعداً لجهود المنع من المنبع عبر الأدوات الدبلوماسية والحوافز المادية. ويتوقع أن يشهد ثماراً تجنيها تيارات وأحزاب اليمين المتطرف على حساب ملف الهجرة واللجوء.