على وقع الحرب الطاحنة بين إسرائيل وقطاع غزة منذ أكثر من 100 يوم، يشعل منتمون ومؤيدون لتل أبيب حرباً من نوع آخر عبر منصات التواصل الاجتماعي، بخاصة "إكس" و"إنستغرام" و"يوتيوب" و"فيسبوك". فمع مرور كل يوم تكسب فيه القضية الفلسطينية داعمين وأنصاراً جدداً في مختلف بقاع العالم يحملون رموزاً مثل الكوفية وعلم فلسطين، ويرددون شعار "فلسطين حرة"، تعمل جهات أمنية وعسكرية إسرائيلية من أعلى المستويات، على تطوير أسلحة رقمية وإلكترونية لكسب معركة الرأي العام العالمي الذي يبدي المزيد من التعاطف تجاه الفلسطينيين.
ومن خلف كواليس الحرب، تخوض إسرائيل مبادرات مدنية خاصة باليهود في إسرائيل وحول العالم حرباً على الرواية، وعلى الدعاية وتشكيل الوعي والتأثير عبر مئات عناصر الجيش الإلكتروني، وكما أن الوضع في المعركة على الأرض شرس وضروس، تبدو أدوات الحرب الإلكترونية على الشاكلة نفسها.
مع بداية الحرب في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أكد معظم ساسة العالم دعمهم الكامل لإسرائيل، إلا أنه مع تطور الصراع في غزة ومقتل أكثر من 24 ألف فلسطيني على يد الجيش الإسرائيلي، وتعريض نحو مليوني نازح لكارثة إنسانية غير مسبوقة، بدأ الرأي العام الدولي يميل لمصلحة الفلسطينيين متزامناً مع تنديد دولي وإقليمي ضد سياسة التجويع والتعطيش، وقطع الماء والدواء والغذاء عن المدنيين، وزاد الضغط الدولي على تل أبيب لوقف الحرب، وأخذت جماهير غفيرة تطالب حكوماتها بالكف عن تقديم الدعم لها التي ما زالت تصر على ممارسة واحدة من أبشع حروب التدمير منذ الحرب العالمية الثانية.
منظومة تكنولوجية
وفقاً لصحيفة "هآرتس"، فإن الحاجة الماسة للتأثير في الرأي العام الدولي، من أجل تمكين الجيش الإسرائيلي من تحقيق أهداف الحرب، دفع جهات إسرائيلية رسمية لشراء منظومة تكنولوجية من أجل التأثير الجماعي وإنتاج محتوى يتكيف مع حملات وعي عبر الإنترنت، ومنها نظام لرسم خرائط للجمهور المستهدف، وقادر على فتح مواقع الويب تلقائياً، وإنتاج محتوى مناسب، ونظام لمراقبة الاتجاهات عبر الشبكة، وأمور أخرى، بهدف الترويج لرسائل معينة ونشرها على نطاق واسع والتي من شأنها تشكيل رأي عام عالمي يخدم رواية تل أبيب.
ويعمل هذا النظام على "كبح آلة السموم المعادية لإسرائيل التي تنشر المعلومات المضللة المؤيدة للفلسطينيين والمنكرة للمذبحة، إضافة إلى المحتوى المعادي للسامية على الإنترنت بخاصة بين الشباب في الغرب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشارت "هآرتس" إلى أن تشغيل الحملة الأولى حالياً عبر الإنترنت يتم بلغة أجنبية تم إنشاؤها من خلال النظام، مؤكدة وفقاً لمصادر مشاركة في العملية، أنه ما زال من غير الواضح أي هيئة في إسرائيل ستشرف على نشاط المنظومة، وماذا سيحدث للأصول الرقمية التي تم شراؤها وإنشاؤها بعد انتهاء الحرب.
وبحسب ما هو معلن، رأى المشاركون في عملية شراء منظومة النفوذ، أن وزارة الخارجية الإسرائيلية وما يسمى "جهاز الإعلام الوطني" في تل أبيب لا يقدمون حلولاً مناسبة لحاجات المؤسسة الأمنية والعسكرية، وأن قدرة وحدة الناطق باسم الجيش محدودة للرد الفعال على التدفق اللامتناهي للمواد المرئية والدعائية التي تنشرها حركة "حماس".
