ملخص
وباء عالمي بين العجز البشري والتضامن والتمييز العنصري
تمثل رواية "مسافات حب" للروائي المغربي مبارك ربيع، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الحلقة الثالثة عشرة في سلسلة روائية، شكلت روايته "الطيبون"، الصادرة عام 1972، حلقتها الأولى. وبذلك، نكون إزاء مسيرة كتابية طويلة، انطلقت منذ أكثر من نصف قرن، وتمخضت عن ثلاث عشرة رواية، وخمس مجموعات قصصية، وأربعة كتب للأطفال، ناهيك بعددٍ من الدراسات الأكاديمية. ومبارك ربيع روائي، وقاص، وأكاديمي، وباحث، وناشط ثقافي مغربي. يكتب في حقول معرفية مختلفة. يرصد فيها تحولات المجتمع المغربي، في مراحله التاريخية المختلفة، لا سيما منها مرحلة مناهضة الاستعمار الفرنسي. ويُعْزى إليه الفضل، مع عبدالمجيد بن جلون، وعبدالكريم غلاب، ومحمد عز الدين التاجي، وآخرين، في إرساء قواعد الكتابة الإبداعية في المغرب، في نهاية الستينيات من القرن الماضي، بحسب بعض الدارسين.
في "مسافات حب" التي تدور أحداثها في المغرب وفرنسا ويوغسلافيا، بين عامي 2015 و2021، يتناول جائحة كورونا وتردداتها الزلزالية حول العالم لا سيما في المغرب، من خلال رصد حركة المصابين وآليات العلاج في مستشفى ميداني في مدينة مغربية، وتصوير التحولات الكبرى التي تطرأ على أنماط العيش وحركة الحياة في المدينة والدواوير المجاورة لها، ويبين كيف تلغي الجائحة المسافات بين الناس، وتزيل الحدود بين الدول، وتمحو الفوارق بين الطبقات، وتطيح التراتبية بين المهنيين. يميط الروائي اللثام عن العجز البشري في مواجهة كوارث الطبيعة. ولا تفوته الإشارة إلى ما أحدثه الوباء من تضامن بشري، من جهة، وما أفرزه من ممارسات التغول السلطوي، والأنانية القومية، والتمييز العنصري، من جهةٍ ثانية. وهو ما تشي به الرواية، في أسلاكها السردية المختلفة.
اتفاق وافتراق
ثمة في الرواية خمسة أسلاك سردية تنتظم الأحداث، على الأقل، تتفق في ما بينها في الفضاء المكاني الأخير، وفي إصابة بعض شخوصها بالجائحة، وتفترق في الطول والشخوص والمسارات. والمفارق أنه، على رغم اجتماعها في حيزٍ روائي واحد، فإنها منفصلة بعضها عن بعض، ولا تتفاعل في ما بينها، وتتقاطع، بشكلٍ عَرَضي، في نهاية الرواية، باستثناء السلكين الأول والثاني اللذين يتقاطعان في البداية والنهاية. على أن كلاً من هذه الأسلاك يتمحور حول شخصية أو أكثر، وهي شخصيات تفترق في المسارات، وتتفق في المصائر.
يتمحور السلك الأول حول شخصية سناء بشراوي، ويبدأ بوصولها إلى المطار آتية من باريس، بعد دراسة التمريض، لتجد استقبالاً فاتراً بانتظارها. وينتهي بمغادرتها المستشفى الميداني لمعالجة مصابي الوباء، في حالة من الغياب الذهني واختلاط الحقيقي بالمتخيل، وقد أخذ منها التعب كل مأخذ، وتراكمت على عاتقها الأعباء. وبين بداية السلك ونهايته ثمة، وقائع تعيشها الشخصية، بدءاً من مغادرتها المغرب من دون وداع الأهل بذريعة اعتمادها على الذات، مروراً بالوقائع الآتية: اللقاء في الطائرة بأمين الذي يدرس الطب في جامعة جنوب فرنسا، نمو العلاقة بينهما لاحقاً والتعاهد على الزواج بعد التخرج، إجهاض العلاقة بفعل تدخل أمه الحاجة راضية بذريعة عدم التكافؤ بينهما، الانخراط في علاقات زمالة وصداقة مع ريزفان البيروية ومارسيل الفرنسي وآخرين، التحول عن دراسة الطب إلى التمريض، العمل في مستوصف في قرية العميمات المغربية النائية مساعِدةً للطبيب أوكريم، وانتهاءً بالعمل في المستشفى الميداني الذي تتفانى فيه إلى حد نسيان الذات، وتعود إلى شقتها في نهاية الرواية وقد اختلطت عليها الأمور بين الحقيقي والمتوهم.
