ملخص
كان هولدرلن يريد أن يقول لقارئه إنه إذا كان قد كتب قصيدة أو مسرحية أو ما شابه ذلك، فإنه كتبها ضمن إطار ظروف معينة، وضمن سياق فكرة معينة كانت حين الكتابة مسيطرة عليه
إذا كان الشاعر الألماني فردريخ هولدرلين أرفق إلى نصوصه الأساسية سواء كانت شعرية أو نثرية، مسرحية أو فلسفية أخرى توضحها بشكل جعل من تلك الممارسة التي قد يأخذها البعض عليه واحدة من أكثر عادات الكتاب فائدة ومتعة للقراء. فإن بعض دارسيه يرون أن من الصعوبة، على أية حال القول إن تلك الأعمال كانت تتسم بصعوبة تحتم وجود مثل تلك التفسيرات.
ولعل الأجدر بنا هنا القول إن تلك النصوص التوضيحية إنما كانت في الأصل تهدف إلى تبرير كتابة الشاعر لما كتب أكثر مما تهدف إلى التوضيح، ولكن لما كان الخط الفاصل بين التوضيح والتبرير رفيعاً للغاية، قرئت تلك النصوص على أنها توضيحية.
في الأصل، إذاً، كان هولدرلن يريد أن يقول لقارئه إنه إذا كان قد كتب قصيدة أو مسرحية أو ما شابه ذلك، فإنه كتبها ضمن إطار ظروف معينة، وضمن سياق فكرة معينة كانت حين الكتابة مسيطرة عليه.
ومن الواضح أن من يقرأ هذه النصوص بالتوازي مع النتاجات الإبداعية التي تتحدث عنها، ستكون لديه فكرة عن العمل مختلفة إلى حد كبير عن الفكرة التي تستحوذ على من يقرأ العمل لذاته. من دون أي خلفيات توضيحية أو تبريرية.
والحال أن السجال سيظل دائماً عميقاً ومتشعباً بين الطريقتين، ومن ثم بين أنصار القراءة الإبداعية الخالصة ومن يواجههم من أنصار القراءة المعرفية. وهو سجال ليس هنا مكانه بالطبع، ذلك أننا سواء أكنا من أنصار هذه الطريقة أو تلك، يظل أن الشاعر هولدرلن كتب نصوصه التبريرية ولا يمكننا تجاهلها بأي حال من الأحوال.
انبهار بعالم الإغريق
من أكثر هذه النصوص شهرة في مسار هولدرلن النص الذي كتبه تعليقاً على مسرحية كتبها ثلاث مرات خلال سنوات عدة، لكنها مع هذا لم تكتمل أبداً، إذ في كل مرة كان هولدرلن يصل إلى نقطة معينة من المسرحية ويريد أن يتجاوزها، يقف تاركاً العمل جانباً، ليستأنفه بعد حين ثم ليتوقف مرة أخرى. وهكذا بقيت المسرحية غير مكتملة وإن كانت، بالصيغة التي وصلت إليها، تعتبر من أجمل مسرحيات هولدرلن.
المسرحية التي نعنيها هنا هي "موت أنبادوقلس" التي استعار هولدرلن موضوعها من كتاب ديوجين اللائرسي حول حياة الفلاسفة والكتاب القدامى. ولعل الدافع الأول الذي حدا بالشاعر الألماني الذي عاش بين القرنين الـ18 والـ19 إلى كتابة هذه المسرحية كان انبهاره بالعالم الإغريقي القديم، وبمفكريه وتقاليده.
ونحن نعرف أن أنبادوقلس كان أحد الفلاسفة الماقبل سقراطيين، وكان من أوائل المفكرين العقلانيين الذين جعلوا فلسفتهم قائمة على أساس توحد الإنسان والطبيعة. ونعرف كذلك أن أنبادوقلس مات انتحاراً.
في التقاليد القديمة تقول الحكاية إن أنبادوقلس انتحر بأن ألقى بنفسه من فوهة بركان الإتنا، احتجاجاً على عدم إيمان الشعب بتعاليمه وأفكاره الحلولية هذه، وأملاً في أن يؤدي موته على تلك الشاكلة إلى لفت نظر هذا الشعب إلى تلك الأفكار.
أما بالنسبة إلى هولدرلن، الذي استند هنا إلى ديوجين، فإن الموضوع يتجاوز مسألة الحلولية بين الإنسان والطبيعة، لأن أنبادوقلس تجاوز هذا البعد ليعلن نفسه، انطلاقاً منه، سيد الكون في زمن كان الإنسان، قبل مجيء الأديان التوحيدية، لا يزال يبحث عن آلهة تجيبه عن أسئلة الوجود والحياة. بالنسبة إلى أنبادوقلس كان الجواب عنده، ويتعلق تحديداً بالاتحاد المتناغم بين الإنسان والطبيعة في معنى أن موت الإنسان لا يعني أكثر من عودته الموقتة إلى حضن الطبيعة الأم واندماجه فيها من جديد، بعد أن كانت الطبيعة تمظهرت في شكل موقت على صورة ذلك الكائن البشري الذي كانه قبل أن يموت.
لا بكاء على الأطلال
قد لا يكون الاختلاف كبيراً بين الطرحين. ومع هذا لم يفت الأمر أن يشكل حقاً على هولدرلن الذي حاول في المرات الثلاث التي انكب فيها على كتابة المسرحية وإعادة كتابتها (في السنوات 1797 و1798 و1800)، أن يوصل "مأساة" أنبادوقلس إلى نهاية منطقية فعجز. وربما يجوز هنا أن نفتح هلالين لنقول إن هولدرلن في عام 1801، وبعد عام من فشله الثالث في إتمام "موت أنبادوقلس"، عاد إلى عالم الإغريق ثانية، ولكن هذه المرة في قصيدة له اشتهرت لاحقاً عنوانها "الخبز والنبيذ"، نبذ فيها ما كان اعتاده الرومانسيون من بكاء على الأطلال، كي يعلن إيمانه بالمقبل الذي سيولد من رحم الحاضر كاستكمال للمسار التاريخي للكون، حتى اللحظة التي تتم فيها معجزة التحام الليل بالنهار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الواضح أن ما أراد هولدرلن قوله في هذه القصيدة إنما كان دعوة الإنسان للعودة للإيمان. وهي الفكرة التي كثيراً ما أراد التعبير عنها من خلال مسرحيته عن أنبادوقلس، ففشل. ونعود هنا إلى هذه المسرحية، التي ستقدم مرات ومرات بعد توقف هولدرلن عن كتابتها، ودائماً ناقصة لا تكتمل، بل في أحيان بأشكال موسيقية، ثم لاحقاً خلال النصف الأخير من القرن الـ20 في شكل سينمائي، حين حولت، إلى فيلم تجريبي له مكانته الآن في تاريخ السينما.
نحو إيقاظ الناس من غفلتهم
إذاً، مسرحية "موت أنبادوقلس" التي كتب هولدرلن صيغها الثلاث وهو في أواسط عمره ومساره الإبداعي كانت في الأصل عملاً فكرياً يستند إلى ما رواه ديوجين عن حياة وانتحار ذلك الفيلسوف الكاهن والعراف والعالم الذي عاش خلال القرن الخامس قبل الميلاد. الانتحار الذي يبدو لنا أشبه بالفداء منه بسلوك درب العدم، ذلك أن أنبادوقلس إذ انتحر، لم يكن يتوخى التعبير عن يأسه، بقدر ما كان يتوخى إيقاظ الناس، ودفعهم من خلال تأمل ما قام به إلى البحث بأنفسهم عن الإجابات التي لم يتمكن هو من العثور عليها.
على هذا النحو يمكننا في مسرحية هولدرلن هذه أن نقيم تماثلاً واضحاً بين شخصية أنبادوقلس وشخصية أنطيغونا. فهو مثلها جعل للأخلاق مكانة تسمو على السلطة والقوة، مصوراً في طريقه أن السعي الأفضل والأجدى والأشرف كذلك للدنو من الألوهية إنما يكمن في فعل مجابهة الموت.
من هنا لا تعود مسألة دنو الفيلسوف من تصوره للألوهية فعل جنون أو غرور واستعلاء على البشرية، بل فعل فداء وتضحية يطلب عن البشرية الاقتداء بالفادي. وواضح أن سبب توقف هولدرلن عن استكمال هذه المسرحية على رغم تجاربه الكثيرة له علاقة مباشرة بعدم قدرته على الوصول مع منطقه إلى نهايته. فالجزء الذي كتبه من المسرحية يطرح السؤال ويرى الطريق للوصول إلى الجواب الوجودي الأساس، غير أنه حين يخيل إليه أن الجواب أصبح في متناوله يتراجع، ليس لأنه لا يرى أن من واجب الفن الوصول إلى إجابات، بل لأن الجواب المنطقي الوحيد، إن عبر عنه، سيكون كافياً لتدميره شخصياً، إذ في مثل هذه الحال، سيتساءل القارئ أو المتفرج: كيف تعطينا، إذاً، مثالاً، أنت، كإنسان معاصر، عاجز عن اتباعه ما دامت الأسئلة نفسها تقلقك وتخيفك؟
إلى شاشة السينما النخبوية
من هنا يمكن النظر إلى مسرحية "موت أنبادوقلس" على أنها من أكثر أعمال فردريش هولدرلن (1770 - 1843) ذاتية، حتى وإن كان هذا الكاتب الذي أمضى حياته في كنف رعاية أمه واجداً من الصعوبة عليه بمكان التأقلم تماماً مع العالم الخارجي، كتب معظم أعماله انطلاقاً من ذاته الملتهبة.
وهولدرلن درس اللاهوت باكراً في توبنغن، لكنه استنكف عن الدخول في سلك رجال الدين، بل فضل أن يمتهن مهنة تدريس أولاد الأثرياء، ثم عمل في رعاية صاحب مصرف عشق زوجته وكتب عنها نصوصاً عدة. وهو بعد أن عاش في بوردو الفرنسية زمناً عاد لألمانيا سيراً على الأقدام لتظهر عليه من عام 1802 بوادر اضطراب عقلي رافقته من عام 1807 حتى رحيله. ولكنه مع هذا كتب خلال سنوات جنونه الأولى عدداً من النصوص وترجم "أنطيغونا".
أما أشهر أعماله فتبقى قصائده ورواية "هيبريون" ثم "موت أنبادوقلس" بالطبع التي لا بد أن نعود للإشارة إلى أنها عند نهايات القرن الـ20 قد حازت على نوع من الشعبية لدى نخبة هواة السينما الفكرية والتاريخية من خلال أفلمة السينمائيين جان ماري سترب، ودانييل هوييه لها في ذلك الفيلم الذي حتى وإن لم يحقق نجاحاً تجارياً كبيراً فإنه ضمن مكانة لمخرجيه في تاريخ السينما النخبوية.