فيما أشارت مصادر استخباراتية إسرائيلية للصحيفة ذاتها، إلى أن الحرب النفسية التي تشنها "حماس"، ومن ضمنها نشر مشاهد إذلال الجنود "تهدد المنعة الوطنية في تل أبيب ومعنويات الجيش". ويرى الباحث في الحرب النفسية من كلية الاتصالات بجامعة آرييل الإسرائيلية رون شلايفر أن "هدف حماس كان هو إقناع الآخرين بأنها على حق. لذلك تعرض مقاطع فيديو مزعجة تسبب لإسرائيل إحباطاً وعجزاً كبيرين".
قضية استراتيجية
تنفيذ رد واسع النطاق ضد دعاية "حماس" ومدى تأثيرها، أصبح قضية استراتيجية لدى إسرائيل، والتي على أثرها، أنشأ منتدى "إعلام توضيحي" إسرائيلي، ضم وزارة الخارجية ووزارات أخرى، وشركات تكنولوجية، ومبادرات مدنية، ومنظمات يهودية، وهيئات أمنية مثل الجيش وجهاز الأمن الداخلي "الشاباك" ومجلس الأمن القومي، ينعقد أسبوعياً من أجل تنسيق الأهداف والغايات الإسرائيلية.
وقال المسؤولون في جهاز الأمن، وفي أجهزة الاستخبارات بشكل خاص، إن ثمة ضرورة قومية ملحة لإطلاق حملة تأثير في ميدان المعركة على الوعي ولجم موجة التأييد الدولية للفلسطينيين.
إلى جانب ذلك، قررت الحكومة الإسرائيلية في خطوة طارئة تنظيم حملة إعلامية ضخمة ومضاعفة الموارد المالية لتمويلها ونشر أشرطة فيديو توثق العمليات التي قام بها مقاتلو "حماس" وهم يهاجمون 22 مستوطنة تحيط بقطاع غزة ويقتلون جنوداً ومدنيين، إضافة إلى تجنيد شخصيات تتمتع بنجومية عالمية تقنع العالم بأن الحرب التي تخوضها إسرائيل هي حرب دفاعية ترد فيها على "تنظيم إرهابي" يريد تدمير إسرائيل وتقويض الاستقرار في دول الغرب، خصوصاً بعد أن بينت تقارير وأرقام أن الخطاب المعادي للسامية وكذلك التعصب ضد الداعمين لإسرائيل والمتعاطفين معها شهد ارتفاعاً في الآونة الأخيرة.
معاداة السامية
بحسب الرابطة الاتحادية لمراكز البحوث والمعلومات المتعلقة بمعاداة السامية، توقف العديد من اليهود ممن يعيشون في دول أوروبية عن ارتداء القلائد التي تحتوي على نجمة داوود أو وضع القلنسوة اليهودية (الكيباه) فوق رؤوسهم لأنها تسهل التعرف إليهم على أنهم يهود متدينون.
كما تلقت الرابطة أيضاً تقارير من عائلات يهودية توقفوا موقتاً عن إرسال أطفالهم إلى المدارس أو مراكز الرعاية النهارية خوفاً من اعتداءات معادية للسامية. وقالت الرابطة الاتحادية، إنه في الفترة بين الهجوم على إسرائيل من قبل حركة "حماس" في 7 أكتوبر و9 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، سجلت في ألمانيا وحدها 994 حادثة معادية للسامية، بمتوسط 29 حادثة يومياً، أي أربعة أضعاف متوسط العام الماضي.
وبحسب توثيقات الرابطة، تعرض كنيس يهودي في برلين لهجوم بقنابل المولوتوف، وأغلقت مدرستان يهوديتان أبوابهما في لندن خوفاً من هجمات مماثلة، أما في سيدني فهتف متظاهرون "أحرقوا اليهود بالغاز".
ووفقاً لرابطة مكافحة التشهير المعنية برصد الانتهاكات ضد اليهود، ارتفعت نسبة الحوادث المعادية للسامية في الولايات المتحدة خلال أسبوعين في أكتوبر 388 في المئة، ولم يعد الأمر يتعلق فقط بمتظاهرين مؤيدين لفلسطين، ويرفعون أعلامها فقط، بل باندلاع تظاهرات في حرم الجامعات.
وقالت الرابطة، إنها وثقت في الفترة الممتدة بين 7 أكتوبر و7 نوفمبر الماضيين، 832 حادثة اعتداء وتخريب ومضايقة ضد اليهود، وإن متوسط الحوادث بلغ ما يقرب من 28 في اليوم الواحد، موضحة أن الولايات المتحدة شهدت تنظيم 653 مسيرة مناهضة لإسرائيل في الجامعات في جميع أنحاء البلاد منذ هجوم "حماس".
ولفتت إلى أن المتظاهرين عبروا عن دعم "صريح" أو "صريح بقوة" لـ"حماس"، التي تصنفها الولايات المتحدة منظمة إرهابية، وكذلك "دعم العنف ضد اليهود في إسرائيل".
ووسط تصاعد حمى الحرم الجامعي والمواقف الطلابية المؤيدة للفلسطينيين، والشبكات الاجتماعية المتوهجة، وصعود معاداة السامية، قالت صحيفة "لوموند" الفرنسية مطلع يناير الجاري، إن التعاطف الواسع الذي حصدته إسرائيل إثر هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر الماضي، تهاوى تحت وقع ضرباتها العسكرية في القطاع ليتحول إلى دعم للمدنيين الفلسطينيين وتتعمق عزلتها الدولية شيئاً فشيئاً".
جيل Z
وفقاً لمراقبين ومحللين، فإن المشكلة الحقيقية في معركة الوعي لدى إسرائيل على مواقع التواصل الاجتماعي تكمن في جيل الشباب العالمي من بين أفراد جيل (Z مواليد منتصف التسعينيات وحتى منتصف العقد الأول من القرن الـ21) الذين يكتسحون بتفوق المنصات الشبابية مثل "تيك توك" و"إنستغرام" و"تليغرام".
وأظهر استطلاع للرأي أجراه باحثون من جامعة هارفرد بالتعاون مع شركة الاستطلاعات "هاريس بول"، أن ثلث الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة يعتقدون أنه ليس لإسرائيل الحق في الوجود.
من جهتها، قالت الباحثة الإسرائيلية المتخصصة في مجال توجهات الرأي ومنصات التواصل الاجتماعي، ناتالي زوهار، إن لتطبيق "تيك توك" تأثيراً كبيراً على الشباب في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة.
وادعت الباحثة، أن مستخدمي "تيك توك" من الشباب يغمرون المنصة بالمعلومات المضللة ويشجعون لاستقطاب دعم كاسح للفلسطينيين. وتساءلت "كيف يتسنى للشباب الأميركي دعم "منظمة إرهابية"، وجمع تبرعات لغزة والترويج لأجندة تشجع أنشطة "حماس"؟
وتكمن المشكلة، باعتقاد زوهار، في أن منصة مثل "تيك توك" لا تكتفي بتوزيع محتوى مناهض للأطروحة الإسرائيلية، "إنما تجعله سريع الانتشار وعصرياً".
من جهته، يرى مسؤول شؤون التكنولوجيا والإنترنت في صحيفة "غلوبس" الإسرائيلية نافو تربلسي أن "تل أبيب تخوض حرباً منذ عدة أيام على عدة جبهات أهمها معركة التأثير في الرأي العام العالمي"، مؤكداً أنها تعتبر ساحة أساسية في بث الرسائل والمضامين والمحتوى بما يتماشى مع الرواية الإسرائيلية".
ولفت تربلسي إلى أهمية السيطرة والتحكم بـجبهة التوعية العالمية لما لها من تأثير واضح في توفير الغطاء والشرعية الدولية للعمليات العسكرية الإسرائيلية، إضافة إلى أنه مهم لممارسة الضغط على مختلف الأطراف في العالم وضمان انحيازها مع إسرائيل وتبني روايتها بالحرب".
وأشارت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، إلى أن "جبهة التوعية" لا تقل أهمية عن ساحات القتال، ووصفتها بـ"المعركة على الوعي" لدورها في اختراق الفضاء الافتراضي وإيصال صداها إلى كل العالم.
تبعاً لأرقام وبيانات صحيفة "غلوبس" الإسرائيلية، فقد أجرت طواقم وزارة الخارجية الإسرائيلية الدبلوماسية في الأسبوع الأول للحرب على غزة، جلسات إحاطة لـ250 مراسلاً أجنبياً، وأكثر من 640 مقابلة مع وسائل الإعلام الدولية بمختلف اللغات لتشويه الرواية الفلسطينية ومحاربتها.
ومن خلال نشاط القسم الرقمي بالوزارة، نشر نحو ألف منشور باللغات الإنجليزية والإسبانية والعربية والفارسية والروسية، والتي حصلت على أكثر من 320 مليون مشاهدة، وصدر أكثر من 80 بياناً رسمياً لإدانة "حماس" ودعم إسرائيل من مختلف البلدان.