Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شراء الموانئ... هل يسهم دولياً في تشكيل نظام جغرافي سياسي جديد؟

معادلة "المصالح والأهداف والاستراتيجيات الكبرى" جعلت دولاً كبرى تتحرك نحو الحصول على موانئ بحرية لأهدافها الخاصة

سيكون اعتماد الدول الكبرى ليس فقط التمركز بالقواعد العسكرية بل الوجود في الموانئ البحرية أيضاً (أ ف ب)

ملخص

تكثف الدول الكبرى فرص وجودها في الموانئ الاستراتيجية من خلال صور وأشكال متعددة وعبر اتفاقيات ثنائية لتحقيق مصالح خاصة

يأتي السباق على إدارة أو امتلاك موانئ في دول أجنبية بالوقت الراهن في سياق صراعات الجغرافيا السياسية الجديدة في المنظومة العالمية والإقليمية، مثلما يجري من قِبل بعض الدول، وهو ما يؤكد أننا أمام مرحلة جديدة في إطار مساعي الدول، للحصول على منافذ استراتيجية للعمل أو تحقيق مصالح خاصة، وفي إطار من الأهداف والمصالح الاقتصادية التي تسعى الدول لتحقيقها، وهو ما برز في سياقات متعددة، ومن خلال مناطق استراتيجية متباينة.

أهداف منضبطة

تشير رغبة الدول الكبرى، على رأسها الصين وروسيا وتركيا والولايات المتحدة وإسرائيل وغيرها، إلى اعتمادها على مقاربة الاقتراب من البحر، إذ العمل إمّا على إنشاء قواعد عسكرية مثلما هو حادث في القرن الأفريقي، أو دول حوض النيل، أو العمل من خلال موانئ لبعض الدول، وهو ما جرى في الحالة الإماراتية، وحضورها في جنوب اليمن، وكذلك في القرن الأفريقي.

وكذلك اتجاه الصين إلى الوجود في دول الجنوب، وقيام إثيوبيا بالاقتراب من الصومال، حيث ميناء بربرة البحري، إذ وقّع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ورئيس أرض الصومال موسى بيهي عبدي، في الأول من يناير (كانون الثاني) 2024، مذكرة تفاهم تمهّد الطريق إلى حصول إثيوبيا على منفذ بحري على البحر الأحمر، إذ تتيح المذكرة لإثيوبيا الاستحواذ على حصة غير محددة من ميناء "بربرة" الواقع على البحر الأحمر في أرض الصومال "صومالي لاند"، والحصول على مساحة بحرية تبلغ 20 كلم.

وأقرّ الاتفاق لإثيوبيا استئجار منفذ بحري في أرض الصومال لمدة 50 عاماً، لاستخدامه قاعدة عسكرية أو لأغراض تجارية، كما ستقوم أديس أبابا ببناء البنية التحتية اللازمة لاستخدام هذا المنفذ، وبناء ممر بحري، وعلى رغم كل ما قيل في الاتفاق الذي أبرم والاعتراضات بشأنه، فإنه جرى وكشف بعمق عما تخطط له بعض الدول الإقليمية في هذا الإطار، ومن خلال ما تتحرّك به لتحقيق أهدافها الاستراتيجية المهمة في هذا السياق.

اتفاقات محددة

سيسهل هذا الاتفاق لإثيوبيا حركة التجارة مع منطقة الجنوب والجنوب الشرقي لإثيوبيا، وربط المنطقة الشرقية الصومالية (الإقليم الصومالي الإثيوبي) بأديس أبابا من خلال استثمارات بـ 80 مليون دولار، وهي عبارة عن طريق بري بطول 500 ميل تقريباً يربط بين الميناء ومدينة توجوشال الحدودية الإثيوبية، ما يوفر منفذاً تجارياً إضافياً للتجارة الإثيوبية، ومن ثمّ مساعدة إثيوبيا على زيادة تبادلاتها التجارية والاقتصادية مع كل دول العالم، بخاصة في ما يتعلق بزيادة صادراتها المتنوعة إلى الخارج، وسيخفض تكلفة استخدام ميناء جيبوتي (مليارا دولار سنوياً) لتسهيل عملياتها التجارية، بخاصة أن جيبوتي تمر بها 95 في المئة من حركة التجارة الإثيوبية مع العالم الخارجي، حيث يعد ميناء "بربرة" منافساً قوياً لميناء جيبوتي.

الواضح أن تحرك بعض الدول لتوظيف حساباتها مرتبط بسياسات مهمة واستثمار لوضع دولي مختل، وعدم وجود رؤية، أو مقاربة محددة باستثناء التحرك في دوائر المصالح، وهو ما عملت عليه دول الخليج العربي، بخاصة دولة الإمارات، وتحركاتها النشطة منذ سنوات، وتوظيف مصالحها في هذا الإطار.

كما عملت دول مثل تركيا على توظيف مصالحها واستثمار الأوضاع المضطربة في السودان فدخلت إلى سواكن بالاتجاه نحو ميناءي بورتسودان وسواكن، وعقدت اتفاقاً شاملاً في إطار العمل على دوائر متعددة، إذ تخطط لإنشاء قاعدة عسكرية عليها على رغم أن سواكن نفسها جزيرة أثرية لا يمكن أن تعطى لدولة أجنبية تريد أن تسترجع نفوذ العثمانيين في المنطقة، ومن ثمّ فإن هذا التوسع المخطط له الهدف منه الهيمنة والسيطرة على الموانئ البحرية من خلال بناء خط بحري يبدأ من تركيا مروراً بموانئ السودان وإريتريا والصومال وجيبوتي، هذا فضلاً عن وجود تركيا في غرب القارة، بخاصة في غينيا وساحل العاج وبوركينا فاسو.

أنماط جديدة

وفي الوقت الراهن سيكون الاعتماد ليس فقط على التمركز في القواعد العسكرية فقط، بل الوجود في الموانئ البحرية، التي لها قيمتها الاقتصادية والاستراتيجية، حيث حركة التجارة الدولية والإقليمية، التي تحقق أيضاً انتشاراً من نوع خاص، بدليل أن المخطط الإثيوبي الخروج من حالة العزلة باعتبارها دولة حبيسة إلى دولة منفتحة على العالم، ولديها فرصة للتعامل مع العالم انطلاقاً من ثوابتها، ومسعاها للتحول إلى دولة منفتحة على العالم الخارجي، بعد أن شيّدت مشروع سد النهضة.

بالتالي لديها التوجه المخطط له للعمل في نطاقات أوسع، وعبر استراتيجية متعددة المراحل. ومن شأن حصول إثيوبيا على منفذ بحري في أرض الصومال أن يسهم في تخفيف التوتر السياسي الذي أصاب نمط العلاقات الإثيوبية - الإريترية خلال الفترة الأخيرة، بسبب مساعي إثيوبيا للحصول على منفذ بحري في دول الجوار، وستسعى أديس أبابا خلال الفترة المقبلة، للمطالبة بالانضمام إلى منتدى البحر الأحمر، بصفتها دولة لها منفذ على البحر الأحمر، وفاعلاً مؤثراً في حركة التجارة الدولية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في سياق متصل، هناك دول تعمل في أطر من المعطيات الجديدة، مثل إسرائيل التي تريد التحول إلى شراء جزيرة كاملة في قبرص بهدف التحرك في مواجهة أية تهديدات يمكن أن تعلن عن نفسها، وتستهدف الموانئ الإسرائيلية بعد أن تعطّلت موانئ أسدود وإيلات البحري والتجاري (فكرة شراء ميناء في قبرص من أجل فتح ممر بحري إلى غزة خطوة متقدمة جداً على التفكير الأميركي الحالي بإنشاء رصيف بحري لاستقبال المساعدات الإنسانية في قطاع غزة)، إضافة إلى أن شراء الميناء في قبرص سيتيح لإسرائيل السيطرة على الترتيبات الأمنية، وبذلك يمكنها إجراء تدابير أمنية لكل البضائع التي ستصل غزة عن طريق البحر، كما ترتبط الخطوة بالمخاوف من حدوث حرب مع "حزب الله"، واحتمال استهداف ميناء حيفا، ومن خلال تصوّر مدروس بأن شراء الميناء يمكن أن يصبح مع الوقت نقطة مهمة في مشروع الممر الاقتصادي، إذ سيتم نقل البضائع من الهند إلى إسرائيل مستقبلاً، وسيتم نقلها من الموانئ الإسرائيلية إلى قبرص، ومن هناك إلى أنحاء أوروبا.

بالتالي فإن فتح منفذ بحري في الشمال أمام سواحل المتوسط هدفه الرئيس سيكون العمل في اتجاهين الأول توظيفه إعلامياً وسياسياً بحجة إدخال المساعدات إلى قطاع غزة بديلاً عن المعابر التجارية مع قطاع غزة، ومعبر رفح مع مصر وكارني وإيريز في الشمال. الثاني، المساعدة في تشغيل المنافذ البحرية والموانئ، بخاصة أن ميناء حيفا ليس وحده الكافي، الأمر الذي يتطلب سرعة التحرك، وإيجاد البديل، وهو ما تجريه الأجهزة المعنية الخاصة بهيئة الموانئ، والطرق، ما يؤكد الخيارات الرئيسة في هذا الإطار، وأن إسرائيل جادة في مسارها قبل أية ترتيبات أمنية ستجرى في القطاع أو خارجه وحماية من الصواريخ الحوثية، وأي خطر آتٍ من البحر الأحمر.

فرص متاحة

معروف أن اتجاه الدول الكبرى إلى توظيف فرص وجودها في الموانئ الاستراتيجية يجري من خلال صور وأشكال متعددة وعبر اتفاقيات ثنائية، وبعضها يجري في سياق غير مشروع مثلما جرى مع الاتفاقيات التي أبرمت مع صومالي لاند كدولة غير معترف بها، كما أن ما جرى من توظيف الميليشيات الحوثية يؤكد هذا الأمر، في ظل استمرار الأزمة اليمنية، التي تراوح فرص حلها ما بين التقدم والتعثر، وهو الأمر الذي أطلق العنان للميليشيات الحوثية لتكون لاعباً قوياً ومركزياً، فيما يجري من تطورات في منطقة البحر الأحمر، وما يجاوره من مناطق التماس وصولاً إلى مضيق باب المندب والخليج العربي.

في المقابل، أعلنت بعض الدول مواقف مغايرة لما يجري، ولحسابات محددة، وهو ما عبّر عنه على سبيل المثال وزير النقل المصري، كامل الوزير، بأن موانئ مصر ليست للبيع، ولا للاستحواذ، لكن يمكن الترحيب بفرص الاستثمار في الإدارة والتشغيل، فيما أعلنت الإمارات رغبتها في شراء حصة في ميناء تركي رئيسي في مؤشر إضافي على التقارب بين الإمارات وتركيا، الأمر الذي يشير إلى الاستثمار في كيان يؤسسه صندوق الثروة التركي لإدارة ميناء إزمير على ساحل بحر إيجه.

الخلاصات الأخيرة

من الواضح أن هناك نظاماً جغرافياً سياسياً جديداً يتشكّل في الوقت الراهن، وأن الدول الكبرى تتحرك في هذا الإطار، ما يؤكد بالفعل أهمية توظيف هذه المقاربة في إطار الأولويات التي يجري التعامل معها، بخاصة أن هناك موانئ استراتيجية يمكن أن توفر لبعض الدول الكبرى حضوراً سياسياً واقتصادياً في إطار حركة التجارة الدولية، وكذلك في المنظومة الدولية التي تتشكل عبر خطوط الغاز والنقل اللوجيستي، ومن خلال إمدادات الطاقة من وإلى دول العالم، حيث يجري توظيف معطياتها في هذا السياق، لتحقيق مكاسب كبرى وفق المخطط له جيداً.

ويقيناً، فإن النظام الجغرافي السياسي، الذي يعلن عن نفسه بات واقعاً رئيساً انطلاقاً من توظيف وسائل النقل من وإلى دول العالم، بخاصة أن الدول الصغيرة التي تملك على شواطئها مجالات ونطاقات استراتيجية تعمل على توظيف إمكاناتها بالفعل، ومن خلال معادلة: المصالح، الأهداف، الاستراتيجيات الكبرى التي تتحرك فيها الدول الكبرى في الوقت الراهن، بخاصة أن الوفرات والقدرات المالية تحتاج إلى قوة تنظيمية فاعلة، ووسائل تحرك عاجلة، وهو ما نجحت الدول الكبرى في العمل عليه، وتوظيف قدراتها بالفعل، وذلك على مستوى حركاتها، وفي مساراتها المتعددة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل