ملخص
الدعوة إلى نبذ الكراهية وتوجيه رسالة سلامٍ إلى كل الشعوب وعدم تجاهل الأساليب اللاعنفية والتركيز على حقوق الإنسان والحفاظ على مكتسبات الحداثة
أمَا زال للفلسفة من دور في عصر ما بعد الإنسان الذي اصطلحنا على تسميته بعصر الإنسال (الإنسان-الآلة)؟ أمَا زال للفلسفة، ذلك الكادر الألفيّ، من دورٍ في عصر الرأسماليّة المتوحشة والنيوليبرالية، في عصر الفضاء الافتراضي والتحولات الكبرى في الاقتصاد والسياسة والتقنيّة؟ ألم تمُت الفلسفة؟ ألم تنتهِ؟ ألم يُعلِن موتَها وانتهاءها فلاسفةٌ كبارٌ؟ ما هي هذي-الفلسفة التي نزعم أنّ لها دوراً رئيساً اليوم؟ وبعد حدث الإبادة في غزة؟ أرى أنّ عليّ أن أتناول ثلاثة عناوين:
ماذا عسى الفلسفة أن تكون اليوم؟ من هو الفيلسوف اليوم بما هو شخصيّةٌ قلِقةٌ؟ بمَ تفيدنا الفلسفة بعد حدث الإبادة في غزة؟ أيُّ دورٍ نافعٍ للفلسفة اليوم؟ ماذا عساها تكون الفلسفة اليوم؟
ما دامت الفلسفة تمَسُّ بالصميم كلَّ واحدٍ فينا، فهذا يعني أنّ هناك جدوًى وفائدةً من فعل التفلسف وأنّ هذا النشاط العقلي المزمِن ما زال ضروريّاً للحياة المعاصرة، بل وربما ازدادت ضرورته وأهمّيّته في ظل طغيان الرأسماليّة المتوحشة وسيطرة التكنولوجيا وانتشار الأصوليّات الدينيّة. إنّ تخلّي الفلاسفة عن مهمّتهم يترك فراغاً كبيراً يملأه أهل الشعوذة والخرافة حتى لو كانوا علماءَ طبيعيّين.
إنّ الخوض في ماهيّة الفلسفة لهو من المسائل الشائكة في الفلسفة لأنّه يتطلّب وجهةَ نظرٍ فلسفيّةً متماسكةً بإمكانها أن تحدِّد ماهيّة الفلسفة. من هنا فإنّ سؤال ما الفلسفة؟ سؤالٌ فلسفيٌّ بامتياز. وحدها الفلسفة تسأل عن ماهيّة الفلسفة. لذا حاولنا أن نتفكّر في ماهيّة الفلسفة حتى لا يتمَّ خلطُها مع كل شيءٍ عويصٍ وعشوائيٍّ ولا قيمةَ فلسفيّةً له. وأكثر شيءٍ يتميّز به القول الفلسفي هو الدّقة والتماسك على رغم ما يعتريه أحياناً من بعض الغموض لدى بعض الفلاسفة الذين يصرِّون على القول إنّ الفلسفة لا يمكنها أن تكون شعبيّة.
تبقى الفلسفة هذا القول الكلّي الكونيّ العالميّ الذي يتوجّه إلى الإنسان بما هو إنسان. وهو بعكس الأيديولوجيا مثلاً، يتوجّه إلى البشرية جمعاء، أي يتوجه إلى الإنسان بما هو إنسانٌ عاقلٌ ينهمّ بالأسئلة التي يطرحها عليه العقل بطبيعته. ويحاول، وإنْ عبثاً، الإجابة عنها. لكنّه، وعلى رغم محاولاته العنيدة، لم يستطع وربما لن يستطيع أن يضع حدّاً لتساؤلاته. وعليه، فإنّ الفلسفة هي أقرب ما تكون إلى طموحٍ لن يتحقَّق مطلقاً. إنَّها طرحٌ للمشكلات الفلسفية وإعادة طرحٍ لها، إنّها شغفٌ بالتأسيس وإعادة التأسيس. لكن ما يُميِّز النشاط الفلسفي من غيره من النشاطات العلمية والفنيّة أنّه يجيب عن تساؤلاته عبر أفاعيلَ خاصّةٍ به نسمّيها أفاهيم.
من هنا، ليست الفلسفةُ ضُمَّةَ أفكارٍ وإنْ كانت بمنزلة المصنع الدّائم لإنتاج أفكارٍ عن الكون والحياة والإنسان عبر أدواتها الخاصة. وعليه، فإنّ إنتاج الأفكار لا يكفي ليكون لدينا فلسفة، إذ لا بدّ من نظم هذه الأفكار في أنظومةٍ فلسفيّةٍ معيّنة. إنَّها، إذاً، طريقة الفيلسوف في التّفكير، التي بها ينظُم أفكاره نظماً فريداً في أنظومةٍ خاصّةٍ به عبر أفاهيمَ يبتكرها لهذه الغاية.
البادرة الفلسفية
لكلِّ فيلسوفٍ بادرةٌ فلسفيّةٌ يتميّز بها، فنحن لا نعرف سلفاً كيف يتفلسف الفيلسوف. لذا يفاجئنا كلُّ فيلسوفٍ بطريقته في التفلسف. وهذه الطريقة الجديدة في التفلسف والتساؤل هي ما يسمح بتجدّد القول الفلسفي واستئناف التفكير وجعل الفلسفة من جديدٍ ممكنة. في الفلسفة لا ينفصل المعنى عن المبنى. وعلى المعنى أن يتجسَّد في أسلوبٍ جديدٍ قادرٍ على التعبير عن الأفكار الجديدة. لذا نرى أنّ كلّ معنًى جديدٍ يتطلّب بالضرورة مبنًى جديداً. هكذا يبدو الفيلسوف كما لو كان غريباً في لغته إذ يخترع نوعاً من اللغة الجديدة، مفرداتٍ وتركيباً، داخل اللغة التي يفكّر ويكتب بها. والفيلسوف غريبٌ أيضاً في مجتمعه لأنّ الفلسفة في غير أوانها دائماً وثوريّةٌ على الدوام. كان فوكو يقول: "الفلسفة هي التّفكير بشكلٍ مختلف". لذا عند قراءتنا الفلاسفةَ، علينا أن لا نبحث عن آرائهم ومعتقداتهم ولا حتى عن أفكارهم، بل علينا أن نستخرج طريقتهم المبتكرة والمختلفة في التّفكير، أي طريقتهم في طرح المشكلات الفلسفيّة وصوغها والإجابة عنها.
الفلسفة فاعلةٌ في العمليّ. لكن بطريقةٍ غير مباشرة. ونحن ممّن يدَّعون أنَّه مع تغيير طريقة تفكيرنا يتغيّر معها كلُّ شيءٍ في المجتمع! لذا يسعى الفيلسوف حصراً إلى تغيير طريقة التفكير. وعليه، فأنا بوصفي قارئاً تاريخَ الفلسفة أبحث فقط عن طرق تفكير الفلاسفة لأحاول استثمارها وتوظيفها في إنتاج قولٍ فلسفيٍّ معاصرٍ ولا أبحث عن آرائهم ومعتقداتهم وأفكارهم أو بالأحرى لا يهمّني ذلك البحث. لذا نرى أنّ الفيلسوف الرّاحل موسى وهبه عاد إلى كانط واعتبر أنّ طريقته في التفكير لم تمضِ تماماً، أي ما زالت صالحةً لإنتاج حداثةٍ جديدة.
قلنا إنَّ الفلسفة تفكّر الكونَ والحياةَ والإنسانَ عبر الأفاهيم. يجيب الأفهوم الفلسفيّ، بما هو فعلٌ فكريٌّ محضٌ، عن مشكلةٍ فلسفيَّةٍ يبتدعها الفيلسوف ويصوغها أو يجدِّدها. وهو ليس بقضيَّة، بمعنى أنَّه ليس خبراً عن العالم ولا خبراً عن ما بعد العالم. لذا من غير الممكن أن يوصف بالصدق والكذب، أي بمطابقته للواقع أو بعدم مطابقته للواقع. ومع ذلك، هو يتمتَّع بالمعنى بعكس ما تذهب إليه الوضعية المنطقية وله حقيقةٌ خاصّةٌ به. وكل فيلسوفٍ يطرح مشكلاتِه أو مسائلَه أو معضلاتِه الفلسفيَّة ويحاول الإجابة عنها. يبدأ التفكير الفلسفي ما إن يطرح الفيلسوف مشكلةً جديدةً ويقوم بإبداع الأفاهيم التي تناسب هذه المشكلة. وجلُّ ما بإمكاننا أن نقوله عنه هو إنَّه قال قولاً فلسفيّاً بارزاً أو هامّاً أو لافتاً أو مثيراً للانتباه، لا إنَّه قال قولاً صائباً أو خاطئاً. فالكتاب الفلسفي ليس من أهدافه أن يُزوِّدنا بقناعاتٍ جديدةٍ أو بمعلوماتٍ جديدةٍ نجهلها، إذ قد نقرأ كتاباً كبيراً في الفلسفة من وزن (نقد العقل المحض) لكانط، ويستغرق الأمر سنواتٍ، ومع ذلك لا تزداد معلوماتنا عن الحياة والكون والإنسان في نهاية هذه القراءة. لكن، في المقابل، فإنّ هذا الكتاب الأساسيّ في تاريخ الفلسفة، والذي لا يمكن التفلسف حتى اليوم من دون المكوث فيه طويلاً، يُعيد تركيب ذهننا من جديد، ويعيد تنظيم عقلنا بطريقةٍ مختلفة، أي يجعلنا نفكِّر بطريقةٍ مختلفة، ويجعلنا ننظر إلى الأشياء من حولنا بطريقةٍ مختلفة.
بين الصواب والخطأ
بناءً على ما سبق، من العبث التّساؤل إنْ كان ديكارت أو كانط أو أيّ فيلسوفٍ كبيرٍ على صوابٍ أو على خطأ. فهذا التَّساؤل لا معنًى له في الفلسفة التي لم تعد تُقوَّم بمعياري الصّواب والخطأ، إذ أدخل إليها نيتشه معياري المعنى والقيمة وصرنا نحكم على القول الفلسفيّ بمقولاتٍ أخرى. لذا لا يمكنني أن أقول إنّ ديكارت أخطأ أو أصاب. لكن بإمكاني أن أقول عنه إنَّه قال قولاً بارزاً أو لم يقل، إنّه قال قولاً مثيراً للانتباه أو لم يقل،... كما بإمكاني أن أقول إنّه أحسن طرح المشكلة الفلسفيّة التي صاغها أو لم يُحسن طرحها، أو بكل بساطةٍ، كان بالإمكان طرحها بطريقةٍ مغايرةٍ أو طرح مشكلةٍ أخرى مكانها. فالفلسفة لا تسوق قضايا يمكن أن توصف بالصّدق والكذب، بل تبتكر أفاهيمَ فلسفيّةً تخلُق فضاءً فكريّاً مختلِفاً وعالَماً فكريّاً افتراضيّاً مختلفاً. وهي لا يمكن أن توصف بالصّدق والكذب كما أنّه لا قيمةَ علميَّةً لأفاهيمها التي يمكن القول عنها إنّها بمنزلة أفعالٍ فكريّةٍ يبدعها الفيلسوف من أجل الإجابة عن المشكلة الفلسفيّة التي يطرحها. وهذه الأفاهيم هي ما يمنع الفكر من أن يكون مجرّد رأيٍ أو مجرّد ثرثرة.
الفلسفة، إذاً، طريقةٌ معيَّنةٌ في التفكير، طريقةٌ معيَّنةٌ في طرح المشكلات وإعادة طرحها. وهي أيضاً طريقة معيّنة في العيش. ليست تفسيراً للكون وحسب، ليست تغييراً للعالم وحسب، إنَّها قبلاً أسلوب عيش، فنُّ وجودٍ، نمطُ حياةٍ، إنَّها نحتٌ للذات. ولكل فيلسوفٍ كبيرٍ طريقتُه الخاصة في التفكير. وما يهمُّنا من الأثر الفلسفي الخاص بكل فيلسوفٍ هو استخراج طريقته الخاصة في التفكير، هو استخراج طريقته الخاصة في التساؤل. وهذا ما يبقى خالداً عند كل فيلسوفٍ كبيرٍ ولا يسقط بمرور الزمان. نحن مثلاً ما زلنا نرجع إلى أفلاطون وأرسطو، لكن لا لنستفيد من معلوماتهما العلمية التي تجاوزها الزمن بحيث إنّ تلميذاً في المرحلة الابتدائيَّة يعرف أكثر بكثيرٍ ممّا يعرفه أفلاطون وأرسطو عن الكون والحياة والإنسان، بل لكي نتعرَّف إلى طريقة تفكير كل منهما، إذْ ليس بوسع أحدٍ في العالم أن يدَّعي، اليومَ، أنَّه يفكر أفضل من أفلاطون أو يفكِّر أفضل من أرسطو. وعليه، فالنصّ الفلسفيّ الكبير نصٌّ غنيٌّ ومكثّف، ويبقى عرضةً لقراءاتٍ مختلفةٍ ومتنوِّعةٍ باستمرار. لذا بإمكاننا أن نعود إلى أيّ من الفلاسفة السابقين وندمج مشكلاتهم الفلسفيّة في مشكلاتنا المعاصرة، مع ما يقتضي ذلك من تعديل وتحوير في هذه المشكلات حتى تنسجم مع الأفق الجديد الذي تدخل فيه، أي حتى تتّفق مع السِستام الجديد الذي نقوم ببنائه. يهتمُّ الفيلسوف بالمسألة أكثر ممّا يهتمُّ بالإجابة، فالفلسفة لا تزودنا بقناعاتٍ جديدةٍ بقدر ما تسألنا عن الطريقة التي بها كوّنا قناعاتنا. إنها طريقةٌ معينةٌ في التفكير حيث يعمد الفيلسوف إلى إعادة تقطيع الأشياء بطريقةٍ مختلفةٍ وغير مألوفةٍ، مما يؤدي إلى تغيير نظرتنا إلى الحياة.
وعليه، فالفلسفة إنْ لم تُوقِظْ ذهناً غافِلاً من سُباتِه، أو تُشكِّكْ في بداهةٍ اعتدنا عليها وسلّم بها العقل، أو تُضِئ منطقةً معتِمةً في أعماق تفكيرنا ووعينا، أو تفكِّر في ما لم يُفكَّر فيه بعدُ، أو تستكشف حقلاً مجهولاً يتجدّد به القول الفلسفي، أو ترسم آفاقاً فكريّةً تسمح بتجديد التفلسف واستئنافه، أو تَسْتَشْكِل (تُمَشْكِل) ما هو يوميٌّ لتؤسِّسه وترفعه إلى مستوى النظر والتحليل، أو تُعِدْ النظر في موروثٍ اعتبرناه نهائيّاً، أو تتنطّح للإجابة عن أسئلة العقل التي يطرحها بطبيعته حتى لو لم تكن لديه القدرة للإجابة عنها بشكلٍ نهائيٍّ، أو تزعزعْ عقيدةً راسخة، أو تنحتْ ذاتاً لتجعل منها تُحفةً فنّيّةً حياتيّةً رائعة، أو تغيّرْ في طريقة تفكيرنا وأسلوب عيشنا، أو تناصرْ حرّيةً، أو ترفع وصايةً فكريّةً تعيق انطلاق العقل وتحرّره، أو تحاربْ حماقةً، أو تقفْ في وجه الخرافة والشعوذة، أو تكشفْ عن الأساسات الهشّة لمذهبٍ ما، أو تجترحْ فنَّ وجودٍ أو نمطَ حياةٍ جديداً، أو تُبدِعْ أفهوماً خارِقاً أو تصغْ مسألةً فلسفيّةً جديدةً أو تجدِّدْ في مسألةٍ قديمة، أو تعارضْ سلطةً قائمة، أو تُحزِنْ أحداً، أو تقاومْ ابتذالاً، أو تفضحْ مألوفاً، أو تقوِّضْ أساساً، أو تؤسِّس فكراً، أو تشيِّدْ سستاماً فلسفيّاً حتى لو بقي مفتوحاً، أو تنظُمْ أنظومةً فكريّةً تُنجينا من شر الخواء، أو تبنِ عَمَارَةً فلسفيّةً حتى لو بقيت غير مُنجزةٍ تماماً، أو تسائلْنا عن الطريقة التي بها كوّنّا عقائدنا، أو تفكِّكْ أيديولوجيا تعيق تقدّمنا، أو ترسم إطاراً فكريّاً يجعل معارفنا وعلومنا ممكنة، أو تطرح سؤالاً عن المعنى لافِتاً ومثيراً للانتباه، أو تعطِ معنًى لحياتنا، أو تساعدنا على فهم العالم والفعل فيه، أو تساهم في بناء إنسان، أو تقف في وجه عودة البربريّة والتوحّش، أو تغيِّر في ما يمكن أن يعنيه التفكير اليومَ، أو بالأحرى تفكّرْ بشكلٍ مختلف، فهي مجرّد ثرثراتٍ ومماحكاتٍ ومجادلاتٍ عديمةِ النفع وعديمة التأثير للتميّز من الجمهور.
من هو الفيلسوف اليوم بما هو شخصيّةٌ قلِقة؟
بهذا المعنى، ليس الفيلسوف ابن زمانه وليس أيضاً لزمانه! بل لزمانٍ آخرَ آتٍ، نأمل بأن يكون أفضل! هو ذلك الغريب الذي يفاجئنا بظهوره ولغته وأفكاره وأنظومته، وكأنّه هبط علينا فجأةً من كوكبٍ آخر، ليوقظنا من سباتنا الذي نغُطُّ فيه من زمنٍ بعيد، ويعيد تذكيرنا بالاندهاش الذي غفلنا عنه! وليس من قبيل المصادفة أن يبدوَ الفيلسوف كإنسانٍ حالِمٍ بعيدٍ عن الواقع، ذلك لأنّ الواقع غالباً ما يثير الشفقة ويكون بائساً. هو ذلك الفارس النبيل الراقي بحسب دولوز، وموظّف الإنسانيّة جمعاء بحسب هوسرل، وهو الذي يداوي أمراض الحضارة والمجتمعات بحسب نيتشه. لذا نجد أنّ الفيلسوف غالباً ما يفتقد الحِس السياسي، بل غالباً ما يبدو عبيطاً وساذجاً في العمل السياسي والممارسة السياسيّة لأنّ الفلسفة في غير أوانها دائماً! وعليه، من الخطأ أن نسعى إلى تطبيق الفلسفة وتجسيدها في الواقع. فهي أقرب ما تكون إلى مثالٍ يفْلَتُ منَّا دائماً عندما نسعى إلى تجسيده. الفلسفة مثالٌ والسياسة مثَلٌ أو وجود. من هنا، فإنّها تحاول النهوض بالواقع البائس، لكن من دون أن يتمكّن هذا الواقع من استنفادها واللحاق بها. ما إن تتجسّد الفلسفة والأفكار الفلسفيّة وتتحقّق في أرض الواقع ولو بعد حينٍ حتى تُطرح أسئلةٌ جديدةٌ وتولد فلسفةٌ جديدة! لذا ليس بإمكان فلسفةٍ ما مهما كانت عظيمةً أن تدَّعي أنّها ختمت الفلسفة وأنهتها.
إذاً، فالفيلسوف هو ذلك الغريب في مجتمعه الذي استطاع أن يخرج من جميع الأطر الضيّقة مهما كانت واسعةً ليجعل من نفسه موظّفاً لدى الإنسانيّة جمعاء وليعمل من أجل الإنسان بما هو إنسانٌ يتمتّع بكرامةٍ لا تنفكّ عنه! أمّا من يبقى حبيس قوميّته أو شعبه أو دينه أو مذهبه أو بيئته، فإنّه لا يستحقّ لقبَ الفيلسوف. وتشتدّ الحاجة إلى الفيلسوف، ذلك الفارس النبيل، بعد كلّ مأساةٍ إنسانيّةٍ يقع فيها الإنسان متخلِّياً عن إنسانيّته وسامحاً لذلك الجانب المظلم في داخله بالخروج إلى العلن من دون أيّ ضوابط ليرتكب الفظائع!
وإذا تخلَّى الفيلسوف عن مرجعيّته الإنسانيّة ليعمل ويسخّر فكره من أجل جماعةٍ معيّنةٍ أو سلطةٍ معيّنةٍ أو سلطانٍ معيّنٍ بدلاً من أن يكون موظّف الإنسانيّة جمعاء الذي يعمل للإنسان بما هو إنسانٌ، فإنّه بذلك يكون قد خان صوفيا ولم يعد يحظى بالحُظوة في عينيْها وتحوّل إلى مجرّد طبّاخٍ أيديولوجيٍّ مهما كانت مكانته الفلسفيّة عالية (هابرماس نموذجاً(؟.
بِمَ تفيدنا الفلسفة بعد المأساة في غزة؟ أيّ دورٍ نافعٍ للفلسفة اليوم؟
وعليه، فإنّه لا يجوز، بأيّ شكلٍ من الأشكال وتحت أيّ ظرفٍ من الظروف، أن نعود إلى التوحش والبربريّة، وأن نعامل البشر كحيواناتٍ من دون كرامةٍ إنسانيّةٍ، أو أن نتخلّى عن حقوق الإنسان أو عن العدالة أو عن المساواة أو عن الحرية أو عن الدولة الحديثة! تلك هي الثوابت النهائية لحياتنا المعاصرة. ما يجري في غزة هو أكثر من جريمة حرب. إنّه إبادة شعبٍ بأكمله! هذا لا يعني أنّا نؤيِّد حماس في فكرها وأيديولوجيتها الدينية وفي جميع أعمالها. كنّا نود أن ننشِئَ دولاً حديثةً قويّةً تعمل من أجل شعوبها وتحترم إرادتهم، وتتولّى هي مسألة تحرير فلسطين. لكن ما بنيناه بعد فترةٍ طويلةٍ من الاستعمار هو مجرّد مافياتٍ دولتيّةٍ يرأسها رئيس مافيا أو عصابةٍ يعتبر أنّ البلاد ملكُه وأنّه يحقّ له أن يفعل الأفاعيل بشعبه. لذا نشأت منظمّاتٌ مثل حماس وأخواتها تولّت مهمّة التحرير من دون أيّ اعتبارٍ لإنسانيّة من هم خارجها وكراماتهم وآرائهم!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونتساءل: أمَا زالت الفلسفة ممكنةً بعد حدث الإبادة في غزة؟ في السابق كنّا نتساءل: كيف نتفلسف بعد هيغل؟ كيف نتفلسف بعد نيتشه؟ هل ذلك ممكن؟ هل هناك فلاسفة بعد هوسرل وهيدغر؟ اليومَ نتساءل: هل ما زالت الفلسفة ممكنةً بعد الوحشية والبربرية اللتين أظهرهما الإنسان في غزة؟ كيف نتفلسف؟ ولماذا؟ ألم تشتدّ الحاجة إلى الفلسفة اليوم؟ وكنّا اعتقدنا في السابق أنّ العقل يتقدّم دائماً وإنْ تراجع قليلاً. هو يمشي في طريقٍ صاعدٍ ويتجسّد حكماً في التاريخ. لكن، بعد فظائع الحربيْن العالميّتيْن في أوروبا- الفلسفة، أُصيب العقل في مقتلٍ وشعر بعارٍ لا حدود له. وكنّا اعتقدنا أيضاً أنّ أهوال هاتين الحربيْن ستمنع الإنسان من تَكرار المأساة. لكنّ المأساة تكرّرت. في فيتنام. في الجزائر. في يوغسلافيا. في رواندا. في سوريا. في العراق. في غروزني. واليومَ، في غزة! لكن بالصوت والصورة وعلى مرأى من العالم أجمع. نحن جميعاً نشعر اليومَ بالعار الشديد؛ لأنّنا لم نَحُل دون ارتكاب هذه الإبادة. نحن في لبنان وفي جميع الدول العربيّة والإسلاميّة لم نبنِ دولاً حتى تتخذ مواقفَ صارمةً ضد من يرتكب هذه الإبادة. وهذا يعود إلى أنَّ الشعوب العربية ما زالت تعيد إنتاج أنظمةٍ استبداديةٍ قمعية. وحتى المثقف العربي ما زال خادماً عند السلطان. لذا يحقّ لنا أن نتساءل: كيف يمكن لمثقّفٍ عربيٍّ، اليومَ، أن يطالب الغرب باحترام المبادئ التي يعلنها هذا الـغرب ويرفعها وينادي بها وهو، في الوقت ذاته، يؤيّد نظاماً استبداديّاً على رأسه طاغية؟
ونختم بالقول: لا شكّ في أنّ جرائم الحرب والإبادة التي ارتُكِبَت في غزة أعادت تذكير العقل البشري بأنّ الإنسان لم يتخلّص بعدُ من بهيميّته وبأنّ نسبة الحَيْوَنة عنده ما زالت مرتفعةً جدّاً، وبأنّه يمكن الانزلاق مجدَّداً وبسهولةٍ إلى التوحش والبربريّة والعودة إلى نوعٍ من الحروب الدينيّة التي لا تنتهي. لذا ومن بين النشاطات الكثيرة التي تضطلع بها الفلسفة، فإنّا علينا أن نركّز اليوم على إعادة إنشاء نوعٍ من الخطاب العقلانيّ الذي يتخذ من الإنسان ذي الكرامة مرجعيّةً له، بالتعارض مع كل أيديولوجيا تريد أن تفرض نفسها على الجميع حتى لو كانت ترفع شعار المقاومة.
خطوط حمراء
وعليه، نشدِّد على عدة أمور نعتبرها خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها في حياتنا المعاصرة:
1 -الكرامة الإنسانيّة التي لا تنفك عن جوهر الإنسان. فلا يجوز التعامل مع الآخر، أيّاً كان، بوصفه حشرةً أو حيواناً يحق لنا قتله أو إبادته أو دهسه أو معسه.
الوقوف موقفاً صارماً ضد عودة البربريّة والتوحش. فالفلسفة اليوم، يجب أن تنشط على هذا الصعيد وتتخذ هذا الموقف، بل وتفضّله مرحليّاً على بقيّة النشاطات الفلسفية. لا يجوز بأي شكلٍ من الأشكال العودة إلى عصور الظلام.
التركيز على حقوق الإنسان والحفاظ على مكتسبات الحداثة حتى لو تخلّى الغرب عنها. الحرية، العدالة، المساواة، حق تقرير المصير...
صياغة فلسفةٍ عقلانيّةٍ إنسانيّة كلّيّةٍ يونيفرساليّةٍ حتى يمكن للحياة أن تستمر على هذا الكوكب.
5 -إعادة تفعيل القول الفلسفي حتى لا تُترك الساحة لأهل الشعوذة والخرافة وللأصوليّات الدينيّة وغير الدينيّة التي لا تنتج سوى أيديولوجيّات مغلقة.
6 -العودة إلى بناء الدولة الحديثة. ما فشل فيه العرب أوّلاً وأخيراً كان فشلهم في بناء الدولة الحديثة.
7- الوقوف في وجه الاستبداد والطغيان في السلطة اللذين لا يحترمان الإرادة الشعبية ولا يسمحان بتداول السلطة.
8- الدعوة إلى نبذ الكراهية وتوجيه رسالة سلامٍ إلى كل الشعوب حتى يمكن للحضارة الإنسانيّة أن تستمر.
9- التمييز دائماً بين الفلسفة والأيديولوجيا حيث تُعتبر هذه الأخيرة مقبرة الفلسفة.
10- عدم تجاهل الأساليب اللاعنفية في الصراعات بين البشر كالتفاوض الذكي الذي يأخذ في الاعتبار موازين القوى العالمية.