ملخص
تسرد الكاتبة دلال قنديل في روايتها "شطوب في المرآة" قصصاً من الجنوب اللبناني، بما تحمل من تناقضات هي تناقضات الواقع السياسي والاجتماعي والحزبي. ولا يغيب الحب والعلاقة الإشكالية عن هذه القصص. وتنقل أجواء الصراع الذي تشهده الحياة الجنوبية، بين تيارات وأفكار تتعدد وتختلف.
قد لا يكتفي الإعلامي، أو الإعلامية، بتسليط الضوء على وقائع ضاغطة في محيطه القريب أو البعيد، فينتقل من التدوين الخارجي والموضوعي إلى بناء الواقعة والأحداث بنياناً يدنو فيه من الإنسانيّ والحميم والجماعي، في آن واحد، ويضفي على كلامه قدراً من الجمالية. أليس هذا أدباً؟ نعم إنه كذلك. وهذا ما قامت به الكاتبة والإعلامية اللبنانية دلال قنديل، وقد صدرت لها حديثاً، عن دار الرافدين، رواية بعنوان "شطوبٌ في المرآة"، وهي باكورتها الراسمة فيها خطاً يتنامى في القادم من الأيام.
تحكي رواية "شطوب في المرآة" سيرة شخصيتين محوريّتين، وهما "مريم" ابنة أحد التجّار الميسورين من قرية "عين الجبل" المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلّة، و"عامر" المناضل اليساري الملتزم بعقيدته العلمانية، والمدرّس المحبوب من تلاميذه والنّشط، وصاحب السجالات المشهودة التي يفحم فيها الشيخ خضر، الوافد حديثا من النجف الأشرف. أما الحقبة الزمنية التي تجري فيها الأحداث، فواقعة بين ستينيات القرن الماضي، وأوائل عشرينيات القرن الواحد والعشرين. ومؤدّى ذلك أنّ هذه الفتاة الجميلة والنبيهة "مريم"، ولمّا كان والدها الميسور والمحافظ قد حرمها من التعلّم لكونها أنثى فقط، في حين أغدق على ولديه حتّى أنهيا تعليمهما الجامعي، أحبّت عامراً هذا، بعد أن بات حضوره الى بيتها لغرض تعليمها القراءة والكتابة أليفاً ومحبّباً.
ومن ثمّ ينكشف للقرّاء أنّ عامراً هذا كان ساعياً الى تنظيم صفوف المقاومة الوطنية، في الجنوب، بالتعاون مع المنظمات الفلسطينية التي أخذت تنشط في الجنوب انطلاقاً من فتح لاند، قبيل اتفاق القاهرة (1969) وبعيده. غير أنّ تنامي نفوذ الحزب الديني (الإسلامي) الذي لم تسمّه الكاتبة، عقّد الأمور، وحوّل كثيراً من مظاهر العيش والاختلاط (بين الجنسين) التي كانت سائدة منذ زمن بعيد، إلى مجرّد موانع ومحرّمات، في مقابل تفسيحات محدودة. وبينما الجدال كان جارياً على أشدّه بين عامر والشيخ خضر، واتّهام الأخير عامراً بإفساد آراء الأجيال وتوجيههم وجهة علمانية إلحادية، وقعت مريم في غرام عامر، وحبلت منه في علاقة جنسية حارّة. ولما صارحته مريم بما جرى لها، دعاها الى إجهاض الجنين فوراً، مدّعياً بأنه مجرّد صديق! ومع ذلك، أمكن مريم أن تتخطّى صدمتها بمبادرة أنعشت آمالها وآمال بنات القرية ونسائها بالخروج من سجن المنزل؛ بأن افتتحت معملاً للنسيج والألبسة بتشجيع من أبيها، إلاّ أنّ الأحداث والصراعات من حولهنّ حالت دون أحلامهنّ...
ولئن كنّا نكتفي بإيراد هذا الجزء من السرد، من دون البقية، عملاً بالتشويق اللازم لقراءة العمل الروائي الرصين، فلا بدّ من الإشارة الى عامل الحزب الإسلامي الذي سوف يتولّى طرد الشيخ خضر، ذي الميل المحافظ والمعتدل، واضطهاده وصولاً الى نفيه من قريته، لينتهي أمره ناسكاً زاهداً في الدنيا وقارئاً أشعار المتصوّفين على قبر "مريم" حبيبته، وزوجته الثانية التي لم ينعم بالعيش معها...
التوثيق والإحياء
ما يجدر التنويه به، أول الامر، في رواية "شطوب في المرآة" هو هذا الإعداد السابق، توثيقاً، وتقميشاً، وتدويناً للأخبار والوقائع في سياقها الزماني والمكاني، ومن ثمّ تجريدها من الأسماء المخصوصة والدالة على مرجعياتها في الواقع، والعمل أخيراً على بناء شخصيات نموذجية بعدد أصابع اليد الواحدة، بل أقل منها، ووضعها من جديد في إطارها المتناسب مع شخصيتها المرسومة.
وعلى هذا، فإنّ نجاح الكاتبة دلال قنديل في تجربتها الروائية الأولى، أنها أفادت من مرحلة التوثيق، مضافاً إليها تجربتها الشخصية، من أجل ان تنطلق لمرحلة الإحياء، أي إكساب أوصاف الشخصيات وأعمالهم، وتأمّلاتهم، وصراعاتهم، مقادير من الجمال، والحيوية، والتفرّد، والتخييل، والعمق في الوصف الخارجي والجوّاني، فيحوّلها جميعاً الى عملٍ أدبيّ ذي حضور. ثمّ إنّ الكاتبة الأديبة، ولدى تولّي ذاتها العليمة إدارة الاحداث، تبدي مرونة في الانتقال من مناخٍ ومشاعر، الى مناخ آخر؛ من حال الفرح والحياة القروية الضاجّة والأليفة، الى حال الحزن، والانقباض، والإحباط، والشعور بالفجيعة، والاستسلام لمفاعيلها، وهي تصف انعكاسات كلّ مناخ على الشخصية المعنية.
"لياليهما المشحونة بالحبّ والمرح كانت تأخذهما إلى تخيّلاتٍ تمنحُ مريم مشاعر من الفرح حتى تدمع عيناها. ينتشيان معاً كلحظة برقٍ عابرة، تهزّ كيانهما، تأتي في غفلة منهما. تحلّقُ مريم في تلك البرهة إلى عالم آخر. ينتعشُ قلبُ عامر بالدمِ المتدفّق إلى وجهه الأبيض، ويصطبغ بلون زهريّ، يحضنها بشدّة ضاغطاً رأسها الى صدره..." (ص:93)
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتوسّط الكاتبة دلال قنديل، في تجربتها الروائية الأولى، أجيالاً عدة ممن تناولوا الريف الجنوبي قبلها، وصنعوا مثالاتهم وشخصياتهم فيه؛ فعلى سبيل المثال، لا تأنف قنديل من إلقاء أضواء ساطعة على الصراعات المحتدمة في ذلك الريف، بين اتجاهات يسارية وعلمانية، وبين اتّجاهين دينيين في طائفة واحدة متصارعين (محافظ ومعتدل/ ومتطرّف أصولي)، ثمّ بين هؤلاء جميعا وبين المنظمات الفلسطينية الداخلة الى النسيج اللبناني. وفي هذه الحال، يجد الفرد المتحرر أو ذو الكرامة (مثيل مريم، وعامر) نفسه مسلوب الإرادة، وآيلاً الى السحق والإتباع، أو النبذ من الجماعة.
ولربما تكون رواية الكاتبة دلال قنديل، في خطّ الكتّاب الذين يصرّون على كشف واقع الصراع الأهليّ، السلمي والعنيف أحياناً، والإشارة الى عامل التزمّت الديني في الجنوب، وما يحدثه من تمزّقات في النسيج اللبناني المتعدد، والمتنوّع التوجّهات.
لا نقول إنّ الكاتبة دلال قنديل أنجزت فرادة أسلوبها الروائي من روايتها الأولى "شطوب في المرآة" وإن أمكنها توجيه الانتباه إلى معاناة شريحة كبيرة من الفتيات المحرومات من التعليم -زمن الستينيات، ليس اليوم- ممن لم يغادرن قراهنّ، وكنّ مجبرات على تحمّل تبعات الصراعات المشار إليها أعلاه، إلى جانب تحمّلهنّ تبعات التمييز بينهنّ والذكور. وإنما نقول إنها أحرزت الخطوة الأولى والراسخة في الأميال الكثيرة الباقية أمامها، عبر تجارب روائية مقبلة.
وأولى علامات الرسوخ، لغة سرد متماسكة، ومحبوكة، وضبط لجريانها في إيقاع دالّ يحاكي جريانه في الواقع، أو يقاربه. إلى ذلك، يجدر بالقارىء التنويه ببنية الرواية الموزّعة ثمانية وعشرين (28) فصلاً أو مشهداً، تؤرّخ لمحطّات الشخصية المأساوية (مريم) منذ طفولتها وحتّى موتها بمرض سرطان الرّحم، وحتّى ما بعد موتها. وعلى الرغم من وقوع الفصول الثلاثة الأخيرة من الرواية في خانة التدوين أو التحقيق حول الريف، في إطار سرديّ غائم، فإنّ الكاتبة افلحت في رسم لوحة لجانب من رؤيتها واقع الريف الذي خبرته وتعرّفت عليه في آن واحد.