Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ليلى وفرانز" رواية تعيد تفكيك ثنائية الأنا والآخر

محمد علي إبراهيم يبني جسوراً بين الصعيد المصري وأيسلندا

مشهد من الصعيد المصري (صفحة الصعيد - فيسبوك)

ملخص

محمد علي إبراهيم يبني جسوراً بين الصعيد المصري وأيسلندا

علاقة مركبة تربط بين الشرق والغرب منذ القدم، تراوحت بين تحاور وصراع، تباعد وتقارب، تنافر وتلاقح. والسرد الروائي كان أحد أبرز الحقول، التي فككت هذه الثنائية، لا سيما عبر تناول البعد الإنساني، وما يتصل بصورة الشعوب، بعضها لدى بعض. هذه الصورة كانت ولا تزال، رهينة تنميط يجافي الحقيقة ويخاصمها، فبينما أسهم بعض النتاج الأدبي في كلا العالمين، العربي والغربي، في ترسيخ هذه النمطية وتعزيزها، حاول نتاج آخر كسرها وتجاوزها، وهو ما تجلى في رواية "ليلى وفرانز" (دار العين) للكاتب المصري محمد علي إبراهيم.

استهل الكاتب سرده بتوطئة، أعلنت عبرها شخوصه "ليلى محمد حسن"، من صعيد مصر و"فرانسوا إيريل" من أيسلندا و"تاليا"، عن قيادتهم الرحلة السردية. ومنحهم -إضافة إلى "خالد الضوي" المهندس في مصنع الألومنيوم- صوت السرد، مما أتاح لكل الشخصيات مساحة حرة للتعبير عن أيديولوجياتها ورؤاها تجاه العالم، وكذلك ما يعتمل في عوالمها الداخلية. واتسق هذا النهج السردي، مع تباين الشخوص، واختلاف مرجعياتها الثقافية والحضارية، كذلك أتاح ديمقراطية الطرح، من دون تحيز لأي من قطبي الثنائية الكلاسيكية، "الأنا والآخر". وإلى جانب الرواة المتعددين، برز صوت الراوي كلي العلم في بعض مساحات النسيج، متيحاً مزيداً من الموضوعية وشمولية الرؤية.

نزوع إلى الفانتازيا

عبر الاستباق، شرع محمد علي إبراهيم في رحلته بمشهد إشهار "فرانز" إسلامه، ليغير المهندس الأيسلندي، المكلف مهمة عمل مؤقتة لدى مصنع الألومنيوم في نجع حمادي (جنوب مصر) خططه. ويضيف إليها ما لم يكن يتوقعه، من الزواج بإحدى فتيات المنطقة. ومن هذا الاستباق انعطف الكاتب نحو استباق آخر، أحال إلى نزوع للفانتازيا والتجريب، وتمثل في إعلانه عن هوية "تاليا"، التي منحها صوت السرد في مساحات متفرقة من النسيج، والتي تبين أنها خلية سرطانية. وعلى رغم إفصاحه عن هويتها باكراً، فقد عزز التشويق والترقب، بما أرجأه من تفاصيل ارتباطها بالشخصيتين المحوريتين في النص، وبما أثاره ضمناً من أسئلة حول هوية ضحيتها، ومصيرها.

منذ اللحظة الأولى للسرد، بدا التقابل بين العالمين، اللذين انحدرا منهما بطلا النص. وأحال اختيار الكاتب لجزيرة دندرة في جنوب مصر، كفضاء مكاني لأحداث القسم الأول من السرد، وأيسلندا القريبة من القطب الشمالي، كفضاء لأحداث القسم الثاني، إلى رغبته في إبراز التباين الشديد، والمسافات الشاسعة، بين كلتا الشخصيتين. وهو أراد عبر هذه المسافات، وهذا التباين، إبراز السمات الحضارية، والفوارق الثقافية بين الآنا والآخر، بين "ليلى" التي تمثل الشرق، و"فرانز" الذي يمثل الغرب. ومرر عبر قصة حبهما وزواجهما، رؤى ضمنية حول حتمية قبول الآخر، وإمكانية الانسجام والتعايش، على رغم الاختلاف. وأبرز أوجه هذا الاختلاف، من خلال ما أضاءه من ملامح ومعارف تاريخية وتراثية وواقعية، تتصل بكلا الفضاءين، فقد حرص على رصد بعض العادات الموروثة في صعيد مصر، لا سيما التي تتصل بالكرم والحميمية والدفء الاجتماعي والاعتزاز بالانتماء للقبيلة والنخوة: "يا باشا إنه برفقة بنت الشيخ، كل دندرة تحميها وتحمي من معها" ص60، كما رصد بعض الطقوس الاحتفالية، مثل الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج وليلة المولد النبوي، وما اقترن بهما من إعداد الطعام للغرباء، فضلاً عن طقوس الاحتفال بالزفاف، مثل افتراش المدعوين من أهل القرية للأرض، وتناول الطعام الذي يقدمه أصحاب العرس. وتطرق لمكانة الشاي والسكر لديهم، حد أن باتا الأكثر تداولاً كهدية، يقدمونها في مناسباتهم الاجتماعية. ورصد كذلك اعتقادهم في الحسد، وطقوسهم الشعبية لطرد العين الشريرة، وغناءهم "عديد" الشعبي في المآتم: "حطوا درع السبع فوق بابه، لو صار غايب يحسبوا حسابه..." ص 226. وفي المقابل رصد العزلة الاجتماعية في أيسلندا، والاعتقاد الأسطوري لسكانها بوجود الجان داخل الصخور والحمم البركانية. وتطرق لأشهر أكلاتهم التقليدية، مثل "الهاركال" وهو رأس سمك القرش، الذي يقومون بدفنه تحت الأرض لعدة أشهر، ليتخمر ويأكلوه بحذر وبكميات قليلة، وكذا بيرة الطماطم.

مقابلات ومفارقات

عبر رصده كثيراً من الملامح الثقافية والعادات الاجتماعية، التي تباينت بين أيسلندا وصعيد مصر، أبرز الكاتب كثيراً من التقابل. وعقد مقارنات صريحة وضمنية بين الشرق والغرب، كشف عبرها تفوق الثاني في احترام قيمة الوقت، وتقديس حرية الفرد، لا سيما في الاعتقاد وكذا تقدير المرأة: "على الشرقيين أن يبذلوا جهداً ليتخلصوا من تحجيم المرأة، لتصبح مجرد قطعة لحم، سيصيبه الترهل رغماً عنه، بجبروت أحكام الطبيعة" ص 183. وأبرز كذلك تفوق الشرق في الترابط الاجتماعي وحميمية العلاقات في هذا الشأن. ورصد عبر هذه المقارنات موقف كل طرف من ثقافة الآخر، فلم يتقبل "فرانز طقوس" افتراش الأرض لتناول الطعام، في أعراس الجنوب المصري. وكانت الحميمية الزائدة مدعاة لإثارة قلقه وريبته، في حين واجهت "ليلى" ما يشبه الصدمة الحضارية، بسبب طريقة تعاطي الغرب مع المثلية الجنسية والعلاقات المتعددة، "هل صديق زوجي الوحيد مثلي؟ وهل هو كوديانا أم برغل كما كتب علاء الأسواني في رواية "عمارة يعقوبيان"، أم إنه يمارس الدورين، أقاوم رغبتي في التقيؤ داخل أطباق الملوخية" ص162.

 ورصد المحاولات التلقائية من قبل كل طرف للتأثير على الآخر، من دون أن يؤثر ذلك على إمكانية التعايش والتآلف في ظل التباين والاختلاف، كذلك عمد إلى كسر الصورة النمطية، لدى كل من قطبي هذه الثنائية، عن الآخر: "جاجا اقتنعت أنها إذا ذهبت إلى مصر فلن تجد الناس يبيتون في الخيام... ولن تكون وسيلة تنقلها هي الجمال ذات السنامين، كما اقتنعت أنا بعد يومين من المجيء إلى أيسلندا، أنني لن أسمع أصوات خربشة فوق زجاج باب الشرفة، وعندما أقوم بإزاحة الستائر لن أجد دباً قطبياً أو بطريقاً، يحاول مشاركتي السرير" ص 162.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اتسق مع خصوصية الفضاءات المكانية للسرد وما يكتنفها من غموض، تمرير الكاتب بعض الحمولات المعرفية التاريخية والجغرافية والثقافية عنها، تضمنت معارف حول جزيرة دندرة، معبد هاتور، المعالم الأثرية في الأقصر، وكذا معالم أيسلندا، مثل بحيرة أوسكغوفاتن، بركان إيفيالايوكول، عدد سكان الدولة الذي لا يتجاوز 300 ألف نسمة، وعدم وجود جيش بها، ولا معدلات جريمة، كذا مرر معارف غزيرة عن مرض السرطان، الذي تعاطى معه كشخصية محورية في النص "تاليا". وساعدت هذه الحمولات في إضفاء ألفة على الأماكن، التي اختارها فضاءً للأحداث. وعززت تقنيات الوصف أثر تلك الألفة، وأسهمت إلى جانب الديالوغ المسرحي في إبطاء حركة السرد، وإتاحة وقفات واستراحات، عززت بدورها حالة التأمل، وكذا الآنية، والواقعية. ومثلما استفاد إبراهيم من تقنية الحوار المسرحي، استعان بالتكنيك السينمائي، لا سيما تقنية المزامنة فجمع بين أحداث متباينة تزامنت لحظات وقوعها، كما استدعى تقنية عين الكاميرا في غير موضع من السرد لتصوير الأماكن والشخوص والأحداث: "يقوم الزائرون بالزحف فيها حتى الوصول إلى أسفل الدرج الخشبي..." ص 72. وأسهمت هذه التقنيات، في تعزيز السمة البصرية للسرد، وتحفيز قدرة الخيال على استدعاء الصورة.

حضور الحلم

عمد الكاتب لاستخدام الحلم كوسيلة للتنبوءوالاستبصار، وتقديم تأويلات استشرافية للأحداث. وإضافة إلى وظيفته التمهيدية، مرر عبره جرعات من التشويق، عززها بغلالة من الغرائبية، فتمكن من خلال حلم، رأى فيه "فرانز" نفسه يتسلق البركان، وتناديه فرعونة مصرية، من التمهيد لقصة البطل مع "ليلى". وأحال عبر التقاط الطائر له ثم تركه في الصحراء، إلى ما ينتظره معها من مشكلات وأحداث مأسوية. وكذلك لعب حلم "ليلى" بالأسفلت الساخن، والحدأة التي طارت بزوجها إلى السماء، الدور التمهيدي ذاته للاحق من الأحداث.

وكما عززت الرومانسية من جاذبية السرد، خدمت في الوقت نفسه قضاياه الرئيسة، فحوت دلالات رمزية حول فكرة قبول الآخر والتعايش، كذا وظف الكاتب الشحنات العاطفية، في تأجيج الصراع الخارجي، الذي اشتعل بين "ليلى" و"فرانز" من جهة و"تاليا" أو الخلية السرطانية من جهة أخرى، ليتضافر مع بقية أشكال الصراع في النص، كالصراع الحضاري، إضافة إلى الصراعات الداخلية لدى بعض الشخوص، من بينهم "ليلى"، إثر سقوطها في براثن الغضب والأسئلة الوجودية، نتيجة تغييب الموت لأمها وأخيها، وحرمانها منهما دفعة واحدة. وأسهمت كل تلك الصراعات، في النمو الدرامي وفي دفع وتحريك الأحداث.

ولم يكتفِ الكاتب بما أودعه في شخوصه من جاذبية، دعم بها تماهي القارئ مع النص، ولا بالاستباق وجرعات التشويق، التي أحكم عبرها سيطرته عليه، وإنما توجه له مرات بالخطاب المباشر، لا سيما عبر شخصية "خالد الضوي". وسمح له بملء بعض الفجوات. ومنحه عبر النهاية المفتوحة، حرية تقرير مصير الشخوص. فكسر عبر كل تلك الآليات سكونية السرد، وضمن للقارئ تجاوز دوره المألوف في التلقي، إلى المشاركة الفاعلة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة