Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تامارا ليمبيسكا ترسم ذاتها من خلال الآخرين

سيدة مجتمع ونجمة فاتنة تتوه بين الفن الحقيقي والإبداع الذي رآه كثر تزيينياً لا أكثر

بورتريه الدوقة بريشة تامارا دي ليمبيسكا (1925) (متحف الفن الحديث)

ملخص

سيدة مجتمع ونجمة فاتنة تتوه بين الفن الحقيقي والإبداع الذي رآه كثر تزيينياً لا أكثر

كثر من المؤرخين والنقاد الأكثر جدية من بين المهتمين بالفنون التشكيلية في القرن الـ20 لا يجدون غرابة في خلو أمهات الموسوعات من أي ذكر لتلك الرسامة التي كانت ملء السمع والبصر عند نهايات النصف الأول من ذلك القرن، ويكاد اسمها، تامارا ليمبيسكا، يبدو أول ما يخطر على البال لدى أي حديث عن ممارسة المرأة فن الرسم في العصور الحديثة، وذلك على رغم خروجها القوي عن "الموضات" الفنية في عصر التكعيبية والسوريالية والدادائية وغيرها من تيارات علمت هذا العصر لتتمسك خلال مسيرتها الفنية بتيار "الآرت ديكو" الذي يعتبره النقد الجدي مجرد فن تزييني. والحقيقة أن هذا التصنيف ظالم في حق ليمبيسكا لأنه يتجاهل الأبعاد الذاتية التي لا شك أنها تسم فنها ليوصلها في نهاية المطاف، ولكن بعدما تقدمت في العمر وفقدت وهجها ليس كفنانة فقط، بل كنجمة فاتنة من نجمات النصف الأول من القرن الـ20 لتخوض تياراً واقعياً، بل حتى بؤسوياً، ولكن بعيداً من فرنسا وأوروبا التي شهدت تألقها كفنانة وكامرأة وبعيداً من الجذور التي كونتها في الحالتين في مسقط رأسها البولندي ومجال نشأتها الروسي.

حياة أميركية

ففي مرحلة متقدمة من مسارها الحياتي والفني كانت تامارا ليمبيسكا قد انتقلت إلى الأميركتين لتنهل من مكانة جديدة وتوجهات فنية اعتبرتها تليق بها أكثر، لكن الأوان كان قد فات، وذكرها انطفأ إلى حد كبير بحيث بات كثر يعتقدون أنها رحلت عن عالمنا مع توقف الصحافة الأوروبية عن الحديث عنها. وتبين من ثم أن ذلك الحديث إنما ارتبط بالمرأة فيها. بل بالمرأة "الفضائحية" فيها بأكثر مما ارتبط بكينونتها الفنية. ومن هنا حين اختفت المرأة تامارا لتبرز تامارا الفنانة الحقيقية، تبخر وجودها. ولكن ليس تماماً، إذ، وفي الأقل، خلال الربع الأخير من القرن الـ20 أعيد اكتشاف الفنانة فيها من جديد ولا سيما منذ رحيلها في المكسيك عام 1980، ليستعاد عرض أعمالها بصورة أكثر جدية بكثير وتعود الكتابة عنها لتزدهر، ولكن ليس هذه المرة على شكل كتابات صحافية فضائحية، بل على شكل دراسات وكتب تحلل فنها. ولئن كان ماضيها قد شهد نوعاً من التركيز على بعض لوحاتها الأكثر ارتباطاً بنجوميتها الاجتماعية ولا سيما لوحتها الأشهر التي عرفت بـ"المرأة وسيارة البوغاتي" وكانت بورتريهاً ذاتياً لها، فإن النقد سرعان ما راح يركز هذه المرة على لوحات أخرى لها لا تخلو من عناصر إبداعية حقيقية، بل حتى لا تخلو من عناصر ذاتية صارخة حتى وإن كانت في حقيقتها بورتريهات تصور نجوماً اجتماعيين ونجوم سينما من معارفها أو حتى غرباء عنها وأثرياء ربما عبرت عن إعجاب مطلق بهم أو على العكس من ذلك، عن شيء من الازدراء تجاههم وتجاه الحياة التي رصدتها لديهم. ولكن الصحافة في الأزمنة المبكرة رفضت أن ترى فيها أكثر من ذلك.

انقلاب المواقف

ولسوف تنقلب المواقف تماماً لاحقاً إذ خرجت تامارا من أسطورة المجتمع لتدخل ملكوت الفن. وهي دخلته إلى درجة أن عدداً من النقاد المنصفين لن يتوانوا في نهاية الأمر عن ربط اسمها، كفنانة باسم سيد الفن في القرن الـ20 بيكاسو وفي الأقل بالنسبة إلى سمات فنية معينة منحت فنها جدية ومكانة. ولعل النقاد الأكثر جدية أدركوا ذلك من خلال مقارنة ستبدو مع الوقت مقنعة بين واحدة من لوحاتها وواحدة من أشهر لوحات بيكاسو. لوحتها هي "بورتريه الدوقة دي لاسال" التي رسمتها في عام 1925، أما لوحة بيكاسو المعنية فهي "بورتريه جيرترود شتاين" التي رسمها بيكاسو في مرحلة مبكرة بعض الشيء من مسيرته. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الذي يجمع بين اللوحتين سوى أن كلتيهما، ومن خلال كونها بورتريهاً رسمه الفنان لواحدة من الأصدقاء، إنما أراد تكريم تلك الصديقة، فيبرر المقاربة بين لوحتين رسمتا مع فارق زمني يناهز 20 عاماً، من دون أن يكون ثمة تشابه في الأساليب أو في اللعبة التلوينية أو حتى من دون أن يؤثر أن أحدهما تأثر بالآخر؟

من ريتا إلى بيكاسو

الحقيقة أن "التشابه" كان في مكان آخر تماماً. فإن قيض لمشاهد اللوحتين أن ينظر إليهما في وقت واحد، سيدهشه ما سيكتشفه من أن كلتيهما تعبر عن ذاتية الفنان الذي رسمها بقدر، وبما بأكثر مما تعبر عن "الموديل" المرسوم. أي بكلمات أخرى أن الدوقة التي رسمتها تامارا في لوحتها تكاد تشبه وليس فقط في السمات الخارجية تمارا نفسها، تماماً كما أن جرترود في لوحة بيكاسو تبدو للوهلة الأولى وكأنها بيكاسو نفسه وقد أعار صديقته الأميركية تلك كثيراً من ملامحه الجوانية، بل البرانية أيضاً إذا ما أردنا الدقة. وهو أمر تحدث عنه كثيراً النقاد والمؤرخون الذين انكبوا دائماً على دراسة الطابع الذاتي الذي كثيراً ما طبع البورتريهات التي رسمها بيكاسو لمعارفه وفي الأقل خلال المراحل الأكثر واقعية في مساره الفني. ومن هنا ذلك الحديث الذي استجد متأخراً نحو نصف قرن وأكثر عن عدد لا بأس به من بورتريهات رسمتها تامارا لآخرين وأخريات عرفت كيف ترسم نفسها وربما ما تتمنى أن تكون عليه من خلال أولئك الآخرين. وهو توجه لا شك أن "بورتريه الدوقة دي لا سال" يعبر عنه خير تعبير، بحيث لم يكن أحد معيدي الاعتبار إلى الفنانة في تامارا حين تعامل مع هذه اللوحة لإدخال رسامتها في ملكوت الفن وتحديداً من خلال المقارنة بين تعبيرها عن ذاتها وتعبير بيكاسو عن ذاته. فهل نسمح لأنفسنا هنا بمواصلة هذه المقاربة في نوع من تفضيلية تبدو هرطقية هنا، ولو بالنسبة إلى الذين ما اعتادوا الحديث عن تامارا إلا بوصفها نجمة مجتمع تصح مقارنتها بريتا هايوارث، لا ببابلو بيكاسو؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بين الداخل والخارج

سنفعل بالتأكيد هنا ونقول إن الرأي المجرد والمنصف لا يمكنه إلا أن يفتي من دون تردد بأن لوحة "الدوقة" تبدو برانياً أجمل وأقوى من لوحة بيكاسو من منطلقات عديدة. ولنوضح ذلك! فمن الناحية الشكلية قد تكون لوحة بيكاسو وحتى في تعبيرها الذاتي عن جوانية الرسام من خلال البرانية التي تلتقي القواسم المشتركة بينه وبين موديله، أقوى تعبيراً في عمق الأمور من لوحة ليمبيسكا، غير أن هذه الأخيرة - وهنا أيضاً في التقاء الرسامة بموديلها، تبدو وكأنها لا ترسم الدوقة بقدر ما ترسم الكيفية التي يتعين في الزمن الحديث أن تكون المرأة عليها. والمرأة المعنية هي هنا الرسامة نفسها بطلتها الواثقة بقوتها المتطلعة لأن تكون مختلفة إلى حد كبير عن الإرث الأنثوي المتراكم عبر عصور من تبعية المرأة للرجل، خالقة هذه المرة كينونة خاصة بها تستحوذ في النظرة والهندام والوقفة ما كان متعارفاً على أنه ذكوري بدءاً تحديداً من تلك النظرة، والثقة التي تسم الوقفة على سجادة حمراء ذات دلالة. كما من قوة النظرة التي بها تتفرس الدوقة في العالم المحيط بها بحيث تبدو وكأنها تخبر هذا العالم أشياء كثيرة عن مكانتها الجديدة في المدينة التي تبدو ملحقة بها في خلفية المشهد.

مجموعات خاصة

من المؤكد هنا أن التلوين الغالب في اللوحة الذي قد يشير إلى العالم السينمائي كما كان يبدو في ذلك الحين (أيام الأسود والأبيض)، يربط فن تامارا بنجومية للسينما يؤكدها وجود السجادة الحمراء وتفرد الدوقة في هيمنتها على المكان، ولكن من الواضح في المقابل كيف أن الحجم الذي تشغله الدوقة في ارتفاع اللوحة وعرضها (161 سم مقابل 96 سم) فيما، وهي تجابه نظرة رسامتها كما نظرة مشاهدي اللوحة، تعلن فرادتها مهيمنة على المكان الذي تجعله اللوحة لها في المجتمع. وفي الحقيقة لا بد من الإشارة أخيراً إلى واقع أن هذه اللوحة ليست معروضة في متحف أو في مكان عام، بل هي مثل الغالبية العظمى من لوحات تامارا ليمبيسكا الأخرى تنتمي إلى مجموعة خاصة وهي من خصائص حضور فن هذه الرسامة الذي لم يجد بعد مكانته في المتاحف بل في ديكورات البيوت، ويرى كثر أن الوقت قد حان للاعتراف العام بفنها الجديد عبر عرضه في المتاحف ليعتبر أكثر من مجرد فن للزينة في البيوت الموسرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة