Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمد حميدي رسام الهندسة بين أرض وسماء

معرض لرائد التشكيل المغربي يحتفي بالحياة وينفتح على عناصر الطبيعة

من جو معرض الفنان المغربي محمد حميدي (خدمة المعرض)

باختياره عنوان "قطعاً إنه حداثي" لمعرضه الجديد الذي أقيم في غاليري 38 في مراكش، يريد التشكيلي المغربي محمد حميدي أن يذكر المتلقي بأنه ذهب باكراً إلى الحداثة وظل هناك، وأن اختياره كان حاسماً ولم يعقبه أي تراجع. تبدو النبرة الترافعية واضحة في الشعار الذي رفعه حميدي (مواليد 1942 - الدار البيضاء)، فقد شكل منذ نهاية الستينيات مع القليل من رفاقه، لعل أبرزهم محمد المليحي وفريد بلكاهية ومحمد شبعة، تياراً جديداً في التشكيل المغربي، يعتمد بالأساس على مرجعيات فنية عالمية، ويقطع من ثم مع كل المظاهر التقليدية في تاريخ الرسم في المغرب. غير أن حداثة حميدي، وإن قطعت مع التقليد، فقد راهنت في المقابل على استثمار مفردات الحضارة المغربية العريقة من معمار وزخرفة وتراث بصري. ويحسب له أيضاً أنه أول تشكيلي مغربي استثمر الثقافة الأفريقية وإرث حضارة القارة السمراء في لوحاته.

وقد كان انفتاحه المبكر على الفن الأوروبي الحديث عاملاً أساساً في انتقاله من التشخيص إلى التجريد، عبر اعتماد أشكال وتضاريس فنية لا تنقل الكائنات من الواقع إلى اللوحة، بل ترسم مما يدل عليها، بأشكال تترك المساحة شاسعة للتخييل من جهة، وللتأويل من جهة ثانية. ويعود الفضل في التوجه المبكر نحو الحداثة لدى حميدي إلى مرحلته الباريسية، فجذبته عاصمة الأنوار إليها في نهاية الخمسينيات، ليواصل دراساته في المدرسة الوطنية العليا للفنون، وبعدها مدرسة مهن الفن في باريس، عقب تخرجه في المدرسة العليا للفنون الجميلة في الدار البيضاء. خلال دراسته في فرنسا تخصص بداية في فن السيراميك، تحت إشراف جان أوجام، لتكون الجداريات هي مجال اشتغاله.

استقر حميدي في فرنسا فترة، قبل أن يوجه إليه فريد بلكاهية الدعوة من أجل العودة للمغرب، وتعزيز "مدرسة كازبلانكا" التي أسسها بلكاهية مع محمد شبعة ومحمد المليحي. واللافت أن هذه العودة المهمة كانت بوساطة من ثلاثة مبدعين هم عبداللطيف اللعبي وطوني ماريني ومحمد شبعة. ويعين حميدي فور رجوعه إلى المغرب أستاذاً في مدرسة الفنون الجميلة - الدار البيضاء، ليسهم في تعزيز تيار الحداثة إن على المستوى النظري أو التطبيقي.

تزامن بروز الأعمال الأولى لحميدي مع خروج الاستعمار الفرنسي من المغرب، فشكل مع رفاق له تجربة ما بعد الكولونيالية في الفن المغربي، وهي بمثابة تجربة تأسيسية للحداثة الفنية في البلاد.

عرض حميدي معظم أعماله بين المغرب وفرنسا، وهما البلدان اللذان كان ينتقل بينهما في إقامة مزدوجة، لكنه شارك في معارض فردية وجماعية عديدة في إسبانيا ولبنان والجزائر والدنمارك والعراق ومصر وألمانيا والإمارات وقطر وإنجلترا وغيرها.

مباهج الحياة الحديثة

اختار حميدي أن يضع مقطعاً شعرياً لآرثر رامبو عتبة افتتاحية لمعرضه، فأورد بضعة أسطر يحتفي فيها الشاعر الفرنسي بالألوان والأنهار والبحار والمراعي الخصبة والطيور الغريبة. وهو إذ يبحث عن امتدادات شعرية للوحاته، يجعلنا نحس أيضاً أن الشعر عنصر حاضر في هذه اللوحات باعتباره أحد المنابع التي يستقي منها الفنان أفكار أعماله.

