ملخص
هل تتمتع بريطانيا بترف عدم المشاركة في مبادرات التقاط الكربون؟
في محادثات الاجتماع السنوي الـ28 للأمم المتحدة في شأن المناخ "كوب 28" (Cop28) الذي انعقد في دبي أخيراً، كان بيل غيتس أحد المشاركين الذين شكلوا محور الانتباه ونالوا إعجاب الجميع. كان المؤسس المشارك لشركة "مايكروسوفت"، علماً أنه الآن مساهم ملتزم في الأعمال والمبادرات الخيرية وناشط في حقلي الصحة والبيئة، يجذب الحشود حيثما حل. ولم يكن هؤلاء ممن يترصدون المشاهير، بل مشاركين في "كوب 28"، وكثير منهم خبراء في المجال، وقد لفتتهم معرفة غيتس الواسعة بشؤون المناخ وغيرته عليها، وأرادوا أن يستمعوا إلى آرائه وأفكاره.
في الحقيقة، أظهر غيتس القدر عينه من التعطش إلى الحلول المناخية شأن تعطشه سابقاً إلى تطوير برمجيات إلكترونية شائعة الاستخدام طوال تلك السنوات. وفي إحدى الجلسات الحافلة بالحضور، تحدث إلى رئيس "مايكروسوفت" براد سميث وعميد كلية الاستدامة في "جامعة ستانفورد" الأميركية، آرون ماجومدار.
دار موضوع النقاش حول الأهمية التي تكتسيها عملية إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، أو (اختصاراً "سي دي آر" CDR)، باستخدام تكنولوجيات من قبيل التقاط الكربون. وتشير التقديرات إلى أنها تسهم في تحقيق 10 في المئة من أهداف خفض مستويات انبعاثات الكربون في العالم، لذا لا ينبغي الاستخفاف بها.
صحيح أننا داخل أوساط المهتمين بتغير المناخ، نجد من ينظر إلى تقنية التقاط الكربون باعتبارها عملية تحايلية ومكلفة. ولكن ليس غيتس.
في الحقيقة، شدد غيتس على أنه على رغم أن إزالة ثاني أكسيد الكربون ليست سوى حلقة واحدة من أحجية خفض مستويات انبعاثات الكربون في العالم، فإنها تبقى قطعة أساسية في المستطاع تنفيذها الآن، وليس بعد عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن. "الأجدر بنا أن نتوخى الوضوح التام بأن الحل يكمن في خفض مستويات الانبعاثات الكربونية وإزالة الكربون، وليس أي خطوة أخرى"، قال رجل الأعمال.
الإنجازات التكنولوجية
ورداً على شواغل تتعلق بالكلفة الكبيرة لهذه العملية، عقد سميث مقارنة مع شركة "مايكروسوفت". قبل 30 عاماً، كانت أسعار ألواح وشرائح "ذاكرة الوصول العشوائي" (RAM "رامات" الكمبيوتر) وتخزين الذاكرة المستخدمة في الحواسيب تشكل تحديات كبيرة أمامنا، بيد أن الإنجازات التكنولوجية أدت إلى تراجع كبير في هذه الكلف.
وللحق، ينفق غيتس أمواله في هذه المشاريع التي يؤديها ويتحدث عنها، إذ يستثمر مبالغ كثيرة في إزالة الكربون. يدعم رجل الأعمال شركة "غرافيت" Graphyte في جنوب أركنساس في الولايات المتحدة، والتي من المتوقع أن تكون المنشأة الكبرى في العالم لإزالة الكربون.
ويستخدم المصنع، الذي بدأ تشغيله الأسبوع الجاري، نشارة الخشب الغنية بالكربون ومخلفاته من مناشر قريبة لإنتاج مواد عضوية متمثلة بأعداد من "الطوب" يمكن تخزينه تحت الأرض طوال قرون عدة من الزمن. وبحلول نهاية العام، تعتزم "غرافيت" تجميع وتخزين ما يكفي من هذا الطوب العضوي الذي يوازي حجمه حجم علبة الأحذية لإزالة 15 ألف طن متري من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي. وفي عام 2025، ترمي إلى إزالة 50 ألف طن أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي تلك المرحلة، ستصبح "غرافيت" أكبر شركة لإزالة الكربون في العالم. وتعتزم الوصول إلى سعر أقل من 100 دولار للطن.
إضافة إلى التقاط الكربون وتخزينه (اختصاراً "سي سي أس" CCS)، يضخ غيتس أيضاً مبالغ مالية في تقنيات إزالة الكربون الأخرى. ومن بينها، هذا الالتقاط المباشر لثاني أكسيد الكربون من الهواء ("دي أي سي" DAC)، والفحم الحيوي، الذي ينتج مادة تشبه الفحم تخزن الكربون في التربة، والتقنية الكهروكيماوية لالتقاط الكربون، وذلك كله عبر شركة ناشئة يدعمها غيتس اسمها "فيردوكس" Verdox.
وفي المجموع، ضخ غيتس مئات الملايين من الدولارات في تقنيات إزالة الكربون من الغلاف الجوي.
في الأسبوع الجاري أيضاً، أصدرت "المفوضية الأوروبية" (EC) خطتها لخفض صافي انبعاثات التكتل. وتتمثل إحدى الخطوات الأساسية لتحقيق هدفها في التقاط 450 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون كل عام، بحلول 2050. وبغية الوصول إلى هذا الرقم، تتطلع "المفوضية الأوروبية" إلى الاعتماد على مجموعة من تكنولوجيات إزالة الكربون، من بينها تكنولوجيات التقاط ثاني أكسيد الكربون وتخزينه والالتقاط المباشر لثاني أكسيد الكربون من الهواء.
وفي هذا الوقت، ما انفكت درجات حرارة الكوكب تسجل ارتفاعات مستمرة. وقد أعلن يناير (كانون الثاني) 2024 رسمياً شهر يناير الأكثر حرارة على مستوى العالم منذ بدء التسجيلات، إضافة إلى أنه الشهر الثامن على التوالي الذي يسجل درجات حرارة قياسية.
ولكن هل غيتس، والخبراء في "المفوضية الأوروبية"، وغيرهم... كلهم على خطأ؟ ربما تجد أنهم مخطئون إذا ما بنيت وجهة نظرك على ما تشهده بريطانيا، إذ يخفض حزب العمال تعهده السنوي باستثمار 28 مليار جنيه استرليني في مشاريع الطاقة الخضراء الصديقة للبيئة. وللأسف، لا يغرد حزب كير ستارمر المعارض وحيداً. كذلك تتراجع حكومة المحافظين [حكومة ريشي سوناك] عن التزاماتها المتعلقة بالمناخ، وتمنح تراخيص جديدة للتنقيب عن النفط والغاز في بحر الشمال، وتؤجل تنفيذ الإجراء الذي يحظر أي مبيعات جديدة للسيارات العاملة بالبنزين.
بمعنى آخر، ربما تفوت بريطانيا على نفسها فرصاً كثيرة. معلوم أن غيتس، في المقام الأول، رجل أعمال. إنه عبقري في عالم المال والأعمال يكتشف الفرص ويأخذ المجازفات. لقد فعل ذلك ببراعة على مدى عقود من الزمن.
إزالة الكربون
وإذ يدعم غيتس إزالة الكربون، فإن ذلك بلا ريب ينبع من نوايا حسنة. ولكن وراء ذلك أيضاً هدف ثانوي يتمثل في الظفر بمبلغ طائل من المال.
سيكون على دول الاتحاد الأوروبي وحدها التقاط ما يصل إلى 450 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً بحلول 2050. ومن المرجح أن تنخفض كلفة إزالة الكربون وتخزينه بواسطة التقنيتين "التقاط ثاني أكسيد الكربون وتخزينه" أو "الالتقاط المباشر لثاني أكسيد الكربون من الهواء" في حدود 100 إلى 300 دولار للطن في شركة "غرافيت". اضرب هذا المبلغ في 450 مليوناً وستحصل على رقم مهول. ولا ننسى أن هذا ليس حدثاً يتيماً يطرأ مرة واحدة فقط، بل إنه يتكرر كل عام... ولا تقتصر هذه الحقيقة على الاتحاد الأوروبي فحسب، بل تشمل بقية العالم أيضاً.
وفي هذه الحالة، تبدو حماسة غيتس معقولة بدرجة أكبر. إذا كانت هذه هي الكلفة، فلتكن. لقد أنقذ رجل الأعمال العالم وجنى ثروة أخرى.
يدرك غيتس هذه الحقيقة، ومثله أيضاً المفوضية الأوروبية، كذلك "صندوق النقد الدولي" وجهات أخرى. المؤسس المشارك لشركة "كربون كابتشر اسكتلندا" Carbon Capture Scotland، الرائدة في مشاريع إزالة الكربون في المملكة المتحدة، ريتشارد نيمونز، يقول في هذا الصدد: "العلم واضح. سيتعين علينا بصورة جماعية أن نزيل من الغلاف الجوي مئات الملايين من أطنان الكربون في إطار زمني قصير جداً. ومن طريق التقاط الكربون، تتاح للمملكة المتحدة واسكتلندا الفرصة لتكونا رائدتين على مستوى العالم من خلال تكنولوجيات تتوافق مع الدراسة العلمية للظروف المناخية ومعتمدة من جانب (المفوضية الأوروبية) و(صندوق النقد الدولي) و(مجموعة العشرين) وغيرها كثير من المؤسسات".
أما هنا في بلادنا فزعماؤنا السياسيون منشغلون جداً بالصراع على انتزاع المقاعد من بعضهم بعضاً، بل والاستعداد لمعركة انتخابية غير بناءة، بالنظر إلى الصورة الكبرى.
هكذا، بدلاً من الاستثمار في التكنولوجيا الخضراء ووضع رؤية في هذا الإطار، يتخبط سياسيونا في تسجيل النقاط والتفكير القصير المدى. ولكن الفرصة ما زالت قائمة: في مقدور بريطانيا اقتناصها، ودعم العلم، والعزم على مواصلة المسيرة، وجني الفوائد المالية أيضاً. ما عدا ذلك، يبدو توقيت حزب العمال معاكساً، ويحمل أصداء القرار الكارثي الذي اتخذه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق غوردون براون ببيع أكثر من نصف احتياطات الذهب في المملكة المتحدة بأقل من قيمتها الحقيقية.
في المقابل، ثمة اللاشيء. وفي السنوات المقبلة، ستصبح المملكة المتحدة دولة مستوردة في ما يتصل بالصناعات الخضراء، في حين كان في وسعنا أن نكون دولة مصدرة ونستمتع بالمكافآت المهولة المترتبة على إظهار بعض من البصيرة والشجاعة في هذا المجال. كان في وسعنا تغيير نظرتنا الاقتصادية. بقية دول العالم تتقدم إلى الأمام، ونحن نتخبط في مكاننا. إننا إزاء نمط مألوف جداً بالنسبة إلينا ومحبط تماماً.
© The Independent