هذه الوقائع تتمخض عن شخصية روائية تطوي النفس على حرمانٍ عاطفي متنوع. تحاول التعويض عنه في نسج علاقات عابرة، وإغراق نفسها في العمل، ومساعدة الآخرين؛ فسناء التي تفتقر إلى الدفء الأسري بعد عودتها، تبحث عنه في قرية نائية، وتجد بعضه لدى أسرة حارس المستوصف. وسناء المحرومة من العطف الأبوي لأنها خيبت أمل أبيها، بتحولها من دراسة الطب إلى التمريض، تجد بعضه مع الطبيب أو كريم الذي تعمل معه، في المستوصف والمستشفى الميداني. وسناء التي تُصاب في حبها، برضوخ حبيبها لإرادة والدته، تستعيض عن الحب بصداقة زميلتها ريزفان وحبيبها. ولعل تعدد الخسارات التي مُنِيَت بها في مسارها، من تخلي الأب وفشل الحب وبعد الصديقة وموت الطبيب الصديق واجتياح الجائحة، هو ما يجعلها تعود إلى شقتها، ذات هزيعٍ أخير من الليل، في حالةٍ من عدم التوازن النفسي، في نهاية الرواية.
انكسارات نفسية
السلك الثاني في الرواية يتمحور حول شخصية الطبيب أو كريم المتحدر من أصول قروية الذي يؤثر العمل في الريف. وفي وقائعها: دراسة الطب في براغ خلال الحقبة الشيوعية، انخراطه في علاقة صداقة مع ألينا الجميلة وإنجابهما جويل، تطوعه للعمل الطبي في الحرب السندينية وعودته منها مثقلاً بالانكسارات، عودته وحيداً إلى بلاده بعد رفض ألينا العودة معه واحتفاظها بالطفلة، عمله في مستوصفات القرى النائية ومنها قرية العميمات التي يلتقي فيها بسناء، ترؤسه فريقاً طبياً لمكافحة الجائحة وتفانيه في العمل، حتى الإصابة بالفيروس والموت. هذه الوقائع بدورها تتكشف عن شخصية ترزح تحت أعباء الانكسارات النفسية والمرارة والفقد. وتحاول التحلل من هذه الأعباء بالانغماس في العمل، في الأرياف في مرحلةٍ أولى، ومن ثم في المستشفى الميداني في المدينة، وتدفع ثمناً لهذا الانغماس. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذين السلكين يتقاطعان مكانياً وحَدَثياً، في بداية الرواية ونهايتها، من خلال عمل الشخصيتين معاً في المستوصف والمستشفى، والانخراط في علاقةٍ تعويضية، بحيث تجد فيه تعويضاً عن الأب الخائب، ويجد فيها تعويضاً عن الابنة الغائبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلى ذلك، ثمة ثلاثة أسلاكٍ أخرى، أقصر بكثير من السلكين السابقين، لا يربط بينها أي رابطٍ سوى وجود بعض شخوصها في المكان نفسه، في ظروف قاسية، ودفعها الثمن نفسه؛ ففي بداية الثلث الثالث من الرواية، تبرز شخصية اليزيد من دوار إيسون، الوحيد لأمه ستي رقوش التي تربيه بدموع عينيها، بعد رحيل الزوج، ويجمع هو بين التعلم والعمل لمساعدة أمه، حتى إذا ما أصبح في سن الزواج، تخطب له رحوم زميلة الدراسة الابتدائية، المقيمة في دوار تزروت، وقبل أسابيع من الزواج، يسبقه كوفيد إليها، فيروح يندب حظه العاثر. وفي بداية النصف الثاني من الرواية، تزف يسرية، الموظفة في شركة متعددة الفروع، خبر حملها إلى زوجها حفيظ، المحاسب في مديرية الضرائب، بعد عشر سنوات من العقم، فيشعر بفرحٍ كبير ويقرر اصطحابها في رحلة سياحية احتفاءً بها، غير أنها تُصاب بالفيروس في اجتماع عمل، وتقضي نحبها، وبذلك، تكون خسارة الزوج مضاعفة. وفي بداية الخمس الأخير من الرواية، تطل علاقة ملتبسة بين الأم عيدة ووحيدها حمادي، المتشدد دينياً، الذي يتهم أمه بالجهل، ولا يؤمن بوجود الجائحة وعلاجاتها، حتى إذا ما أصيب بها ورفض التبليغ عن نفسه، تقوم أمه بذلك خوفاً عليه، ويؤخذ عنوةً إلى المستشفى، فتثور ثائرته، ويمتنع عن العلاج والطعام، ولا يسمح لأمه بزيارته، فترابط عند باب المستشفى تسأل الداخل والخارج عنه، حتى إذا ما أفلح الفقيه المرواني في إقناعه بتناول الدواء والطعام واستقبال أمه، تقوم الأخيرة بإعداد ما يشتهي وحيدها من الطعام، وتأتي به إلى المستشفى لتجد سريره خلواً منه.
وهكذا، لا يميز كوفيد في اختيار ضحاياه بين طبيبٍ يتفانى في مكافحته، وعروسٍ على عتبة الزفاف، وأم حاملٍ بعد سنوات من العقم، وولدٍ عاق بأمه. ولا يتورع عن إفجاع فريقٍ طبي برئيسه، وعريسٍ بعروسه، وزوجٍ بزوجته ووليده المنتظر، وأم بوحيدها. ولعل الروائي أراد من خلال هذه الأسلاك السردية والأحداث التي تنتظمها التعبير عن العجز البشري في مواجهة كوارث الطبيعة، من جهة، وعن زوال المسافات بين البشر حين يتعلق الأمر بالجوائح والأوبئة، من جهةٍ ثانية. ولعله يدعو الإنسان، بشكلٍ غير مباشر، إلى التواضع قليلاً والتخلي عن تشاوفه واستكباره.
تعدد أنماطي
لا يقتصر التعدد في "مسافات حب" على الحكايات والأسلاك السردية بل يتعداها إلى أنماط الكلام، فتجاور بين السرد والرسالة والخبر الصحافي والتغريدة الإلكترونية. لذلك، تشتمل الرواية على 47 وحدة سردية، و10 رسائل، و7 أخبار صحافية، و12 تغريدة. ولكل من هذه الأنماط وظيفته في النص الروائي؛ فتشكل الوحدات السردية إطاراً لنمو الأحداث وتطورها، وتقوم الرسائل بوظيفة نفسية تعبر عن حاجة أطرافها إلى التراسل بداعي التعويض والتفريغ والبوح والإفضاء، وتعكس الأخبار الصحافية الخلفية العامة للمشاهد الروائية، وتشي التغريدات الإلكترونية بحاجة كاتبيها إلى مواكبة الأحداث والتعليق عليها. وهكذا، يأتي التعدد الأنماطي ليواكب التعدد الحكائي في الرواية، وليعكس نزوعاً واضحاً نحو التجريب. على أنه لا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى قدرة مبارك ربيع على التصرف بالأسلاك والحكايات والأنماط باحترافٍ واضح، واستخدامه لغة روائية جميلة، قصيرة الجمل، سلسة التراكيب، أنيقة المفردات، هي إلى الإيحاء أقرب منها إلى التقرير، مما يجعلنا إزاء نص في الأدب الروائي، ويعزز روائية الرواية، ويختصر المسافة بين الكاتب والقارئ.