يراهن حميدي على حرارة اللون، كما لو أنه يريد أن ينقل إلينا مباهج الحياة الحديثة، فالخفوت في الألوان يرمز في المقابل إلى الانحسار، مما يخلق أمام المتلقي هالة من الحزن. لكن حميدي يريد أن يخلق لدى من يقف أمام أعماله الفنية حالة من الابتهاج والإقبال على الحياة، والانخراط في عالم من الجماليات، يكون الفن بالضرورة أحد الطرق المفضية إليه. إن أعماله تشكل دعوة مفتوحة إلى دخول المناطق المشرقة في حياتنا الراهنة، والانسحاب من كل الأحيزة المظلمة. وهي بمثابة نداء روحي إلى الصفاء. وما هيمنة اللونين البني والأزرق وتعالقهما المتناغم في لوحاته، إلا قراءة لعلاقة الإنسان بأرضه وسمائه، باعتبار الأرض هي الأصل والمرجع والملاذ النهائي، وباعتبار السماء هي الرغبة الدائمة في الارتقاء والسمو والانعتاق من المادة. أما البرتقالي الذي يحضر بصورة لافتة في أعماله فهو، كما في مختلف الثقافات، رمز إلى حب الحياة. وكلما زادت درجة إضاءة اللون زادت درجة هذا الحب. يرمز البرتقالي أيضاً إلى التفاعلات الإنسانية الإيجابية، كأن تتجلى علاقات المودة مع الآخر، وهذا ما يدعو إليه حميدي، توافقاً مع تصوره للفن ولوظائفه.

يطغى على الأعمال المعروضة في غاليري 38 الطابع الهندسي، فهي تتشكل من دوائر وأنصاف دوائر ومربعات ومكعبات ومستطيلات وخطوط وتعرجات، مشكلة تضاريس فنية تحيل أحياناً على عناصر الطبيعة، وأحياناً أخرى على الكائنات التي تشغل حيزاً في هذه الطبيعة، من طيور وفراشات، أو أقمار وشموس، أو كائنات وعناصر جسدية تشير إلى الوجود البشري.

الفن في الشارع

لا يكتفي حميد بعرض لوحاته في القاعات المغلقة مهما كانت سعتها، بل يخرج من حين لآخر بلوحاته إلى الساحات والشوارع، محاولاً أن يجعل الفن قريباً من الجميع، لا حكراً على النخبة التي تربت على ارتياد صالات العرض. وهذا الخيار ليس جديداً لدى الفنان المغربي، فقد وضع لوحاته عام 1969 في معرض مفتوح في ساحة جامع لفنا الشهيرة في مراكش مع بلكاهية وشبعة وآخرين، كانوا يتناغمون مع تصوراته وأفكاره. وأراد بذلك أن تكون اللوحة حاضرة في الحياة العامة وقريبة من العابرين والسياح وعلى مرأى من المهتمين بالفن ومن غير المهتمين أيضاً. وكان الرهان هو استقطاب أصناف جديدة من المتلقين للأعمال التشكيلية الحديثة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في عام 1978 أقام حميدي مهرجاناً تشكيلياً في الفضاء العام في مدينة أصيلة، وفي عام 1981 حمل الفنان الورق والقماش والصباغة وأدوات الرسم وتوجه إلى مستشفى الأمراض العقلية في مدينة برشيد، ليختبر تفاعل النزلاء مع عالم التشكيل، مؤمناً بأن الجنون ليس بالضرورة هو العدم. فبإمكان هذه الفئة أن تقترح طرائق أخرى في التعامل مع الأشكال والألوان.

قاد حميدي أيضاً حملة جمالية، حين جمع 20 فناناً تشكيلياً من داخل المغرب وخارجه عام 2005، وتوجه بهم إلى مدينة أزمور العتيقة المرابضة على نهر أم الربيع، ليحولوا جدران ساحاتها العامة إلى لوحات عملاقة، جعلت أزمور تتحول إلى معرض فني كبير مفتوح.

في عامه الـ82 ما زال محمد حميدي يواصل مقترحاته الجمالية، محتفياً بالوجود الإنساني، وبحضور الجسد باعتباره رمزاً للخصوبة والامتداد وبث الحياة في الأرض. وما معرضه الأخير في الدار البيضاء إلا ترجمة لهذه الفلسفة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة